قال : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) ، وفي البين بدا وخفا بقوله : (وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) ، فلما عاينوه سكروا بجماله ، واتّصفوا بجلاله ، واتّحدوا بفردانيته ، وصاروا وحدانيين ، كادوا أن يدّعوا الوحدانية ، فقطعهم الحق عن سرّ الأحدية (١).
وقال : (اللهُ الصَّمَدُ) ، فانحسمت أطماعهم عن الوحدانية حين بانت لهم أنوار وحدته ، فسبحوا في بحار ذاته وصفاته ، وطلبوا الخروج إلى سواحل العرفان ، فناداهم أين أنتم لو تسبحون أبدا في بحر الذات وبحر الصفات ، لم ينتهوا من بحر حقائق الألوهية ، فإن بحر الذات والصفات واجد الكل في حيّز سرادق وحدانية الأفعال ، غائبة في الصفات
__________________
(١) اعلم أن (هو) مبهم ما لا تعيّن له في الخارج ؛ بل عهديته في الذّهن ، وإنما يريد إبهامه ما بعده من تفسيره ؛ وهو الله أحد ، فهو قبل التفسير مبهم في الخارج ، ومفسّر في نفس الأمر ، وإنما جاء الإبهام من حيث المراتب ، ففيه إشارة إلى قوله تعالى : «كنت كنزا مخفيّا ، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» ، فإنه تعالى كنزا مخفيّا قبل خلق الخلق ، فكان ظهوره بذاته في ذاته ؛ فكان خلق الخلق كالتفسير له بحيث كان ظاهرا لغيره أيضا ، فالأول : مرتبة الجلاء ، والثاني : مرتبة الاستجلاء ، فمن قصر نظره ؛ لم ير العالم إلا كالضمير المبهم ، ومن كاشف عن حقيقة الحال ؛ لم يكن عنده مبهم ، فإن الحق تعالى كشف عن ذاته وصفاته وأسمائه ؛ ولذا قال : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فالهويّة كانت ظاهرة للحق قبل خلق الخلق ، وباطنة للخلق ، وبعده كانت ظاهرة للخلق أيضا ، فباطن الحق ظاهر الخلق ، وبالعكس على هذا نفس الإنسان الكامل ؛ فإنه بمنزلة ضمير هو في إبهامه وتفسيره ، وليس تفسيره إلا الكرامات العلمية المتعلّقة بحقائق الذات ، والصفات ، والأفعال ؛ وهو القرآن الفعلي ، والضمير المفسّر ، والهويّة الظاهرة بآثاره ، والباطنة بحقائق ذاته. ومن أنكره ؛ فقد أنكر القرآن ، ومن أنكر القرآن ؛ فقد أنكر الحق بذاته وصفاته ، فإن القرآن ذات وصفة ، فإن الصفة لا تقوم إلا بالذات ، ولا تنجلّي إلا بالمحلّ ؛ فلذا قال بعض الأكابر : أنا القرآن والسبع المثاني ، ففيه أسرار الحروف والكلمات ، والآيات والسور ، فإنه حرف عملي روحانية ، وآية مثالية ، وسورة جسمانية. وهذا مراد من قال : من أراد أن يجلس مع الله تعالى (واصطنعته لنفسه) وجعله مجلى لصوّر كمالاته ، فمن رآه فقد رأى الحق ، ومن عمى عنه فقد عمى ، وكم ترى في كل عصر من يقبّل المصحف صباحا ومساء بناء على أنه كلام الله ، ويستحقر الإنسان الكامل مع أنه سرّ ذلك المصحف ، ولو كان عالما به فاستحقره ؛ لمسخ مسخ الأمم الأولى ؛ لكن قد يعذر بالجهل ، وذلك من رحمة الله تعالى بعباده ؛ ولذا ستر الله الأقطاب في كل عصره إلا عن أهل المعرفة. فالمحجوب ينظر إليهم وهو لا يبصرهم ؛ وإنما يبصر البشر ، والمكاشف ينظر إليه ويبصرهم على أنهم صورة الحق تعالى. وليس لله تعالى تجلّ إلا في مرائيهم وعلى صورهم ، ومن ينظر إلى الله وهو مجرّد عن النعوت ، فقد طلب المحال ، كما أن من أرد أن ينظر إلى الروح بدون توسّط مرآة البدن ؛ فقد ضرب حديدا باردا ، فإنه لا يتيسّر إلا بالمرآة ، ومرآته الجسم. ومن هذا ظهر أن الإنسان الكامل رداء الحق ، فهذا الرداء لا يزول عن المرتدي أبدا ، وهو ليس بحجاب له ، كما أن المرآة كذلك مع القناع ، فعليك بفهم هذا المقام ، وكن مع أهل العافية والسلام. واعلم أن الله ليس منه أثر على الكون في الحقيقة ، وكذا الكون ليس منه أثر على الحياة في نفس الأمر ، وهو غنيّ عن العالمين.