ولمّا صحّ أنّ أقرب الأشياء نسبة إلى حقيقة الشيء روحه ، وكان عيسى ـ على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة والتسليم (١) ـ روح الله ومن المقرّبين أيضا بإخبار الله وإخبار كلّ رسله عنه ، ومع ذلك قال : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (٢) علمنا بهذا وسواه من الدلائل ـ التي لا تحصى كثرة (٣) ممّا أومأنا إليه وسكتنا عنه ؛ لوضوح الأمر وكونه بيّنا بنفسه ـ أنّ الاطّلاع على ما في نفس الحقّ متعذّر.
فالحاصل عندنا من المعرفة به المستفادة من إخباره سبحانه لنا عن نفسه هو بتقليد منّا له ، وكذا ما نشهده وندركه بقوّة من قوانا الظاهرة أو الباطنة ، أو بالمجموع ، إنّما نحن مقلّدون في ذلك لقوانا ومشاعرنا.
وقصارى الأمر أن يكون الحقّ سمعنا وبصرنا وعقلنا ، فإنّ ذلك أيضا لا يقضي بحصول المقصود ؛ لأنّ كينونته (٤) معنا وقيامه بنا بدلا من (٥) أوصافنا إنّما ذلك بحسبنا لا بحسبه كما بيّنّا ، ولو لم يكن الأمر كذلك ، لزم أن يكون كينونة الحقّ سمع عبده وبصره وعقله حاصلا وظاهرا على نحو ما هو الحقّ عليه في نفسه ، فيرى العبد إذا (٦) كلّ مبصر ويسمع كلّ مسموع سمعه الحقّ وبصره. ولزم أيضا أن يعقل كلّ ما عقله الحقّ ، وعلى نحو ما عقله.
ومن جملة ذلك ـ بل الأجلّ من كلّ ذلك ـ عقله سبحانه ذاته على ما هي عليه ، ورؤيته لها كذلك ، وسماعه كلامها وكلام سواها أيضا كذلك ، وهذا غير واقع لمن صحّ له ما ذكرنا ، ولمن تحقّق بأعلى المراتب وأشرف الدرجات ، فما الظنّ بمن دونه؟
فإذا (٧) لكلّ من الحيرة في الله وفيما شاء نصيب ، وتذكّر قوله : «في خمس من الغيب لا يعلمهنّ إلّا الله» (٨) وقوله : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) (٩) وقوله : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) (١٠) وقوله :
__________________
(١) ق : والسلام.
(٢) المائدة (٥) الآية ١١٦.
(٣) ه : كثير.
(٤) ق : كينونية.
(٥) ق : من.
(٦) ه : إذن.
(٧) ه : فإذن.
(٨) جامع المسانيد ، ج ٢٨ ، ص ٧٧.
(٩) النمل (٢٧) الآية ٦٥.
(١٠) الأعراف (٧) الآية ١٨٨.