كلّ حال يكون فيه من إرادة تقوم به ، سواء كان مختارا في تلبّسه بذلك الحال أو مكرها عليه ـ أن يجعل إرادته تبعا لحكم الشرع في ذلك الحال ، أو ذلك الأمر كائنا ما كان ، فما أراده الشرع ورضي به ، رضيه لنفسه في نفسه وفي غيره ومن غيره ؛ لاتّصافه بالإرادة لما أراده الشرع خاصّة (١) دون غرض باق له على التعيين في أمر مّا غير ما عيّنه الشرع وسوّغه ، هذا يعرفه أهل مقام الرضا ؛ فإنّ له أهلا من أكابر الصوفيّة (٢) ذائقين لحكمه ، عارفين بأسراره ، منصبغين (٣) بأحواله. والأدلّة والشواهد في هذا الباب (٤) بحسب الموازين المشروعة العامّة ، والموازين الخاصّة والمتعارفة بين أهل هذا الشأن كثيرة لسنا نحتاج إلى ذكرها ؛ إذ القصد الإيجاز والإلماع لا البسط.
واعلم ، أنّ كلّ مرتبة هاتين المرتبتين تشتمل على درجات لكلّ درجة أهل ، وبين المرتبتين أيضا درجات كثيرة لها أرباب ، وهكذا الأمر في كلّ ما ذكرناه من هذا القبيل في هذا الكتاب وغيره ، إنّما نكتفي بذكر الأصول الحاصرة التي لا يخرج شيء عنها من جنسها. وأمّا التفاصيل المتشعّبة فقد أضربنا عنها صفحا ، لرغبتنا في الإيجاز ، ولو لا (٥) قصور المدارك ما احتجت إلى هذه التنبيهات في أثناء الكلام ؛ لأنّها كالعلاوة الخارجة عن المقصود.
ثم نرجع ونقول : وأعلى مراتب الرضا في مرتبة العبوديّة أن يصحب العبد الحقّ لا بغرض ولا تشوّف ولا توقّع مطلب معيّن ولا أن يكون علّة صحبته له ما يعلمه من كماله ، أو بلغه عنه ، أو عاينه منه ، بل صحبة ذاتيّة لا يتعيّن لها سبب أصلا ، وكلّ أمر وقع في العالم أو في نفسه يراه ويجعله كالمراد له ، فيلتذّ به ويتلقّاه بالقبول والبشر والرضا ، فلا يزال من هذا حاله في نعمة دائمة ونعيم مقيم ، لا يتّصف بالذلّة ولا بأنّه مقهور أو مغضوب عليه ، فتدركه الآلام لذلك ، وعزيز صاحب هذا المقام ، قلّ أن يوجد ذائقة (٦) وسبب قلّة ذائقة أمران :
__________________
(١) ه : خاصته.
(٢) ق ، ه : الصفوة.
(٣) ق : المتّصفين.
(٤) ه : لباب.
(٥) ق : فلو.
(٦) ه : ذائقة.