فصل في الكلام على السفيه
تقدم الكلام على السّفه في قوله : (كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) وبالجملة فإن السفيه من لا يميّز ما له وما عليه ، فيعدل عن طريق ما ينفعه إلى ما يضره ، يوصف بالخفّة والسفه ، ولا شك أن الخطأ في باب الدين أعظم معرّة منه في باب الدنيا ، [فإذا كان العادل عن الرأي واضحا في أمر دنياه يعدّ سفيها ، فمن يكون كذلك في أمر دينه كان أولى بهذا الاسم فلا كافر إلا وهو سفيه ، فهذا اللفظ](١) يمكن حمله على اليهود ، وعلى المشركين ، وعلى المنافقين وعلى جملتهم ، وذهب إلى كلّ واحد من هذه الوجوه قوم من المفسرين.
قال ابن عباس ومجاهد : هم اليهود (٢) ، وذلك لأنهم كانوا يأتسون بموافقة الرسول لهم في القبلة ، وكانوا يظنون أن موافقته لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقا لهم بالكلية ، فلما تحول عن ترك القبلة اغتمّوا وقالوا : قد عاد إلى طريقة آبائه ولو ثبت على قبلتنا لعلمنا أنه الرسول المنتظر المبشر به في التوراة ، فنزلت هذه الآية.
قال ابن عباس والبراء بن عازب والحسن والأصم رضي الله عنهم : إنهم مشركو العرب (٣) ، [وذلك لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان متوجها إلى «بيت المقدس» حين كان ب «بمكة» والمشركون](٤) كانوا يتأذون منه بسبب ذلك ، فلما جاء إلى «المدينة» وتحول إلى الكعبة قالوا : رجع إلى موافقتنا ، ولو ثبت عليه لكان أولى به.
وقال السدي : هم المنافقون إنما ذكروا ذلك استهزاء من حيث لا يتميز بعض الجهات عن بعض بخاصية معقولة تقتضي تحويل القبلة إليها ، فكان هذا التحويل مجرد العبث ، والعمل بالرأي والشهوة ، وإنما حملنا لفظ السفهاء على المنافقين ، لأن هذا الاسم مختص بهم ، قال الله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٣].
وقيل : يدخل فيه الكل ؛ لأن لفظ السفهاء لفظ عموم ، ودخل فيه الألف واللام ، وقد بيّنا صلاحيته لكلّ الكفار بحسب الدليل العقلي ، والنص أيضا يدلّ عليه ، وهو قوله : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة : ١٣٠].
[فإن قيل : المقصود من الآية بيان وقوع هذا الكلام منهم في الجملة ، وإن كان كذلك لم يكن ادعاء العموم فيه بعيدا.
__________________
(١) في أ : فيكون أولى بهذا الاسم وهذا اللفظ.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ١٣٠) عن مجاهد وابن عباس.
(٣) ما روي عن البراء أنهم اليهود وليسوا مشركي العرب فأخرجه الطبري (٣ / ١٣٠) عنه أنهم اليهود.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٦٢) عن البراء بن عازب وعزاه لوكيع وعبد بن حميد وأبي داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٤) سقط في أ.