مدافعة العدوّ ، فصح ها هنا أن يقال : إنه ممنوع من الفعل ؛ فوجب أن يكون الإحصار حقيقة في العدو ، لا في المرض.
وثالثها : أن قوله : «أحصرتم» أي : حبستم ومنعتم ، والحبس لا بدّ له من حابس ، والمنع لا بدّ له من مانع ؛ لأنّ الحبس ، والمنع فعل ، وإضافة الفعل إلى المرض محال عقلا ، لأن المرض عرض لا يبقى زمانين ، فكيف يكون فاعلا ، وحابسا ، ومانعا.
وأمّا وصف العدوّ بأنه حابس ، ومانع ؛ فهو وصف حقيقيّ ، وحمل الكلام على الحقيقة ، أولى من حمله على المجاز.
ورابعها : أنّ الإحصار مشتق من الحصر ، ولفظ الحصر لا إشعار فيه بالمرض ؛ فوجب أن يكون خاليا عن المرض قياسا على جميع الألفاظ المشتقة.
وخامسها : أنّه تعالى قال بعده : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ). فعطف عليه المرض ، فلو كان المحصر ، هو المرض ، أو من يكون المرض داخلا فيه ، لكان عطفا للشيء على نفسه.
فإن قيل : إنما خصّ المريض بالذكر ؛ لأنّ له حكما خاصا ، وهو حلق الرأس ، فصار تقدير الآية الكريمة : إن منعتم بمرض ، تحللتم بدم ، وإن تأذّى رأسكم بمرض ، حلقتم ، وكفّرتم.
قلنا : هذا وإن كان حسنا لهذا الغرض ، إلّا أنه مع ذلك يلزم منه عطف الشيء على نفسه ، وحمل المحصر على غير المريض يوجب خلوّ الكلام عن هذا الاستدلال ، فكان أولى.
وسادسها : قوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدوّ ، لا في المرض ، فإنّه يقال في المرض : شفي ، وعفي ولا يقال أمن.
فإن قيل : لا نسلّم أنّ لفظ الأمن لا يستعمل إلّا في الخوف ، فإنه يقال : أمن المرض من الهلاك ، وأيضا خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أوّلها.
قلنا : لفظ الأمن إذا كان مطلقا غير مقيّد ، فإنّه لا يفيد إلّا الأمن من العدوّ.
وقوله : خصوص آخر الآية الكريمة لا يقدح في عموم أوّلها.
قلنا : بل يوجب ؛ لأن قوله : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) ليس فيه بيان أنّه حصل الأمن عن ماذا ، فلا بدّ وأن يكون المراد حصول الأمن عن شيء تقدّم ذكره ، وليس إلّا الإحصار ، فكان التقدير: فإذا أمنتم من ذلك الإحصار.
وإذا ثبت أنّ لفظ الأمن لا يطلق إلّا في العدوّ ، وجب أن يكون المراد من هذا الإحصار ، منع العدوّ.