للخليل أن يفرح إلى شيء دون خليله ، ولا يفرح بسواه ، فابتلي بذبحه ، ثم لما سلّم وقام مقام الاستقامة واتّبع الأمر فداه بذبح عظيم.
قال الواسطي : نقل الله إبراهيم من حال البشرية إلى غيرها ، وهو أنه لما امتحنه بذبح ابنه أراد أن يزيل عن سره محبة غيره ، ويثبت في قلبه محبته ؛ لأن وجود محبة الله في قلب إبراهيم مع رحمة الولد محال ، فنظر إلى أقرب الأشياء إلى قلبه ، ووجد ابنه أقرب ، فأمر بذبحه ، وليس المبتغى منه تحصيل الذبح ، إنما هو إخلاء السر منه ، وترك عادة الطبيعة ، وحينئذ نودي : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) أي : قد حصلت ما طالبناك به وافيا ، وحصل لنا منك ما أردناه ، ولما وجد الذبيح رؤية المبلى في البلاء ومشاهدته ولذة وصاله وجد نفسه في موقع البلاء على محل حلاوة شهود جمال الحق إياه مستلذة ببلائه حين شاهدته بوصف الاستئناس به بنعت سقوط الآلام عنها ، فسلمها إلى مولاها بوصف الرضا والتسليم ، وأخبر عن كمال استقامة حاله في الصبر والرضا ، وذلك قوله : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ، صفا حاله في سكر وصال الحق ، فاجترأ على استقبال البلاء ، وأسقط التجلد عن صفة وجوده ، استعان بالله في الصبر في بلائه حيث استثنى بقوله : (إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)
قال أبو سعيد الخراز : أسرع الإجابة بقوله : (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ؛ لأنه قد أخلاهما من علم ما يراد بهما ؛ كيلا يعرجا على رؤية السلامة ، فيزول معنى البلاء ، ومن يقع موضع الخصوص لا يتقرب بالصبر على حقيقة موجودة.
قال رويم : (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ، يقبح الخليل مخالفة خليله أو التقصير في أمره ، وهلاك الولد وذهابه أهون من مخالفة من اتخذك خليلا.
وقال بعضهم : (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ، فإني قد شاهدت من قلبي رشدي وجوارحي كلها راضية بما أمرت به.
(فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥))
قوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) : لما استوى سرهما في كمال التسليم صرعه في مذبح العشاق الذين قتلوا بسيوف المحبة حتى استوفيا حظوظ العبودية في دعواهما من شهود أنوار الربوبية.
قال جعفر : أخرج إبراهيم من قلبه محبة ابنه إسماعيل ، وأخرج إسماعيل من قلبه محبة الحياة.