في الحكمة العملية. فإنّ ما يستقل به العقل في مجال العمل إمّا له صلة بالحياة الفردية وهي ما يبحث عنه في علم الأخلاق ، أو بالحياة الاجتماعية المحدودة وهي ما يبحث عنه في نظام الأُسرة وتدبير المنزل ، أو الواسعة المترامية الأطراف وهو ما يبحث عنه في سياسة المدن وإدارة المجتمع.
ولنمثل على ذلك : إنّ العالم الأخلاقي يحكم بلزوم تكريم الوالدين والمعلّمين وأُولي النعمة ، وذلك لأنّ التكريم من شئون جزاء الإحسان بالإحسان ، وهو حسن بالذات ، والإهانة لهم من شئون جزاء الإحسان بالإساءة وهو قبيح بالذات.
والباحث عن أحكام تدبير المنزل يحكم بلزوم القيام بوظائف الزوجية من الطرفين وقبح التخلّف عنها ، ذلك لأنّ القيام بها عمل بالميثاق ، والتخلّف عنها تخلّف عنه ، والأوّل حسن بالذات والثاني قبيح بالذات.
والعالم الاجتماعي الذي يبحث عن حقوق الحاكم والحكومة على المجتمع يحكم بأنّه يجب أن تكون الضرائب معادلة لمنافع الأفراد ، وذلك لأنّ الخروج عن تلك الضابطة ظلم على الرعية وهو قبيح بالذات.
وقس على ذلك كل ما يرد عليك من الأبحاث في الحكمة العملية ، سواء أكانت راجعة إلى الفرد (الأخلاق) أو إلى المجتمع الصغير (البيت) ، أو إلى المجتمع الكبير (السياسة) ، فكل ما يرد فيها ويبحث عنه الباحثون ، بما أنّه من شئون العقل العملي ، يجب أن ينتهي الحكم فيه إيجاباً وسلباً ، صحّة وبطلاناً إلى القضايا الواضحة البديهية في مجال ذلك العقل.
إلى هنا انتهينا إلى أنّه يجب انتهاء الأحكام غير الواضحة ابتداء في مجال العقلين (النظري والعملي) إلى أحكام بديهية مدركة ابتداءً بلا مئونة شيء وذلك دفعاً للدور والتسلسل الذي استند إليه علماء المنطق والحكمة في القسم الأوّل ، أي الحكمة النظرية. والدليل واحد سار في الجميع.