الحسن والقبول؟ فالجواب أن الحاجة إلى التأمل التى سميتها صعوبة الفهم إن كان سببها دقة المعنى المراد كالوجه فى تشبيه منقار البازى بالجيم التى وضعها الأعسر ، على شرط أن تكون بحيث لو زيد عليها العين والفاء والراء صار جعفرا ـ كما وقع فى شعر أبى نواس ـ فإنه غاية فى اللطافة ، إذ يفهم من هذا الشرط أن المراد الجيم التى لم تعرق ، مع أن التفطن لوجود الهيئة بما بين منقار البازى وتلك الجيم ، تفطن لأمر دقيق ، فهذا لا يخل بالفصاحة ؛ لأن سلوك العقل سبل الدقائق لفهمها ليس عنده أحلى منه ، فكيف يستقبح ولو كان فيه مشقة ما ودقة المعانى تتصور فى الحقيقة كالتشبيه ، وتتصور فى المجاز على ما يأتى ، وكذا إذا كان سبيلها رعاية الترتيب وفى المرتب بعد ، فيحتاج العقل إلى التمهل فى إدراك المرتب على ما هو ، فيجعل الأول أولا والثانى ثانيا إلى آخرها ، فإذا اجتمعت تلك المعانى على ترتيبها رد اللاحق فيها إلى السابق والثانى إلى الأول إن احتاج إليه لحكمة إما لأخذ الغرض منه كالوجه المركب كما تقدم فى ترتيب جمل الآية الكريمة فى قوله تعالى : (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ*) إلى آخر الآية ، فإن الترتيب كذلك ينبغى أن يكون ، فلما رد العقل لاحقها لسابقها أى : اعتبره معه على ترتيبها ، أخذت الهيئة التى هى الوجه على ذلك الترتيب كما تقدم ، ولو لا اعتبار رد معنى بعضها إلى بعض بضرب من المناسبة لاختلت الهيئة ، إذ لو أخذت من البعض لم تكمل الهيئة ، ولو رد بعضها إلى بعض لا على طريق المناسبة كأن تجعل الهيئة مبنية أولا على حالة الماء لا النبات ـ لم تحسن كما لا يخفى ، وترتيب الآية لموافقة الواقع فى غاية الحسن فأحوج ذلك إلى تأمل فى ابتداء الهيئة من جهة النبات لتكمل وذلك ظاهر ، وإما لأن المناسبة بنفسها بين تلك المعانى مطلوبة لذاتها لا لأخذ شيء منها فيرد فيها السابق للاحق ، فإن المعانى الشريفة إذا اجتمعت لا تخلو من حكمة المناسبة ، وانظر إلى قوله (١) :
دان على أيدى العفاة وشاسع |
على كل ند فى الندى وضريب |
__________________
(١) البيتان للبحترى فى شرح عقود الجمان (٢ / ٦) ، وأوردهما محمد بن على الجرجانى فى كتابه الإشارات والتنبيهات ص (١٧٢) منسوبين للبحترى ، وفى الإيضاح بتحقيق د. عبد الحميد هنداوى ص (١٨٩) والعفاة : جمع عاف وهو طالب الفضل أو سائل الرزق.