فصل في أن الشيء المعلق ب «إن» لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء
احتجّ من قال بأنّ المعلّق بلفظ «إن» لا يكون عدما عند عدم ذلك الشّيء ؛ بهذه الآية ، فإنّه تعالى علّق الأمر بالشّكر بكلمة «إن» على فعل العبادة ، مع أن من لا يفعل هذه العبادات يجب عليه الشكر أيضا.
قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٧٣)
لما أمر في الآية المتقدّمة بأكل الحلال ، فصّل في هذه الآية [أنواع](١) الحرام.
قوله : «إنّما حرّم» : الجمهور قرءوا «حرّم» مشدّدا مبنيّا للفاعل «الميتة» نصبا على أنّ «ما» كافّة مهيّئة ل «إنّ» في الدّخول على هذه الجملة الفعليّة ، وفاعل «حرّم» ضمير الله تعالى ، و «الميتة» : مفعول به ، وابن أبي عبلة (٢) برفع «الميتة» وما بعدها ، وتخريج هذه القراءة سهل وهو أن تكون «ما» موصولة ، و «حرّم» صلتها ، والفاعل ضمير الله تعالى ، والعائد محذوف ؛ لاستكمال الشّروط ، تقديره : «حرّمه» ، والموصول وصلته في محلّ نصب اسم «إنّ» ، و «الميتة» : خبرها.
وقرأ أبو جعفر (٣) ، وحمزة مبنيّا للمفعول ، فتحتمل «ما» في هذه القراءة وجهين :
أحدهما : أن تكون «ما» مهيئة ، و «الميتة» مفعول ما لم يسمّ فاعل.
والثاني : أن تكون موصولة ، فمفعول «حرّم» القائم مقام الفاعل ضمير مستكنّ يعود على «ما» الموصولة ، و «لميتة» خبر «إنّ».
وقرأ (٤) أبو عبد الرحمن السّلميّ (٥) : «حرم» ، بضمّ الراء مخفّفة ، و «الميتة» رفعا و «ما» تحتمل الوجهين أيضا ، فتكون مهيّئة ، و «الميتة» ؛ فاعل ب «حرم» ، أو موصولة ، والفاعل ضمير يعود على «ما» وهي اسم «إنّ» ، و «الميتة» : خبرها ، والجمهور على تخفيف «الميتة» في جميع القرآن ، وأبو جعفر بالتّشديد ، وهو الأصل ، وهذا كما تقدّم في أنّ «الميت» مخفّف من «الميّت» ، وأن أصله «ميوت» ، وهما لغتان ، وسيأتي تحقيقه في سورة آل عمران عند قوله : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) [آل عمران : ٢٧].
ونقل عن قدماء النحاة : أنّ «الميت» بالتّخفيف : من فارقت روحه جسده ،
__________________
(١) في ب : بنوع.
(٢) ينظر البحر المحيط : ١ / ٦٦٠ ، الدر المصون : ١ / ٤٤١.
(٣) ينظر : مصادر القراءة السابقة.
(٤) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٣٩ ، البحر المحيط : ١ / ٦٦٠ ، والدر المصون : ١ / ٤٤١.
(٥) عبد الله بن حبيب أبو عبد الرحمن السلمي تابعي ثقة توفي سنة ١٩٤ ه. ينظر غاية النهاية : ١ / ٤١٣.