واعلم أنّ الاضطرار ليس من فعل المكلّف ؛ حتى يقال : إنّه لا إثم عليه ، فلا بدّ من إضمار ، والتقدير : «فمن اضطرّ ، فأكل ، فلا إثم عليه» ونظيره : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٤] ، فحذف «فأفطر» ، وقوله تعالى (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) [البقرة : ١٩٦] وإنما جاز الحذف ؛ لعلم المخاطب به ، ودلالة الخطاب عليه.
والبغي : أصله في اللغة الفساد.
قال الأصمعيّ : يقال : بغى الجرح بغيا : إذا بدأ في الفساد ، وبغت السماء ، إذا كثر مطرها ، والبغي : الظلم ، والخروج عن الإنصاف ؛ ومنه قوله تبارك وتعالى (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) [الشورى : ٣٩] وأصل العدوان : الظّلم ، ومجاوزة الحد.
فصل
اختلفوا في معنى قوله (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) فقال بعضهم (١) : «غير باغ» أي غير خارج على السّلطان ، و «لا عاد» أي : متعدّ بسفره ، أعني : عاص بأن خرج لقطع الطّريق ، والفساد في الأرض ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد (٢) بن جبير.
وقالوا : لا يجوز للعاصي بسفره أن يأكل الميتة ، إذا اضطر إليها ، ولا أن يترخّص في السّفر بشيء من الرّخص ؛ حتى يتوب ، وذهب جماعة إلى أن البغي والعدوان راجعان إلى الأكل ، واختلفوا في معناه.
فقال الحسن ، وقتادة ، والرّبيع ، ومجاهد ، وابن زيد : أي : يأكل من غير ضرورة (٣) أي : بغي في أكله «ولا عاد» ، أي : ولا يعدو لشبعه.
وقيل : «غير باغ» أي : غير طالبها ، وهو يجد غيرها ، «ولا عاد» ، أي : غير متعدّ ما حد له ، فيأكل حتّى يشبع ، ولكن يأكل ما يسدّ رمقه (٤).
وقال مقاتل : «غير باغ» أي : مستحلّ لها ، «ولا عاد» أي : يتزوّد منها ، وقيل : «غير باغ» ، أي : مجاوز للحدّ الذي أحلّ له ، «ولا عاد» ، أي : لا يقصّر فيما أبيح له فيدعه.
قال مسروق : من اضطرّ إلى الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، فلم يأكل ، ولم يقرب ، حتى مات ، دخل النّار.
وقال سهل بن عبد الله : «غير باغ» : مفارق للجماعة ، «ولا عاد» ، أي : ولا مبتدع مخالف السنة ، ولم يرخّص للمبتدع تناول المحرّم عند الضرورة.
فإن قيل : الأكل في تلك الحالة واجب ، وقوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أيضا يفيد الإباحة ،
__________________
(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٤٠.
(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٤٠.
(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٤١.
(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٤١.