يقطعه ويجتثه عن أصله ، بحيث يكون كالعدم ، فيفهم أن العاقل لا يغتر بما كان مثل ذلك ، (و) التشبيه (البليغ) والمراد به هنا الذى يتخاطب به أذكياء البلغاء ويستحسنونه فيما بينهم ، وليس المراد بالبليغ ما كان مطابقا لمقتضى الحال ، فإن المبتذل قد يطابق مقتضى الحال لسوء فهم السامع (ما كان من هذا الضرب) الذى هو البعيد الغريب وتتفاوت مراتبه فى ذلك البعد لا ما كان من الضرب الذى هو القريب المبتذل ؛ وإنما كان ما هو من هذا الضرب الغريب بليغا (لغرابته) فلا يطلع عليه إلا الأذكياء ، فلا يتخاطب به غيرهم إلا أخذا عنهم تقليدا ، والأمر المختص بالخواص يعد بليغا حسنا لعدم مشاركة العامة فيه ، وكان أيضا ما هو من هذا الضرب بليغا لكمال لذاذته ؛ لأنه لا ينال إلا بعد التأمل والطلب ، بخلاف المبتذل فهو يتمكن كل أحد منه بلا طلب وتأمل فلا يحصل الشوق إليه ، وما لا يطلب بالشوق لا كمال لذة فيه ، (و) إنما قلنا كذلك (ل) ما علم (أن نيل الشيء بعد الطلب ألذ) من نيله بلا طلب ، ووقوعه فى النفس ألطف من وقوع غير المطلوب ، ولذلك يمثل بالماء البارد على الظمأ الذى هو ألذ المحسوسات بجامع الاتصال بعد الشوق ؛ وذلك لأن حصول ما تقوى الشوق إليه فيه لذة حصوله لحسنه لذاته ولذة دفع ألم الشوق إليه ، بخلاف ما يحصل بلا طلب وإن كان شريفا فى نفسه ليس فيه إلا لذته ، وقولهم يستحسن كذا لكونه كحصول نعمة غير مرتقبة لا يتقضى كونه أحسن من الحاصل بعد الشوق ، نعم ، إن كان حصوله بعد الإياس والطلب فهو أعظم لاشتماله على دفع ألم الإياس والطلب ، وهو أعظم من الشوق ، فإن أريد هذا كان أشد فى مقامه من المطلوب ، والتعليلان متلازمان عرفا ؛ لأن الغريب لا ينال عرفا إلا بعد الطلب ، والمنول بعد الطلب لا يكون عرفا إلا غريبا ولو كان مفهومهما مختلفا ، ومتى حضر أحدهما دون الآخر صح تعليل البلاغة المرادة هنا به ، فإن قيل قد قررتم بهذا أن التشبيه كلما كان فيه مزيد حاجة إلى التأمل عند قصد إيجاده من المتكلم ، وإلى التأمل من السامع فى إدراك وجود الوجه فيه حيث ذكر ، أو فى فهمه إن لم يذكر ، ازداد حسنه وترقى فى مراتب القبول ، وقد تقرر أن صعوبة الفهم من التعقيد اللفظى والمعنوى وكلاهما مخل بالفصاحة ، فكيف تعد صعوبة الفهم من باب