الثالث : لو كان استقبال العين واجبا إما علما أو ظنّا ، ومعلوم أنه لا سبيل إلى ذلك الظن إلا بنوع من أنواع الأمارات ، وما لا يتأدّى الواجب إلّا به فهو واجب ، فكان يلزم أن يكون تعلم تلك الأمارات فرض عين على كل واحد من المكلفين ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال العين غير واجب.
فصل في وجوب الاستقبال في عموم الأمكنة
دلّ قوله تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) على وجوب الاستقبال في عموم الأمكنة في الصلاة وغيرها ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : «خير المجالس ما استقبل به القبلة» خرج منه الصلاة حال المسايفة ، والخوف ، والمطلوب والخائف والهارب من العدود ، ويبقى فيما عداه على مقتضى الدليل.
فإن قيل : قوله تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) تكرار لقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).
فالجواب : أن هذا ليس بتكرار ، وبيانه من وجهين :
أحدهما : أن قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) خطاب مع الرسول ـ عليهالسلام ـ لا مع الأمة.
وقوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) خطاب مع الكل.
وثانيهما : أن المراد بالأولى مخاطبتهم ، وهم ب «المدينة» خاصة ، وقد كان من الجائز لو وقع الاقتصار عليه أن يظن أن هذه القبلة لأهل «المدينة» خاصة ، فبيّن الله تعالى أنهم أينما حصلوا من بقاع الأرض يجب أن يستقبلوا نحو هذه القبلة.
[قوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ).
قال السّدّي : هم اليهود خاصة ، والكتاب : التوراة (١).
وقال غيره : أحبار اليهود ، وعلماء النصارى ؛ لعموم اللفظ ، والكتاب التوراة والإنجيل.
فلا بد أن يكون عددا قليلا ؛ لأن الكثير لا يجوز عليهم التواطؤ على الكتمان](٢).
قوله تعالى : (أَنَّهُ الْحَقُّ) يحتمل أن تكون «أن» واسمها وخبرها سادّة مسدّ المفعولين ل «يعلمون» عند الجمهور ، ومسدّ أحدهما عند الأخفش ، والثاني محذوف على أنها تتعدى لاثنين ، وأن تكون سادّة مسد مفعول واحد على أنها بمعنى العرفان. وفي الضمير ثلاثة أقوال :
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ١٨٣) عن السدّي.
(٢) سقط في ب.