ونقول بنفس هذا المعنى ـ تقريبا ـ في هذا العالم :
فإنّ هذه الموجودات الآن موجودة (بالوجود التفصيلي) ، معلولة في النهاية (لعلل بسيطة) خارجة عن عالم (المادة والطاقة) وعلى هذا :
فيما أن العلة لا بدّ من أن تكون مشتملة على جميع الكمالات الأصلية في معلولها ، وأصل وجود المعلول يجب أن يكون موجودا في علته ، بحكم قاعدة : (فاقد الشيء لا يعطيه).
على هذا : يجب أن نقول : إن (القضاء) بمعنى وجود أصل المعلول في العلة من دون أي حد ، ورسم : مقدم على (التقدير) بمعنى وجود المعلول محدودا مقيدا بخصائصه الوجودية في عالم المادة.
ومن وجهة النظر هذه يكون بإمكاننا أن ندّعي : أن القرآن الكريم أيضا قد أشار إلى هذا المعنى إشارة دقيقة حيث يقول : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) فقد عبّر عن (الوجود الإجمالي) للأشياء ب (الخزائن) كما عبّر عن (الوجود التفصيلي) لها ب (القدر المعلوم).
وعلى وجهة النظر هذه يتخذ (القضاء والقدر) معنى آخر ، يتقدم به (القضاء) بمعنى (الوجود الإجمالي) على (القدر) بمعنى (الوجود التفصيلي) ، ويكون (القضاء) حينئذ مصدرا لوجود (القدر)] (١).
إنّ ما ذكره العلّامة السبحاني في دعواه المتقدّمة (من أن مجموع العالم المادي وجود تفصيلي لعالم إجمالي سابق ، وأن جميع هذه الموجودات في هذا العالم كانت موجودة بصورة إجمالية في العالم السابق) غير سديد بإطلاقه ، وذلك لأنه إن كان المراد من الوجود الإجمالي في الماديات المركبة الوجود المثالي دون الحقيقي فهذا صحيح وهذا لا يفرق في تعلق القضاء فيه بين كونه ماديا أو مجرّدا ، وإن كان المراد من الوجود الإجمالي تعلّق العلم الإلهي التفصيلي فإنه شامل للمجرّد والمادي معا.
وأما قياسه العلم الإجمالي التابع للبشر بالعلم الإلهي فقياس مع الفارق إذ إن علم الباري إحاطي أما علم المخلوق فموهوبي وكسبي ، وكيف يقاس الإحاطي الذاتي بالموهوبي العرضي؟!
__________________
(١) القضاء والقدر للسبحاني : ص ٩٢ ـ ٩٤.