قررت معناها هنا ؛ لأنها كثيرة الدور في القرآن ، فتحمل في كل موضع على ما يناسب من هذا الذي قررناه انتهى كلامه.
واعلم أنها إذا تقدمها عاطف جاز إعمالها وإهمالها ، وهو الأكثر ، وهي مركبة من «همزة وذال ونون» ، وقد شبهت العرب نونها بتنوين المنصوب قلبوها في الوقف ألفا ، وكتبوها في الكتاب على ذلك ، وهذا نهاية القول فيها.
وجاء في هذا المكان «من بعد ما جاءك» وقال قبل هذا : (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ) [لبقرة : ١٢٠] وفي «الرعد» : (بَعْدِ ما جاءَكَ) [الرعد : ٣٧] فلم يأت ب «من» الجارة إلا هنا ، واختص موضعا ب «الذى» ، وموضعين ب «ما» ، فما الحكمة في ذلك؟ والجواب : ما ذكره بعضهم وهو أن «الذي» أخص و «ما» أشد إبهاما ، فحيث أتي ب «الذي» أشير به إلى العلم بصحّة الدين الذي هو الإسلام المانع من ملّتي اليهود والنصارى ، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه ؛ لأنه علم بكل أصول الدين ، وحيث أتي بلفظ «ما» أشير به إلى العلم [بركنين](١) من أركان الدين ، أحدهما : القبلة ، والآخر : بعض الكتاب ؛ لأنه أشار إلى قوله : (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) [الرعد : ٣٦].
قال : وأما دخول «من» ففائدته ظاهرة ، وهي بيان أول الوقت الذي وجب عليه ـ عليهالسلام ـ أن يخالف أهل الكتاب في قبلتهم ، والذي يقال في هذا : إنه من باب التنوع في البلاغة.
قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(١٤٧)
في (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ) : ستة أوجه :
أظهرها : أنه مرفوع بالابتداء ، والخبر قوله : «يعرفونه».
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هم الذين آتيناهم.
الثالث : النصب بإضمار «أعني».
الرابع : الجر على البدل من «الظّالمين».
الخامس : على الصفة للظالمين.
السادس : النصب على البدل من (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) في الآية قبلها.
قوله تعالى : (يَعْرِفُونَهُ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر ل (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ) كما تقدم في أحد الأوجه المذكورة في (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ).
الثاني : أنه نصب على الحال على بقية الأقوال المذكورة.
__________________
(١) في ب : بركن.