قال عشائرهم : يا رسول الله توفي إخواننا على القبلة الأولى ، فكيف حالهم؟
فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية (١).
[واعلم أنه لا بد من هذا السبب ، وإلا لم يتّصل بعض الكلام ببعض ، ووجه تقرير الإشكال أن الذين لم يجوّزوا النسخ إلا مع البداء يقولون : إنه لمّا تغير الحكم وجب أن يكون الحكم مفسدة](٢) فبين أن النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة ، ومن تكليف إلى تكليف ، والأول كالثاني في أن القائم به متمسّك بالدين ، وأن من هذا حاله ، فإنه لا يضيع أجره.
ونظيره : ما سألوا بعد تحريم الخمر عمن مات ، وكان يشربها ، فأنزل الله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) [المائدة : ٩٣] فعرفهم الله ـ تعالى ـ أنه لا جناح عليهم فيما مضى لما كان ذلك بإباحة الله تعالى.
فإن قيل : إذا كان الشك إنما تولّد من تجويز البداء على الله ـ تعالى ـ فكيف يليق ذلك بالصحابة؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن ذلك الشّك وقع لمنافق ، فذكر الله ـ تعالى ـ ذلك ليذكره المسلمون جوابا لسؤال ذلك المنافق.
وثانيها : لعلهم اعتقدوا أن الصّلاة إلى الكعبة أفضل فقالوا : ليت إخواننا ممن مات أدرك ، فذكر الله ـ تعالى ـ هذا الكلام جوابا عن ذلك.
وثالثها : لعله ـ تعالى ـ ذكر هذا الكلام ليكون دفعا لذلك السؤال لو خطر ببالهم.
ورابعها : لعلهم توهموا أن ذلك لما نسخ وبطل ، وكان ما يؤتى به بعد النسخ من الصلاة إلى الكعبة كفّارة لما سلف ، واستغنوا عن السؤال عن أمر أنفسهم لهذا الضرب من التأويل ، فسألوا عن إخوانهم الذين ماتوا ، ولم يأتوا بما يكفر ما سلف ؛ قال : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) ، والمراد : أهل ملّتكم ، كقوله لليهود الحاضرين في زمان محمد صلىاللهعليهوسلم : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) [البقرة : ٧٢] ، (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) [البقرة : ٥٠] ، ويجوز أن يكون السؤال واقعا عن الأحياء والأموات معا ، فإنهم أشفقوا على ما كان من صلاتهم أن يبطل ثوابهم ، وكان الإشفاق واقعا في الفريقين ، فقيل : إيمانكم للأحياء والأموات ، إذ من شأن العرب إذا أخبروا عن حاضر وغائب أن يغلبوا الخطاب ، فيقولوا : كنت أنت وفلان الغائب فعلتما والله أعلم.
__________________
(١) أخرجه أحمد (١ / ٣٤٧) والترمذي (٢٩٦٨) وأبو داود (٤٦٨٠) والدارمي (١ / ٢٨١) والطبراني (١١ / ٢٧٨) والحاكم (٢ / ٢٦٩) والطيالسي (١٩٢٤) وابن حبان (١٧١٨ ـ زوائده) والطبري في «التفسير» (٢٠ / ١٧) من طرق عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس ، وقال الترمذي : حسن صحيح. وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(٢) سقط في أ.