اشتغل بها عن الحق ، وفرح بما وجد منه ، واحتجب عن مشاهدته ، وإذا لم ينل مأموله من الكرامات وجزاء الطاعات فيدعو ويتضرع ، ويسأل مأموله على الرغبة في جميع الأنفاس ، وإشارة الحقيقة في الآية إذا ألبس الحق أنائيته العارف ويكون مستقلا بقدرته ، متصفا بصفاته ، ينظر من القدم إلى ما بدا من القدم ، فيسكر ، ويخرج بدعوى الأنائية ، وذلك حين ينسى القدم في نفسه بما غلب من القدم عليه ، وإذا زاد الحق عرفانه بإفراد قدمه عن الحدوث وبمعرفة فنائه في بقائه وما ترى فهو هو تعالى لا غير يرجع إلى معادن العبودية ، ويكون متضرعا عاجزا فانيا في سبحات جلاله ، يكدي على باب الربوبية بنعت الفقر والافتقار إلى ذرة من معرفته.
(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))
قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) : أظهر الآيات ، وجعلها مرآة لصفاته وذاته سبحانه ، ويتجلى منها أنوار الذات والصفات للشاهدين مشاهدة القدم ، سرّ يسرّ في حقائق التوحيد ، وظاهرا يرونه من الآيات في زمان العشق في لباس الفعل ؛ استقامة للمحبة ؛ والتباسا لأمر الحقيقة ، ولو ظهر بنعت الألوهية ظاهرا وباطنا لتعطلت الأشباح ، ولفنيت الأرواح ، واضمحلت النفوس والعقول ؛ لأن بروز سطوات الأحدية لا تحتمله الآيات ولا الأشباح ولا الأبصار ولا الأفكار ، ذكر في الأول آيات ومقصوده صفاته التي تشرق أنوارها في آفاق الأسرار ، والآيات العالم الفعلي ، والمقصود من الصفات ظهور الذات لنظار حقيقة الحقيقة ، وإلا فأين الآيات في ظهور الصفات ، والذات الآيات للعيون ، والصفات للقلوب ، والذات للأرواح ، وسرّ القدم للأسرار ، لا ينكشف السر ، والعارف الصادق إذا كان في عين الجمع لا يرى شيئا إلا ويرى الحق بعينه ؛ لأنه في حقيقة الحقيقة ، ما بدا منه هو فعله ، وفعله غرق في صفاته ، وصفاته قائمة بذاته ، فإذا شاهده في نفسه كما شاهده في آياته يختلط الأمر ، ويغيب الحدث في القدم ، ويحلّ عليه سكر الأنائية ، فيدّعي الربوبية ؛ لأن مشاهدة الآيات تقتضي العشق والمحبة ، ومشاهدة الحق في مرآة النفس تقتضي الاتحاد من تأثير مباشرة سر التجلي ، وهذا حال الحلاج ـ قدس الله روحه ـ حيث قال : أنا الحق. وحال الأول حال الواسطي ؛ حيث قال : ضحكت الأشياء للعارفين بأفواه القدرة بل بأفواه الرب. لو ترى يا شاهد مشاهدة الحق في الآيات ترى أنوار العظمة والكبرياء من عيون الآساد وأنياب الثعابين ، وترى أنوار جماله من أوراق الورد والنرجس والياسمين ووجوه الحسان ، وتسمع أصوات الوصلة من ألحان الطيور والبلابل والعنادل ، وأصوات الرياح والسحاب والإنسان