وأمّا ثانيا ، فيرد عليه كلّ ما أوردنا عليه في القول الأوّل من كون النفي بمعنى النهي ، بناء على أن يكون مبنى هذا القول أيضا كون النفي بمعنى النهي ، كما شرحناه مفصلا.
وخلاصة الكلام : أنّه لا يجوز الخروج عمّا هو ظاهر الجملة إلاّ من جهة ملزمة لذلك ، وقد عرفت ما هو الظاهر منها وعدم جهة ملزمة للخروج عن ذلك الظاهر ، فلا مناص إلاّ عن اختيار ما اختاره الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره من أنّ ظاهر الحديث هو الاحتمال الثالث الذي ذكرناه من نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر. (١)
والحاصل : أنّ هذه الاحتمالات الأربع كلّها ممكنة في عالم الثبوت ، ولكن في مقام الإثبات بينها طوليّة وترتيب.
فالمراتب كعدد الاحتمالات أربع مراتب ، لا تصل النوبة إلى الثاني إلاّ بعد تعذّر الأوّل ، وهكذا على حسب الترتيب.
الأوّل : هو رفع الضرر الذي ينشأ من قبل الحكم الشرعي حقيقة وواقعا برفع سببه أي الحكم ، وهذا هو المعنى الظاهر من هذه الجملة ، والظاهر من معنى كلمة « لا » الموضوعة لنفي الجنس بالنفي البسيط مقابل الجعل البسيط ، والمراد من البسيط ـ في كليهما ـ أن يكون المنفي والمجعول نفس وجود الشيء. ويشهد لما ذكرنا ـ من ظهور كلمة « لا » لذلك ـ أنّهم اتّفقوا على أنّ خبر « لا » النافية للجنس هو مفهوم « موجود ». ودائما محذوف لمعلوميّته.
فإذا تعذّر هذا المعنى ـ أي النفي الحقيقي لا ادّعاء ـ فتصل النوبة إلى الثاني ، أي نفى الحكم بلسان نفي الموضوع ، وهذا النفي نفي تركيبي ، مقابل الجعل التركيبي ، أي نفي الحكم عن هذا الموضوع. فقول الفقهاء « لا شكّ لكثير الشكّ » في الحقيقة عبارة عن نفي حكم الشكّ ـ وهو البناء على الأكثر ـ عن شكّ كثير الشكّ. وإن شئت قلت :
__________________
(١) « المكاسب » ص ٣٧٢.