والجن الذين وصفهم الله بقوله : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) ، واحذر يا صاحبي من هذه الوساوس ، واعرف شأنها وأصلها وفرعها ، فإن الوساوس تأتيك في جميع المقامات ، وفي بعض المواجيد والأحوال ، فينبغي أن تعرف مكائده وأسلحته ومواقعه ووساوسه ، واستعن بالله في جوابه وعلاجه ؛ حتى تبلغ إلى مقام مشاهدة الحق بالحق ، ويغني عنك بشريتك وأوصافها ، ويكون نورا بنوره ، مقدّسا بقدسه عن كل خاطر وعارض ، فإن عرفت حقيقة ما ذكرتك فصرت إماما للمتّقدين ، وسراجا للمقتبسين.
قال عمرو المكّي : الوسواس من وجهين : من النفس ، والعدو ، «فوسواس النفس» : بالمعاصي التي يوسوس فيها العدو كلّها غير طبعي ، فإنّ النفس لا توسوس بهما ، أحدهما : التشكيك ، والآخر : القول على الله بغير علم ، قال الله في وصف الشيطان : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (١٦٩).
وقال يحيى بن معاذ : «الوسوسة» : بذر الشيطان ، فإن لم تعطه أرضا وماء ضاع بذره ، وإن أعطيته الأرض والماء بذر فيها ، فسئل ما الأرض والماء؟ فقال : الشبع أرضه ، والنوم ماؤه.
وقال يحيي : إنما هو جسم وروح وقلب وصدر وشغاف وفؤاد ، «فالجسم» : بحر الشهوات ، قال الله : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) ، و «الروح» بحر المناجاة ، و «الصدر» : بحر الوسواس ، قال الله تعالى : يوسوس (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) ، و «الشغاف» : بحر المحبّة.
قال الله تعالى : (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) ، و «الفؤاد» : بحر الرؤية ، قال الله تعالى : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (١١) ، و «التقلّب» : بحر العمل.
وقال سهل : «الوسوسة» : ذكر الطبع.
وقال : إذا كان القلب مشغولا بالله لم يصل إليه الوسواس بحال.
وقال عبد العزيز المكّي : يوسوس في فؤاد العامة ، وقلوب الخواص لو دنا منها إبليس لاحترق.
صدق الشيخ فيما قال ، ولكن في سر السر ، وغيب الغيب ، ونور النور ، وسنا السنا ، ولطف اللطف ، وشهود الشهود ، ودنو الدنو ، ووصال الوصال ، وبقاء البقاء وعيان العيان تكون قلوب العارفين والموحدين والمحبّين والمريدين والمؤمنين في قبض العزة منقلبة بين