الروحاني ، ومنقهرا تحت سلطنة النزعات والتسويلات الخياليّة الشيطانيّة ، فلا نعمة في حقّه وبالنسبة إليه أعظم وأتمّ من نعمة النور العلمي اليقيني الكاشف له عن جليّة الأمر ، والمخلص له من ورطة ذلك الشرّ ، فتلك عافية روحانيّة لا تضاهيها عافية ؛ لأنّ العافية الجسمانيّة ـ وسيّما عقيب المرض ـ يجد الإنسان لها حلاوة لا يقدّر قدرها ، فما الظنّ بالعافية الروحانيّة ، التي هي أشرف وأدوم وأثبت وأقرب إلى الاعتدال الحقيقي الأصلي وأقوم ، وبها نيطت السعادة في عالم الغيب والشهادة؟ فافهم.
وأمّا القسم الآخر من النعم المختصّ بالعمل وظاهر الإنسان فإنّه يثمر المنازل الجنانيّة واللذّات الجسمانيّة والراحات والفوائد الطبيعيّة النفسانيّة عاجلا غير مصفّى ، وآجلا خالصا مصفّى ، كما نبّه الحقّ سبحانه على ذلك بقوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) (١) يعني هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ممزوجة بالغصص والعلل والأنكاد ، وهي لهم في الآخرة طاهرة طيّبة مخلصة من الشوائب ، ولهذا أرشد الحقّ سبحانه عباده وعلّمهم أن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم ، الذي هو صراط من أنعم عليه الإنعام الخالص من شوب الغضب ومحنة الضلالة (٢) ، فلسان مقامهم يقول : يا ربّنا رحمانيّتك الأولى العامّة الشاملة قضت بإيجادنا ، ورحيميّتك الأولى ـ يعنون اللتين في البسملة ـ خصّصتنا بهذه الحصص الوجوديّة ، المختصّة بكلّ واحد منّا ، كلّ ذلك من حيث نعمتك الذاتيّة ورحمتك الامتنانيّة ، ورحمانيّتك الثانية ـ التي أوجبتها على نفسك بكرمك من حيث عموم حكم اسمك «الهادي» عمّتنا معشر المؤمنين ، كما أشرت إلى ذلك بقولك : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ، فلمّا شملتنا بنعمة الإيمان والانقياد لأمرك والاستسلام لحكمك والإقرار بتوحيدك انبرى كلّ منّا يذكرك ويثني عليك ، ويمجّدك ويفوّض إليك ، ويفرّدك بالعبادة بعد إقراره لك بالسيادة ، ويطلب منك العون بصورة الإبانة عن صفة العجز ونقص الكون ، ثم إنّه لمّا خصّصتنا برحيميّتك الثانية بالحكم الخاصّ من أحكام اسمك «الهادي» المقتضي طلب
__________________
(١) الأعراف (٧) الآية ٣٢.
(٢) ق : الضلال.