كما لباقي (١) الصفات المنبّه عليها :
فالمرتبة الأولى : تختصّ (٢) بحيرة أهل البدايات من جمهور الناس. وحكم الثانية يظهر في المتوسّطين من أهل الكشف والحجاب. وحكم الثالثة مختصّ بأكابر المحقّقين.
أمّا سبب الحيرة الأولى العامّة فهو كون الإنسان فقيرا طالبا بالذات ، فلا يمرّ عليه نفس يخلو فيه من الطلب ؛ لما (٣) ذكرنا من فقره الذاتي ، وذلك الطلب متعلّقة في نفس الأمر الكمال الذي هو غاية الطالب ، ولنفس ذلك الطلب فروع متعلّقة بمطالب (٤) ليست مرادة لأنفسها ، كالطلب المتعلّق بالمأكل والمشرب ونحوهما ممّا يعيّنه الوقت ؛ لجلب منفعة جزئيّة ، أو دفع مضرّة مثلها ، والغايات تتعيّن بالهمم والمقاصد والمناسبات الداعية الجاذبة وغير ذلك ممّا سبق ذكره مستوفى.
فما لم يتعيّن للإنسان وجهة يرجّحها ، أو غاية يتوخّاها ، أو مذهب أو اعتقاد يتقيّد به بقي حائرا قلقا ؛ لأنّه مقيّد من حيث النشأة والحال وأكثر ما هو فيه ، فلا غنى له عن الركون إلى أمر يستند إليه ويربط نفسه به ويعوّل عليه.
وهكذا أمره فيما يعانيه (٥) من الأشغال (٦) والحرف أو الصنائع ، فإذا جذبته المناسبة بواسطة بعض الأحكام المرتبيّة رؤية أو سماعا انجذب إلى ما يناسبه من المراتب.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى بواعث الإنسان المتعيّنة من نفسه ؛ فإنّ البواعث مخاطبات نفسانيّة داعية للمخاطب بها إلى الأصل الذي يستند إليه ذلك الباعث ، وهذا هو السبب الأوّل (٧) في انتشار الملل (٨) والنحل والمذاهب المتفرّعة على ما عيّنه الحقّ بواسطة ضروب وحيه وإرشاد الرسل والأنبياء وكلّ مقتدى محقّ ، فالحيرة سابقة شاملة الحكم لما ذكرناه من قبل في سرّ الهداية ولما نذكره عن قريب ـ إن شاء الله تعالى ـ.
وأوّل مزيل لها ـ أعني هذه الحيرة الأولى ـ تعيّن المطلب المرجّح ، ثم معرفة الطريق الموصل ، ثم السبب المحصّل ، ثم ما يمكن الاستعانة به في تحصيل الغرض ، ثم معرفة
__________________
(١) ق : كلباقي.
(٢) ق : مختص.
(٣) في بعض النسخ : ما.
(٤) ق : بمطلب.
(٥) ق ، ه : يعاينه.
(٦) ق : الاشتغال.
(٧) ق : الأولى.
(٨) ق : النحل والملل.