مقام الصحو والتمكين الذي يقدر صاحبه أن يخبر من الحق وأسراره بعباده لا يكون شفيعه في موازين العلم ، وهذا حال تبينا محمد صلىاللهعليهوسلم حيث قال : «أنا أفصح العرب (١)» ، «وبعثت بجوامع الكلم» (٢) ، وهذا قدرة قادرية اتصف بها العارف المتمكن الذي بلغ مقام مشاهدة الخاص ومخاطبة الخاص ، وكان موسى في محل السكر في ذلك الوقت ، ولم يطق أن يعبر عن حاله كما كان ؛ لأن كلامه لو خرج على وزان حاله يكون على نعوت الشطح عظيما في آذان الخلق ، وكلام السكران ربما يفتتن به الخلق ؛ لذلك سأل مقام الصحو والتمكين بقوله (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) ؛ لأن كلامه كان من بحر المكافحة والمواجهة الخاصة التي كان مخصوصا بها دونه.
قال أبو بكر بن طاهر : هو أفصح مني لسانا ؛ لأنه لم يسمع خطابك ولم يخاطبك ؛ فهو أفصح مني لسانا مع الخلق ، كيف أكون معهم فصيحا وسمعت لذة كلامك؟ وكيف أخاطبهم مع مخاطبتك؟ وكيف أجعل لهم وزنا مع ما أدبتني وخصصتني به؟ (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) معهم وأحسن بيانا لهم ، إني لم أستلذ مخاطبة بعدك ، ولم ألتذ بكلام غيرك وأنشد :
هل كنت تعرف سرّا يورث الصّمما |
|
أصمّني سرّهم أيام فرقتهم |
(قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩)فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى
__________________
(١) ذكره العجلوني في كشف الخفا (١ / ٢٣٢).
(٢) رواه البخاري (٣ / ١٠٨٧) ، ومسلم (١ / ٣٧١).