لمّا كان النّظر في أمر النّبوّة مفرعا على تقرير دلائل التّوحيد ، لا جرم ذكر عقيبه ما يدلّ على التّوحيد ، فقال : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) واعلم أنّ دلائل ملكوت السّموات والأرض على وجود الصّانع الحكيم كثيرة وقد تقدّمت.
ثم قال : (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أي : أن الدّلائل على التّوحيد غير مقصورة على السّموات والأرض ، بل كلّ ذرّة من ذرات العالم ، فهي برهان قاهر على التّوحيد ، وتقريره أن الشّمس إذا وقعت على كوة البيت ظهرت ذرّات ، فيفرض الكلام في ذرّة واحدة من تلك الذرات.
فنقول : إنّها تدل على الصانع الحكيم من جهات غير متناهية ؛ لأنّها مختصة بحيّز معين من جملة الأحياز التي لا نهاية لها في الخلاء الذي لا نهاية له ، فكلّ حيّز من تلك الأحياز الغير متناهية فرضنا وقوع تلك الذّرة فيه كان اختصاصها بذلك الحيّز من الممكنات والجائزات ، والممكن لا بدّ له من مخصّص ومرجح ، وذلك المخصص إن كان جسما عاد السّؤال فيه ، وإن لم يكن جسما كان هو الله تعالى.
وأيضا فتلك الذّرّة لا تخلو من الحركة والسّكون ، وكلّ ما كان كذلك فهو محدث ، وكل محدث فإنّ حدوثه لا بد وأن يكون مختصّا بوقت معيّن مع جواز حصوله قبل ذلك وبعده واختصاصه بذلك الوقت المعين الذي حدث فيه ، لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص قديم ثمّ إن كان ذلك المخصّص جسما عاد السّؤال فيه ، وإن لم يكن جسما فهو الله تعالى وأيضا فتلك الذرة مساوية لسائر الأجسام في التحيز والحجميّة ، ومخالفة لها في اللّون والشّكل والطبع والطعم وسائر الصّفات ، فاختصاصها بكلّ تلك الصفات التي باعتبارها خالفت سائر الأجسام ، لا بد وأن يكون من الجائزات ، والجائز لا بد له من مرجح ، وذلك المرجح إن كان جسما عاد البحث الأوّل فيه ، وإن لم يكن جسما فهو الله تعالى ، فثبت أن تلك الذرة دالة على وجود الصّانع من جهات تتناهى ، واعتبارات غير متناهية ، وكذا القول في جميع أجزاء العالم الجسماني والروحاني بمفرداته ومركّباته ، وعند هذا ظهر صدق القائل : [المتقارب]
٢٦٣٨ ـ وفي كلّ شيء له آية |
|
تدلّ على أنّه واحد (١) |
ولمّا نبّه تعالى على هذه الأسرار العجيبة بقوله : (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أردفه بما يوجب التّرغيب الشديد في الإتيان بهذا النظر والتفكّر فقال : «وأن عسى» ، و «أن» فيها وجهان :
أصحهما : أنّها المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الأمر والشأن ، والمعنى : لعل
__________________
(١) البيت لأبي فراس. ينظر الأشباه والنظائر ص (٣) ، والبحر المحيط ٤ / ٤٣٠ ، وروح المعاني ٩ / ١٢٨ ، والرازي ١٥ / ٧٧ ، وحاشية الشهاب ٤ / ٢٤٠.