والحدثان ، فرفعوا أبصارهم عنها ، ولم يستحسنوها في ديوان المعرفة من النظر إلى الخلق والخليقة ، وقالوا : (رَبُّنَا اللهُ) أي : يكفينا الله من كل ما سواه ، استقاموا بالله لله في الله ؛ فإن عين الألوهية تحرق مطالعيها من العرش إلى الثرى ، فإذا أراد الله استقامة المستقيمين من أهل شهوده ألبسهم أنوار بقائه وصمديته ، فيسبحون بنور البقاء في بحار الأزليات الأبديات.
قال ابن عطاء : استقاموا على إفراد القلب بالله.
وقال أيضا : استقاموا على المشاهدة ؛ لأن من عرف الله شيئا لا يهاب غيره ، ولا يطالع سواه ، فتركوا المنازعة والاعتراض مع الحق.
سئل الشبلي عن هذه الآية ، فقال : (قالُوا رَبُّنَا اللهُ) هو خالقنا ، فاستقاموا معه على بساط المعرفة ، وداموا بأسرارهم على سرير الجنة ، (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) بانقطاع المدة (أَلَّا تَخافُوا) من دار الهوان ، (وَلا تَحْزَنُوا) على ما فاتكم من دار الامتحان ، (وَأَبْشِرُوا) (١) بدوام النعيم ، وهو لقاء الله تعالى الذي ليس بعده بؤس ولا شدة.
صدق الشيخ في هذا التفسير ، وعجبت ممن استقام مع الله في مشاهدته وإدراك جماله كيف يطيق الملائكة أن يبشروه ، أين الملك والفلك بين الحبيب والمحب ليس وراء بشارة الحق بشارة ، فإن بشارة الحق سمعوها قبل بشارة الملائكة في نداء الأزل بقوله : (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ) ، ليس لهم خوف القطيعة ، ولا لهم حزن الحجاب ، وهم في بشر مشاهدة الجبار ، قول الملائكة معهم تشريف للملائكة ههنا ؛ لأنهم يحتاجون إلى مخاطبة القوم ، وهم أحباؤنا في نسب المعرفة من حيث الحقيقة ألا ترى كيف سجدوا أبانا قال الله تعالى : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) ، هم أحباؤنا ، ونحن أحباء الله ، والله تعالى أحبنا في الأزل ، واختارنا بالمعرفة والمشاهدة.
قال جعفر : من لاحظ في أعماله الثواب والأعواض كانت الملائكة أولياؤه ، ومن تحقق في أفعاله وعملها على مشاهدة أمرها فهو وليه ؛ لأنه يقول : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا.)
قال الأستاذ : استقاموا على دواء الشهود وعلى انفراد القلب بالله.
(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣))
__________________
(١) قال محمد بن علي الترمذي : تتنزل عليهم ملائكة الرحمة ، عند مفارقة الأرواح الأبدان ، ألا تخافوا سلب الإيمان ، ولا تحزنوا على ما كان من العصيان ، وأبشروا بدخول الجنان ، التي توعدون في سالف الأزمان. البحر المديد (٥ / ٤٠٢).