فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل.
وأمّا من حيث النظر إلى ترتيب الجمل ، فذلك أنه قد قدّم النداء على الأمر ، فقيل : (يا أَرْضُ ابْلَعِي وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) دون أن يقال : ابلعي يا أرض وأقلعي يا سماء ، جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكّن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصدا بذلك لمعنى الترشيح.
ثم قدّم أمر الأرض على أمر السماء وابتدئ به لابتداء الطوفان منها ، ونزولها لذلك في القصة منزلة الأصل ، والأصل بالتقديم أولى ، ثم أتبعها قوله : (وَغِيضَ الْماءُ) لاتّصاله بغيضية الماء وأخذه بحجزتها ، ألا ترى أصل الكلام : قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ماءها ويا سماء أقلعي عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله ، وغيض الماء النازل من السماء فغاض ، ثم أتبعه ما هو المقصود من القصة وهو قوله تعالى : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي أنجز الموعود .. ثم أتبعه حديث السفينة وهو قوله : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) ، ثم ختمت القصة بما ختمت ... وأمّا النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف وتأدية لها ملخّصة مبيّنة ، لا تعقيد يعثّر الفكر في طلب المراد. ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد ، بل إذا جربت نفسك عند استماعها وجدت ألفاظها تطابق معانيها ومعانيها تطابق ألفاظها.
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة جارية على قوانين اللغة ، سليمة عن التّنافر ، بعيدة عن البشاعة ، عذبة على العذبات ، سلسلة على الأسلات ...». هذه نهاية كلام المفتاح.
[٤٥ ـ ٤٧] (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧))
موقع الآية يقتضي أنّ نداء نوح ـ عليهالسلام ـ هذا كان بعد استواء السفينة على الجوديّ نداء دعاه إليه داعي الشفقة فأراد به نفع ابنه في الآخرة بعد اليأس من نجاته في الدّنيا ، لأنّ الله أعلمه أنّه لا نجاة إلّا للّذين يركبون السّفينة ، ولأنّ نوحا ـ عليهالسلام ـ لمّا دعا ابنه إلى ركوب السّفينة فأبى وجرت السفينة قد علم أنّه لا وسيلة إلى نجاته فكيف