(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٥] ، أي : يقتل بعضكم بعضا ، وقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء : ٢٩].
والوجه الأول أقوى وأعمّ في اعتبار حرمة النبي صلىاللهعليهوسلم وهو يفيد أولويته بمن عدا الأنفس من المؤمنين بدلالة فحوى الخطاب. وأما الاحتمال الثاني فإنه لا يفيد أنه أولى بكل مؤمن بنفس ذلك المؤمن إلا بدلالة قياس الأدون ، ولذلك استثنى عمر بن الخطاب بادئ الأمر نفسه فقال : لأنت أحب إليّ إلا من نفسي التي بين جنبيّ. وعلى كلا الوجهين فالنبي عليه الصلاة والسلام أولى بالمؤمنين من آبائهم وأبنائهم ، وعلى الاحتمال الأول أولى بكل مؤمن من نفسه. وسننبه عليه عند قوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) فكانت ولاية النبي صلىاللهعليهوسلم بالمؤمنين بعد إبطال التبني سواء على جميع المؤمنين.
وفي الحديث : «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم النبي (أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)» ، ولما علمت من أن هذه الولاية راجعة إلى حرمته وكرامته تعلم أنها لا تتعدّى ذلك فيما هو من تصرفات الناس وحقوق بعضهم من بعض ، مثل ميراث الميت من المسلمين فإن ميراثه لورثته ، وقد بينه قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيّما مؤمن ترك مالا فليرثه ورثته من كانوا ، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه». وهذا ملاك معنى هذه الآية.
(وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ).
عطف على حقوق النبي صلىاللهعليهوسلم حقوق أزواجه على المسلمين لمناسبة جريان ذكر حق النبي عليه الصلاة والسلام فجعل الله لهن ما للأمهات من تحريم التزوج بهن بقرينة ما تقدم من قوله (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ) اللاء (تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) [الأحزاب : ٤].
وأما ما عدا حكم التزوج من وجوه البر بهن ومواساتهن فذلك راجع إلى تعظيم أسباب النبي صلىاللهعليهوسلم وحرماته ولم يزل أصحاب النبي والخلفاء الراشدون يتوخّون حسن معاملة أزواج النبيصلىاللهعليهوسلم ويؤثرونهنّ بالخير والكرامة والتعظيم. وقال ابن عباس عند حمل جنازة ميمونة : «هذه زوج نبيئكم فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوا ولا تزلزلوا وارفقوا» رواه مسلم. وكذلك ما عدا حكم الزواج من وجوه المعاملة غير ما يرجع إلى التعظيم. ولهذه النكتة جيء بالتشبيه البليغ للمبالغة في شبههن بالأمهات للمؤمنين مثل الإرث وتزوج بناتهن ، فلا يحسب أن تركاتهن يرثها جميع المسلمين ، ولا أن بناتهن أخوات للمسلمين في حرمة التزوج بهن.