طلبته بالتقليد ، لا بالدّليل ، مع أنّ ذلك المتقدّم طلبه بالدليل لا بالتقليد ، كنت مخالفا له ، فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه ، فيكون باطلا ، وإنّما ذكرت هذه الآية الكريمة عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشّيطان ؛ تنبيها على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان ، وبين متابعة التّقليد ، وفيه أقوى دليل على وجوب النّظر ، والاستدلال ، وترك التّعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل ، أو على ما يقوله الغير من غير دليل.
فصل في بيان ما يستثنى من التّقليد
قال القرطبيّ : ذمّ الله تعالى الكفّار ؛ باتباعهم لآبائهم في [الباطل](١) واقتدائهم بهم في الكفر ، والمعصية ، وهذا الذّمّ في الباطل صحيح ، وأما التقليد في الحقّ ، فأصل من «أصول الدّين» ، وعصمة من عصم المسلمين ، يلجأ إليها الجاهل المقصّر عن درك النّظر ، واختلف العلماء ـ رضي الله عنهم ـ في جوازه في مسائل الأصول ، وأمّا جوازه في مسائل الفروع ، فصحيح.
فصل في وجوب التّقليد على العامّي
قال القرطبيّ ـ رضي الله عنه ـ : فرض العامّيّ الذي لا يستقلّ باستنباط الأحكام من أصولها ، لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ، ويحتاج إليه ـ أن يقصد أعلم من في زمانه ببلده ؛ فيسأله عن نازلته ، فيتمثّل فيها فتواه ؛ لقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٤٣] وعليه الاجتهاد في أعلم أهل زمانه بالبحث عنه ؛ حتى يتفق أكثر الناس عليه ، وعلى العالم أيضا أن يقلّد عالما مثله في نازلة خفي عليه وجه الدليل فيها.
قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(١٧١)
لما حكى عن الكفّار أنّهم عند الدّعاء إلى اتّباع ما أنزل الله تعالى ، تركوا النّظر ،
__________________
ـ الأعداد ، يقال في مقدورات الله تعالى ومعلوماته ؛ فإن المعلومات أكثر عددا من المقدورات ؛ لأن القدرة خاصة بالممكنات ، فالمقدور هو الممكن فقط.
والعلم يشمل الواجبات ، والجائزات ، والمستحيلات ، فالمعلوم الممكن والواجب والمستحيل ، ومع هذا التفاوت فلا تناهي ؛ لأن مقدورات الله ـ تعالى ـ ومعلوماته لا تناهى.
ويجاب عن ذلك : بأن النقض بالأعداد لا يرد ؛ لأن التطبيق المستدل به على بطلان التسلسل إنما اعتبر بين الأمور الموجودة ، وهي المعلولات التي ضبطها وجود ، وأما الأعداد فهي من قبيل الأمور الوهمية المحضة التي لا وجود لها في نفس الأمر ، حتى يكون هناك جملتان تطبقان ، فلا يصح النقض بها ، وأما النقض بمعلومات الله ـ تعالى ـ ومقدوراته ، فلا يرد أيضا ؛ لأن عدم تناهي المقدورات عدم وقوفها عند حد فما من مقدور إلا ويتصور وراءه مقدور آخر ، وأما الموجود من المقدورات فهو متناه قطعا ، وكذلك المعلومات الوجودية متناهية قطعا ؛ لأنه قد ضبطها وجود ، وأما العدمية فهي بمعزل عن الدليل.
(١) في ب : أديانهم الباطلة.