والأرض ، ومن نوره الأرواح والأشباح ، ومن نوره العقل والقلوب ، ومن نوره تنورت هذه النيرات ، وأضاءت هذه الآيات نور قدرته زينها بالتركيب ، ونور علمه نوّرها بالانتظام ، ونور سمعه نوّرها بالقيام ، ونور بصره زينها بأنوار العجائب ، ونور إرادته زينها بالارتسام والبقاء ، ونور كلامه زينها بالنماء والبركات ، ونور حياته زينها بالحياة ، ونور قدمه زينها بغرائب الألطاف ، ونور بقائه زينها بالأرواح الفعلية والقدسية الفطرية ، ونور ذاته زينها بالوجود سبحانه المنزه بجلاله أوجد الكون بنور القدم وأنوره عن ظلمة العدم.
(مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) صدر العارف كوة فعله ومشكاة أمره ، وروح العارف قنديل قدرته ، وفتيلة قنديله عقله الغريزي ، وفطرته الفعلي ، واستعداده الروحاني ، ودهنه المعرفة ، وقلبه زجاجة المشيئة ، ومصباحه أنوار الصفة القديمة المنزهة عن مباشرة الأكوان والحدثان والحلول في الزمان والمكان ، أسرج بمصباح صفاته قنديل الروح وفتيلة العقل ، وزاد نور المصباح من نور الذات ؛ إذ الذات والصفات مكشوفان لها في جميع الأوقات بنعت السرمدية ، ولو امتنع أنوارها عنها انطفأ مصباحها ، ولم يكن ناظرة إلى الغيب ، وأمد المصباح بدهن معرفته ذلك ، وتلك الشجرة المباركة منابتها العقل الملكوتي ، وصباغها الحكمة الجبروتية ، وهي في جميع الأنفاس على مقابلة شمس الألوهية لا يقع عليها ظلال غدوة شرق القدم ، ولا ظلال عشية غرب الفناء في أرض مشرق المشاهدة منورة بجمال شمس القدم والبقاء ؛ لذلك نفى علة الحجاب بالحدثان بقوله : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) ، وتلك المعرفة التي هي الشجرة المباركة يكاد دهن نورها يضيء بنور الفعل.
قيل : إن يصل إليها نور الصفة ، قال تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) ، فلما وصل نور الصفة إلى نور المعرفة والعقل الملكوتي ، ونور الفعل يضيء بنور الله ، وببصر الله بالله لا بغير الله ؛ قال الله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) مثل نور صفاته بالمصباح ، وشبّه الروح بالقنديل ، وشبّه القلب بالمشكاة ؛ لأن الروح في القلب والنور في الروح ، والمعرفة دهن قنديل الروح ، وتلك الكوة هي القلب ، والقلب في الصدر لا منفذ إليها لرياح القهر والشقاوة ، إذ القلب في أصبع الصفة يقلبها كيف يشاء ، والروح في يمين القدرة.
قال عليهالسلام : «القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن ، يقلبهما كيف يشاء» (١).
وقال : «الأرواح في يمين الرحمن» (٢) ؛ فكيف ينطفئ هذا المصباح الذي نوره من نور
__________________
(١) رواه مسلم (٢٦٥٤) ، وابن حبان (٣ / ١٨٤) ، والحاكم في «المستدرك» (١ / ٧٠٦).
(٢) ذكره المصنف في مشرب الأرواح له (ص ١٤).