قبله دون منازعة ، انتفع به ، ومن وجد في نفسه وقفة أو بدا (١) منه نزاع ، لم يجيبوه ، بل أحالوه على الاشتغال بنفسه ، والتوجّه لطلب معرفة جليّة الأمر فيما حصل له التوقّف فيه من جناب الحقّ بالرياضة وتصفية الباطن ، ولم يزل أمرهم على ذلك إلى زمان أرسطو ، ثم انتشت صنعة الجدل بعد من عهد أتباعه (٢) المسمّين بالمشّائين وإلى هلمّ.
وإذا كان هذا حال أهل الفكر والتأمّل ، الآخذين عن الأسباب ، والمتوجّهين إلى الوسائط ، فما الظنّ بالمستضيئين بنور الحقّ ، المهتدين بهداه ، والسالكين على منهاج الشريعة الحقّة النبويّة ، الآخذين عن ربّهم بواسطة مشكاة الرسالتين : الملكيّة والبشريّة ، وبدون واسطة كونيّة ، وسابق آلة وتعمّل أيضا؟ كما نبّه الحقّ سبحانه على حال نبيّنا صلىاللهعليهوآله في ذلك بقوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) (٣) وبقوله أيضا : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ). (٤)
فمثل هذا الذوق التامّ يسمّى علما حقّا ، ونورا صدقا ، فإنّه كاشف سرّ الغيب ، ورافع كلّ شكّ وريب.
وها أنا ذا أذكر المقدّمة الموضّحة مرتبة الفكر والبراهين النظريّة وغايتها وحكم أربابها ، وما يختصّ بذلك من الأسرار والنكت العلميّة بلسان الحجّة الإلهيّة على سبيل الإجمال ، ثم أبيّن أنّ العلم الصحيح ـ الذي العلوم النظرية وغيرها من بعض أحكامه ، وصفاته (٥) عند المحقّقين من أهل الله ـ ما هو؟ وبما ذا يحصل؟ وما أثره؟ وما حكمه؟ ثمّ أذكر بعد ذلك ما سبق الوعد بذكره إن شاء الله تعالى.
ولو لا أنّ هذه المقدّمة من جملة أركان التمهيد الموضّح سرّ العلم ومراتبه وما سبق الوعد ببيانه ، لم أوردها في هذا الموضع ولم أسلك هذا النوع من التقرير ، ولكن وقع ذلك تنبيها للمحجوبين بأنّ الإعراض عمّا توهّموه حجّة وصفة كمال وشرطا في حصول العلم اليقيني ،
__________________
(١) ب : أبد.
(٢) ق : تباع.
(٣) الشورى (٤٢) الآية ٥٢.
(٤) العنكبوت (٢٩) الآية ٤٨.
(٥) ق : أحكامها وصفاتها.