والعجب أنّ الحكماء والمتكلّمين اتفقوا على أنّه يجب انتهاء القضايا النظرية في العقل النظري إلى قضايا بديهية ، وإلّا عقمت الأقيسة ولزم التسلسل في مقام الاستنتاج ، ولكنّهم غفلوا عن الاعتماد على ذلك الأصل في جانب العقل العملي ولم يقسموا القضايا العملية إلى أوّلية وثانوية ، أو نظرية وضرورية. كيف والاستنتاج والجزم بالقضايا غير الواضحة ، الواردة في مجال العقل العملي ، لا يتم إلّا إذا انتهى حكم العقل إلى قضايا واضحة في ذلك المجال. وقد عرفت أنّ المسائل المطروحة في الأخلاق ، الباحثة عن المحاسن والمساوئ ، أي ما يجب الاتصاف به أو التنزّه عنه ، أو المطروحة في القضايا البيتية والعائلية التي يعبّر عنها بتدبير المنزل ، أو القضايا المبحوث عنها في علم السياسة وتدبير المدن ، ليست في الوضوح على نمط واحد ، بل لها درجات ومراتب. فلا ينال العقل الجزم بكل القضايا العملية إلّا إذا كانت هناك قضايا بديهيّة واضحة تبتنى عليها القضايا المجهولة العملية حتّى يحصل الجزم بها ويُرتَفع الابهام عن وجهها.
ومن هنا تبيّن الأُمور التالية :
١ ـ أنّ المدّعي للحسن والقبح الذاتيين في غنى عن البرهنة لما بيّناه ، كما أنّ المدّعي لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما كذلك لما عرفت من أنّ الحكم بهما في الجملة من الأُمور البديهية.
٢ ـ أنّ حسن الأفعال أو قبحها على قسمين : قسم منها يُعدّ من المعلومات الأوّلية لكل إنسان تجرّد عن أيّ رأي مسبق يحكم بهما عقله بالبداهة بلا تروّ وفكر. وقسم منها تعلَم حاله بالانتهاء إلى تلك المعلومات الضرورية.
٣ ـ أنّ لفظ البديهي والنظري وإن كانا يستعملان في المعقول النظري دون العملي ، لكن لا محيص عن تعميم الاستعمال إلى قضايا العقل العملي أيضاً أو استخدام لفظ آخر في ذينك المجالين ، كقولنا :
المعلومات الأوّلية والواضحة ، والمعلومات الثانوية أو غير الواضحة.