الإدراك الفطري :
والمراد منه الشعور التوحيدي بالله تعالى المركوز في أعماق النفس البشرية ، أي أنّ الناس مفطورون على معرفته عزّ اسمه إلّا أنّ الحجب الظلمانيّة تمنع من توقّد هذه الشعلة الإيمانية بحسب درجة تلك الموانع ، وهذا الإدراك يتفاوت شدة وضعفا بحسب قوة السير وبطئه ، فكلّما ازدادت حركة الآدمي نحوه تعالى كلما قوي هذا الإدراك إلى أن يصل إلى مرحلة «إن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرّب ولا نبي مرسل».
وقد أكّد القرآن الكريم على الإدراك الفطري في آيات عدّة منها : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ...) (الروم / ٣١).
ففطرة الله تعالى تعني أنه سبحانه أودع في كيان الإنسان غريزة معرفته تعالى والتوجه إليه ، لأنّ الإنسان كسائر الأنواع المخلوقة مجبول بفطرة تهديه إلى تتميم نواقصه ورفع حوائجه ، وتهتف له بما ينفعه وما يضره قال تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (سورة الشمس / ٨ ـ ٩). فخلقة الإنسان مبنية على الإيمان به تعالى بمقتضى الفطرة السليمة الموهوبة له من عنده سبحانه ، وسيظل بمعونة العقل الهادي إليه تعالى يبحث عن الخالق ويطلبه متلهفا إلى جنابه ، وسيظل سالكا لهذه المسيرة ما لم يعقه عائق أو يمنعه مانع ؛ وهذا ما أكّدته آية الميثاق بقوله تعالى :
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) (الأعراف / ١٧٣) ، وهذا الميثاق ليس تشريعيّا وإنما هو تكوين فطري منذ أن كان موجودا ذرّا صغيرا في رحم أمه إلى آخر مراحل حياته إلّا أنّ العوامل الخارجية تحجب هذا الإدراك كما قدّمنا ، لذا ورد عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم في المستفيض ما معناه : «كل مولود يولد على الفطرة حتى يأتي أبواه فيهودانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه».
وعند ما تفسد الفطرة بانحرافها عمّا خلقت له يكثر حينئذ اعوجاج القوى الداخلية ومع اعوجاجها واختلالها فسوف يؤدي إلى إبطال القوة العقلية المدركة بحيث تتوقف عن عملها المقرّر لها فتنتج عملا غير مرضي.