من شأنه أن يقلعه كان تكذيبا واحدا منسيا. وهذا من بلاغة معاني القرآن.
وبذلك يظهر وقع قوله عقبه (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) فان الطبع مؤذن بأن قلوبهم قد ورد عليها ما لو خلت عند وروده عن الطبع عليها لكان شأنه أن يصل بهم إلى الإيمان ، ولكن الطبع على قلوبهم حال دون تأثير البينات في قلوبهم.
وقد جعل الطبع الذي وقع على قلوب هؤلاء مثلا لكيفيات الطبع على قلوب المعتدين فقوله : (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) ، أي مثل هذا الطبع العجيب نطبع على قلوب المعتدين فتأملوه واعتبروا به.
والطبع : الختم. وهو استعارة لعدم دخول الإيمان قلوبهم. وتقدم في قوله تعالى : خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) في سورة البقرة [٧].
والاعتداء : افتعال من عدا عليه ، إذا ظلمه ، فالمعتدين مرادف الظالمين ، والمراد به المشركون لأن الشرك اعتداء فإنهم كذبوا الرسول فاعتدوا على الصادقين بلمزهم بالكذب وقد جاء في نظير هذه الآية من سورة الأعراف [١٠١] (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ)(١) فهذا التّحالف للتفنّن في حكاية هذه العبرة في الموضعين.
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥))
(ثُمَ) للتراخي الرتبي لأنّ بعثة موسى وهارون ـ عليهماالسلام ـ كانت أعظم من بعثة من سبقهما من الرسل ، وخصّت بعثة موسى وهارون بالذكر لأنها كانت انقلابا عظيما وتطورا جديدا في تاريخ الشرائع وفي نظام الحضارة العقليّة والتشريعيّة فإن الرسل الذين كانوا قبل موسى إنما بعثوا في أمم مستقلّة ، وكانت أديانهم مقتصرة على الدعوة إلى إصلاح العقيدة ، وتهذيب النفوس ، وإبطال ما عظم من مفاسد في المعاملات ، ولم تكن شرائع شاملة لجميع ما يحتاج إليه من نظم الأمة وتقرير حاضرها ومستقبلها.
فأمّا بعثة موسى فقد أتت بتكوين أمّة ، وتحريرها من استعباد أمة أخرى إياها ، وتكوين وطن مستقل لها ، وتأسيس قواعد استقلالها ، وتأسيس جامعة كاملة لها ، ووضع نظام سياسة الأمّة ، ووضع ساسة يدبرون شئونها ، ونظام دفاع يدفع المعتدين عليها من
__________________
(١) في المطبوعة (كذلك نطبع على قلوب الكافرين) وهو خطأ.