الرفث فيه حسّا ، وخبر الله تعالى لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره ، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعا لا إلى وجوده محسوسا ؛ كقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] أي : مشروعا لا حسّا ، فإنّا نجد المطلقات لا يتربصن ؛ فعاد النّفي إلى الحكم الشّرعيّ لا إلى الوجود الحسّيّ ؛ وهو كقوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة : ٧٩] إذا قلنا : إنّه وارد في الآدميّين ؛ وهو الصّحيح ، فإنّ معناه لا يمسّه أحد منهم شرعا ، فإن وجد المسّ ، فعلى خلاف حكم الشرع ، وهذه الدّقيقة فاتت العلماء فقالوا : إنّ الخبر يكون بمعنى النّهي ، وما وجد ذلك قطّ ، ولا يصح أن يوجد ؛ فإنهما مختلفان حقيقة ، ومتضادان وصفا.
فصل
قال ابن الخطيب (١) ـ رحمهالله تعالى ـ فإن قيل أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحجّ فاسدا ويجب على صاحبه المضيّ فيه ، وإذا كان الحجّ باقيا معها ، لم يصدق الخبر لأنّ هذه الأشياء لا توجد مع الحج؟
قلنا المراد من الآية الكريمة حصول المضادة بين هذه الأشياء ، وبين الحجة المأمور بها ابتداء ، وتلك الحجة الصحيحة لا تبقى مع هذه الأشياء ؛ بدليل أنّه يجب قضاؤها ، والحجة الفاسدة التي يجب عليه المضيّ فيها شيء آخر سوى تلك الحجة المأمور بها ابتداء ، وأمّا الجدال الحاصل بسبب الشّكّ في وجوب الحج ، فظاهره أنّه لا يبقى معه عمل الحج ؛ لأنّ ذلك كفر وعمل الحج مشروط بالإسلام ، فثبت أنّا إذا حملنا اللفظ على الخبر ، وجب حمل الرّفث والفسوق والجدال على ما ذكرنا ، وأمّا إذا حملناه على النّهي ، وهو في الحقيقة عدول عن الظّاهر ، فقد يصحّ أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته ، وقول الفحش ، وأن يراد بالفسق جميع أنواعه ، وبالجدال جميع أنواعه ؛ لأنّ اللفظ مطلق ومتناول لكل هذه الأقسام ، فيكون النهي عنها نهيا عن جميع أقسامها.
فإن قيل : ما الحكمة في أنّ الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة : وهي الرّفث ، والفسوق ، والجدال في الحج ، من غير زيادة ولا نقص؟
فالجواب : لأنه ثبت في العلوم العقلية أنّ للإنسان أربع قوّى : قوّة شهوانية بهيميّة ، وقوّة غضبيّة سبعيّة ، وقوّة وهميّة شيطانيّة ، وقوة عقلية ملكيّة ، والمقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاث ، أعني : الشهوانية والغضبية والوهمية.
فقوله : (فَلا رَفَثَ) إشارة إلى قهر القوة الشهوانية.
وقوله : (وَلا فُسُوقَ) إشارة إلى قهر القوة الغضبية التي توجب المعصية والتمرد.
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٢.