السيب هو العطاء ، فقد جعل المتنبي نغمات السؤال عند الممدوح تؤثر فيه وتؤذيه كالجرح ، وهو نقيض لاستحسانها ، وذلك حيث تسبق تلك النغمة سيبه أي : عطاءه ، والعلة أيضا ظاهرة وهى حبه الإعطاء بلا سؤال ، فلو سبقت نغمات السؤال عطاءه أثرت فيه تأثير الجرح ، فكأنه يقول : إذا كانت نغمة السؤال كالعود عند ذلك الممدوح فهمنا ممدوح النغمة عنده كالجرح ؛ لأنه يحب الإعطاء بلا سؤال ، فقد تناقض الكلامان وإن اختلفا علة ومحلا ، ووجه الكلام الذي هو نقيض للأول مأخوذ من ذلك الأول ، فإن المتبادر أن نقيض الشيء ينافيه ، لا أنه منه ولا هو هو بعينه ، ولم يزد إلا السلب في الإثبات أو العكس ، ونريد بالسلب والإثبات هنا الإتيان بالمنافي في الجملة ، وأيضا نقض الشيء فرع الشعور به ، فذلك الشيء هو الحامل على طلب النقيض فقد انتشأ النقيض عن الأول فافهم ، وانظر أي : المعنيين أبلغ التلذذ بلومه في المحبوب ، أو بغض اللوم في المحبوب والأظهر التلذذ باللوم ؛ لاقتضائه عدم الشغل عن حبه لعارض من العوارض ، ولو كان منافيا بخلاف بغض اللوم عند سماعه فإنه يقتضي شغل القلب ببغض اللائم والفناء في الحبيب مطلقا ، بحيث لا يحس إلا بحبه أعظم من العداوة بسببه.
الأخذ والتحسين
(ومنه) أي : ومن غير الظاهر (أن يؤخذ بعض المعنى) من الكلام الأول ويترك البعض ، ثم لا يقتصر في الكلام الثاني على ذلك (و) لكن (يضاف) إلى ذلك البعض المأخوذ (ما يحسنه) من المعاني ومفهوم هذا الكلام أنه إن لم يضف إليه شيء أصلا فظاهر ؛ لأن أخذ المعنى من الأول لا لبس فيه كلا كان أو بعضا ، فيعد من الظاهر ، وأما إذا أضيف إليه مالا يحسنه فالزيادة كالعدم فيكون المأخوذ ولو قل لا لبس فيه أيضا ، فيصير من الظاهر بخلاف البعض مع تزيينه بما أضيف إليه ، فإن ذلك يخرجه عن سنن الاتباع إلى الابتداع ، فكأنه مستأنف فيخفى ، ثم مثل لما ذكر وهو أن يؤخذ البعض مع إضافة ما يحسن به إليه فقال (كقول الأفوه : وترى الطير على آثارنا) (١) أي : تبصر الطير
__________________
(١) البيتان للأفوه الأزدى ، فى الإشارات ص (٣١٤) ، وعقود الجمان (٢ / ١٨٠).