سبحانه ألا يبلغ أحد إلى درجة الخلق الحسن وحسنات الأعمال وسيئات الأفعال إلا من يصبر في بلاء الله وامتحانه بالوسائط وغير الوسائط ، ولا يحتمل هذه البليات إلا ذو حظّ من مشاهدته وذو نصيب من قربه ووصاله ، صاحب معرفة كاملة ومحبة شاملة ، وكمال هذا الصبر الاتصاف بصبر الله ، ثم الصبر في مشاهدة الأزل ، فبالصبر الاتصافي والمشاهدة الأبدية والحظ الجمالي يوازي طوارق صدمات الألوهية وغلبات القهارية.
قال بعضهم : لا يطيق أحد الهجوم على المعارف إلا من يصبر على احتمال النوائب والشدائد فيها ، ولا يرى لنفسه قيمة ، ولا لروحه خطرا ؛ إذ ذاك يمكنه مجاورة المعارف والهجوم عليها.
وقال ابن عطاء : لا يوفق لجميل الأخلاق إلا الصابرون على خفض الخلاف.
وقال الجنيد في قوله : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) : ما يوفق لهذا المقام إلا ذو حظّ من عناية الحق فيه.
قال ابن عطاء : ذو معرفة بالله وأيامه.
وقال الجريري : أي : ذو علم بالله ، وذو فهم منه ، وراجع إليه في كل أحواله ، ثم داوى الحق سبحانه المتصبرين في احتمال البلاء ، وعليهم جذب الصبر والتحمل بالاستعانة بعد طيران خطرات الشيطان على قلوبهم بقوله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) : علّم حبيبه صلىاللهعليهوسلم كيف يدفع شرّ الشيطان عن نفسه حين ألقاه سهم الغيرة عن كنانة مخائيله وحيله ، وهذا تعليم لأمته ؛ إذ كان شيطانه أسلم على يده أي : فروا إلى الله إذا نزغكم قهر الله يدفع عنكم شر الشيطان ، ويؤويكم من قهره بلطفه ، ألا ترى كيف استعاذ النبي صلىاللهعليهوسلم منه إليه بقوله : «أعوذ بك منك» (١).
وقال بعضهم : من طرد الشيطان عن نفسه بنفسه فهو قرينه أبدا ، ومن طرده بالالتجاء إلى الله والاستعاذة به منه لم يجعل الله للشيطان عليه سبيلا ؛ فإن الله يقول : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ.)
وسئل أبو حفص : بماذا يتخلص المؤمن من الشيطان؟ قال : بتصحيح العبودية ؛ ألا ترى الله يقول : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ)
وقال الأستاذ : لا يتخلص العبد من نزغات الشيطان إلا بصدق الاستعانة بالله وصدق الاستغاثة فيه.
__________________
(١) رواه النسائي في الكبرى (١ / ٤٥٢).