قال الجبائيّ (١) : المراد من هذا الطبع أنّه تعالى يسم قلوب الكفّار بسمات وعلامات تعرف الملائكة بها أنّ صاحبها لا يؤمن ، وتلك العلامة غير مانعة من الإيمان.
وقال الكعبيّ (٢) : إنّما أضاف الطّبع إلى نفسه ، لأجل أنّ القوم إنّما صاروا إلى ذلك الكفر عند أمره وامتحانه ، فهو كقوله تعالى : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح : ٦] وقد تقدّم البحث في مثل ذلك.
قوله تعالى : (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ)(١٠١)
قوله تعالى : (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ).
قال الزّمخشريّ : كقوله : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] في كونه مبتدأ وخبرا وحالا يعني أن «تلك» مبتدأ مشار بها إلى ما بعدها ، و «القرى» خبرها ، و «نقصّ» حال أي قاصّين كقوله : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) [النمل : ٥٢].
قال الزمخشريّ (٣) : فإن قلت : ما معنى (تِلْكَ الْقُرى) حتى يكون كلاما مفيدا؟
قلت : هو مفيد ولكن بالصّفة في قولك : «هو الرّجل الكريم» يعني أنّ الحال هنا لازمة ليفيد التّركيب كما تلزم الصّفة في قولك : «هو الرّجل الكريم» ألا ترى أنّك لو اقتصرت على «هو الرّجل» لم يكن مفيدا ، ويجوز أن تكون «القرى» صفة لتلك ، و «نقصّ» الخبر ، ويجوز أن يكون «نقصّ» خبرا بعد خبر.
و «نقصّ» يجوز أن يكون على حاله من الاستقبال أي : قد قصصنا عليك من أنبائها ونحن نقصّ عليك أيضا بعض أنبائها [ويجوز أن يكون عبر به عن الماضي ، أي : قد قصصنا عليك من أنبائها](٤) وأشير بالبعد تنبيها على بعد هلاكها وتقادمه عن زمن الإخبار فهو من الغيب ، وأراد القصص المتقدمة.
وفي قوله : «القرى» ب «أل» تعظيم كقوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ٢٢] ، وقول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام : «أولئك الملأ من قريش» ، وقول أمية : [البسيط]
٢٥٣٤ ـ تلك المكارم لا قعبان من لبن |
|
شيبا بماء فعادا بعد أبوالا (٥) |
و «من» للتبعيض كما تقدّم ؛ لأنّه إنّما قصّ عليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما فيه عظة وانزجار دون غيرهما ، وإنّما قصّ أنباء أهل القرى ؛ لأنّهم اغتروا بطول الإمهال مع
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٥٢.
(٢) المصدر السابق.
(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ١٣٥.
(٤) سقط من ب.
(٥) البيت لأبي الصلت الثقفي والد أمية ينظر : الشعر والشعراء ٤٦٩ ، العقد الفريد ٢ / ٢٣ ، ولأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص ٥٢ ، وللنابغة الجعدي ديوانه ص ١١٢ ، شرح المفصل ٧٨ / ١٠٤ ، الدر المصون ٣ / ٣١٢.