فرع على هذا التأكيد إبطال شبهتهم بقوله : (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) ، أي لا تغرنّكم حالة الحياة الدنيا بأن تتوهموا الباطل حقا والضرّ نفعا ، فإسناد التغرير إلى الحياة الدنيا مجاز عقلي لأن الدنيا ظرف الغرور أو شبهته ، وفاعل التغرير حقيقة هم الذين يضلّونهم بالأقيسة الباطلة فيشبهون عليهم إبطاء الشيء باستحالته فذكرت هنا وسيلة التغرير وشبهته ثم ذكر بعده الفاعل الحقيقي للتغرير وهو الغرور. و (الْغَرُورُ) ـ بفتح الغين ـ : من يكثر منه التغرير ، والمراد به الشيطان بوسوسته وما يليه في نفوس دعاة الضلالة من شبه التمويه للباطل في صورة وما يلقيه في نفوس أتباعهم من قبول تغريرهم.
وعطف (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) لأنه أدخل في تحذيرهم ممن يلقون إليهم الشبه أو من أوهام أنفسهم التي تخيل لهم الباطل حقا ليهموا آراءهم. وإذا أريد بالغرور الشيطان أو ما يشمله فذلك أشد في التحذير لما تقرر من عداوة الشيطان للإنسان ، كما قال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٧] وقال : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر : ٦] ، ففي التحذير شوب من التنفير.
والباء في قوله (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) هي كالباء في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : ٦]. وقرر في «الكشاف» في سورة الانفطار معنى الباء بما يقتضي أنها للسببية ، وبالضرورة يكون السبب شأنا من شئون الله يناسب المقام لا ذات الله تعالى. والذي يناسب هنا أن يكون النهي عن الاغترار بما يسوّله الغرور للمشركين كتوهم أن الأصنام شفعاء لهم عند الله في الدنيا واقتناعهم بأنه إذا ثبت البعث على احتمال مرجوح عندهم شفعت لهم يومئذ أصنامهم ، أو يغرّهم بأن الله لو أراد البعث كما يقول الرسول صلىاللهعليهوسلم لبعث آباءهم وهم ينظرون ، أو أن يغرهم بأن الله لو أراد بعث الناس لعجّل لهم ذلك وهو ما حكى الله عنهم : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٤٨] فذلك كله غرور لهم مسبب بشئون الله تعالى. ففي هذا ما يوضح معنى الباء في قوله تعالى : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ). وقد جاء مثله في سورة الحديد [١٤]. وهذا الاستعمال في تعدية فعل الغرور بالباء قريب من تعديته ب (من) الابتدائية في قول امرئ القيس :
أغرّك مني أن حبّك قاتلي
أي : لا يغرنّك من معاملتي معك أن حبك قاتلي.
(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي