أصول الفقه - ج ١٠

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٠

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-83-6
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٩٤

المتلاقيين بأنّه لا يثبت السريان الذي هو المدار والعلّة في التنجيس ، ونظّر ذلك بمسألة استصحاب بقاء الماء في الحوض الذي غسل فيه الثوب النجس ، قال ما هذا لفظه : وحكى في الذكرى (١) عن المحقّق تعليل الحكم بطهارة الثوب الذي طارت الذبابة عن النجاسة إليه ، بعدم الجزم ببقاء رطوبة الذبابة ، وارتضاه.

فيحتمل أن يكون لعدم إثبات الاستصحاب لوصول الرطوبة إلى الثوب كما ذكرناه ، ويحتمل أن يكون لمعارضته باستصحاب طهارة الثوب ، إغماضاً عن قاعدة حكومة بعض الاستصحابات على بعض الخ (٢).

ولا يخفى أنّه لو كان المدرك هو اعتبار السريان لكان ينبغي التفصيل بين وجود الرطوبة المسرية في الثوب الطاهر وبين عدمها ، فإنّه على تقدير عدم وجود الرطوبة المسرية في الثوب لا يكون استصحاب النجاسة مجدياً ، لعدم إحراز السريان ، لكن على تقدير وجود الرطوبة المسرية في الثوب يمكن القول بكفاية استصحاب النجاسة في بدن الحيوان ، لأنّه من قبيل احراز أحد جزأي الموضوع بالأصل والآخر وهو السريان بالوجدان ، لكن سيأتي (٣) إن شاء الله أنّه إن كان أحد المتلاقيين واجداً للرطوبة المسرية فعلاً ، لم يكن الشكّ في نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ ناشئاً عن الشكّ في الرطوبة ، بل كان الشكّ فيها منحصراً بالشكّ في نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ ، واستصحاب نجاسته كافٍ في ذلك ، لكنّه خارج عمّا هو محل الكلام من استصحاب الرطوبة ، فإنّه منحصر في الشكّ في بقائها ، وإثباتها باستصحابها لا يترتّب عليه النجاسة المتوقّفة على تحقّق السريان.

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ٨٣.

(٢) فرائد الأُصول ٣ : ٢٤٤.

(٣) في الصفحة : ١٢٨ ـ ١٣٠.

١٢١

نعم لو لم نقل باعتبار السريان ، كان استصحاب الرطوبة المسرية في أحد المتلاقيين كافياً في الحكم بنجاسة الملاقي ، مع فرض كون الملاقى نجساً فعلاً ، أو أنّه محكوم بالنجاسة للاستصحاب.

وأراد شيخنا قدس‌سره توجيه ما عن المحقّق قدس‌سره بمطلب آخر غير مسألة توسّط السريان ، وذلك الوجه مبني على مسألة فقهية ، وهي أنّه لا ريب في طهارة جسم الحيوان بعد زوال عين النجاسة منه ، ولكن هل أنّه يتنجّس مورد النجاسة منه ويطهر بزوالها ، فيكون زوال عين النجاسة عنه مطهّراً ، أو أنّه لا ينجس أصلاً نظير البواطن ، وقد فرّعوا على ذلك الحكمَ بنجاسة ملاقيه مع الشكّ في بقاء عين النجاسة على جسم الحيوان على الأوّل ، دون الثاني فيحكم فيه بطهارة الملاقي ، لأنّه بناءً على الثاني لا يكون لنا إلاّ استصحاب بقاء النجاسة ، وهو لا يوجب الحكم بنجاسة الملاقي ، للشكّ في أنّ الملاقى هو نفس النجاسة أو الجسم الطاهر ، نظير ما لو كان في هذا المكان كلب مثلاً ، ثمّ احتملنا أنّه بدّل بشاة ، وقد لاقت يدنا ذلك الجسم الموجود مع الرطوبة ، فإنّ استصحاب بقاء الكلب لا يوجب الحكم بأنّ يدنا قد لاقت كلباً إلاّبالأصل المثبت ، وهذا بخلاف الوجه الأوّل ، فإنّه بناءً عليه يكون لنا استصحاب آخر وهو استصحاب متنجّسية جسم الحيوان ، وأشار إليه في الجواهر في مبحث الأسآر (١) وهو موجب للحكم بنجاسة ملاقيه ، وذكر ذلك المرحوم الحاج آغا رضا قدس‌سره في مبحث الأسآر (٢) فإنّه هناك ذكر القولين وأنّ الثمرة تظهر في الاستصحاب.

قال في العروة : الذباب الواقع على النجس الرطب إذا وقع على ثوب أو

__________________

(١) جواهر الكلام ١ : ٣٧٦ ـ ٣٧٧.

(٢) مصباح الفقيه ( كتاب الطهارة ) ١ : ٣٦٣ ـ ٣٦٤.

١٢٢

بدن شخص وإن كان فيهما رطوبة مسرية لا يحكم بنجاسته إذا لم يعلم مصاحبته لعين النجس ، ومجرّد وقوعه لا يستلزم نجاسة رجله لاحتمال كونها ممّا لا تقبلها ، وعلى فرضه فزوال العين يكفي في طهارة الحيوانات (١).

وقال شيخنا قدس‌سره في الحاشية : ولكن مع الشكّ في زوالها يحكم ببقاء ما تلوّث بها من أعضاء الحيوان على النجاسة ، وتنجّس ما يلاقيه على الثاني دون الأوّل ، والأظهر الثاني (٢).

وحينئذ فيمكن أن يكون الوجه فيما نقله في الذكرى عن المحقّق قدس‌سرهما هو بناءه قدس‌سره على الوجه الأوّل وهو عدم تنجّس بدن الحيوان ، ويكون استصحاب بقاء النجاسة لا أثر له إلاّبالأصل المثبت.

ثمّ لا يخفى أنّا لو بنينا على الثاني يمكن المناقشة في الاستصحاب المزبور للعلم التفصيلي بأنّ متنجّسية بدن الحيوان لم تؤثّر في نجاسة الملاقي ، لأنّ النجاسة إن كانت باقية عليه فتنجّس الملاقي يكون مستنداً إليها ، لأنّ الملاقاة إنّما تكون أوّلاً مع النجاسة التي هي على بدن الحيوان ، ثمّ بعد ذلك تكون مع نفس بدن الحيوان ، مثلاً لو كان على منقار الحيوان شيء من الدم أو العذرة وقد أدخل منقاره في الماء القليل ، فقد تنجّس ذلك الماء القليل بأوّل ملاقاته للدم ، فلا يكون

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ١٦٩ مسألة (٢).

(٢) وقد تعرّض في العروة في العاشر من المطهّرات [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٢٨٧ ـ ٢٨٨ ] لهذين القولين في الحيوان والبواطن ، ورتّب على ذلك ثمرات لكنّها في البواطن ، ولم يذكر الثمرة في الحيوانات ، وعلّق عليه شيخنا هناك ما مفاده اختيار نجاسة الحيوان وطهارته بزوال عين النجاسة ، وعدم تنجّس البواطن ، فراجع [ منه قدس‌سره ].

١٢٣

ملاقاة ذلك الماء بعد ذلك لجسم الحيوان مؤثّرة في تنجّسه ، لأنّه قد تنجّس بملاقاة الدم في الدرجة الأُولى ، فلا تؤثّر فيه ملاقاته في الدرجة الثانية للمتنجّس الذي هو بدن الحيوان ، ولو أُغضي النظر عن ذلك فلا أقل من أنّ ملاقاة المتنجّس لا أثر لها مع فرض ملاقاة النجاسة. وإن لم تكن باقية فلم يتنجّس الملاقي ، وعلى أي حال لا يمكن الحكم التعبّدي بتنجّس الملاقي لجسم الحيوان وتأثّره منه.

وبعبارة أوضح : أنّا نقطع بأنّ متنجّسية بدن الحيوان لم تؤثّر في الملاقي فكيف يصحّ التعبّد ببقائها ، والمفروض أنّها لا أثر لها إلاّتنجيس الملاقي.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا المقدار من العلم لا يكون موجباً لسقوط الأصل التعبّدي ، فتأمّل.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال ـ أعني العلم التفصيلي بأنّ متنجّسية بدن الحيوان لا أثر لها ـ إنّما يكون متوجّهاً فيما لو كان الموجود هو عين النجاسة ، أمّا مثل الرطوبة المتنجّسة ففي توجّه الإشكال المزبور تأمّل وإشكال ، منشؤه أن ملاقاة المتنجّس الذي على بدن الحيوان وإن أثّر في تنجّس الملاقي في الدرجة الأُولى ، إلاّ أنّ ملاقاته لنفس بدن الحيوان بعد ذلك هل تكون مؤثّرة في ناحية ذلك الملاقي ، أو أنّه لا أثر للملاقاة بعد ذلك؟ والظاهر الثاني.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال إنّما يتوجّه فيما لو كان الأثر منحصراً بما ذكرناه من تنجيس ملاقيه ، أمّا لو كان هناك أثر آخر مثل جواز الصلاة فيه فلا غبار فيه على الاستصحاب المذكور ، مثلاً لو وقع الدم على صوف الحيوان ثمّ جزّ ذلك الصوف ، واحتملنا أنّ الدم قد زال منه قبل الجز ، وحينئذ نقول : بناءً على التنجّس نستصحب تنجّس ذلك الصوف فلا يجوز لنا الصلاة فيه ، أمّا لو قلنا بعدمه فلنا الصلاة فيه ، ولا يمنع استصحاب وجود الدم لأنّه ملحق بالمحمول ، أو لإمكان

١٢٤

التخلّص منه بفركه وإزالة الدم المحتمل عنه (١).

قوله : ولعلّه لقيام السيرة على عدم الاعتناء بملاقاة الذباب الطائر من المحل النجس ... الخ (٢).

لو ثبتت هذه السيرة وتمّت لم تكن كاشفة عن عدم تنجّس بدن الحيوان ، بل لعلّها ناشئة عن عدم إحراز السريان ، اللهمّ إلاّ أن يدّعى تحقّقها حتّى مع إحراز السريان وجداناً في الملاقي الطاهر ، بأن كان ماء أو كان ثوباً مشتملاً على الرطوبة المسرية.

تكميل (٣) في ذكر جملة من الفوائد المترتّبة على كلا القولين ذكرها شيخنا الخال قدس‌سره (٤) في مجلس درسه الشريف :

الفائدة الأُولى : فيما لو شرب حيوان ماء نجساً ، ثمّ أدخل فمه في ماء طاهر واحتمل بقاء النجاسة والبلل على فمه ، وحينئذ فعلى القول بتنجّس بدن الحيوان تستصحب نجاسته ، لاحتمال عدم زوال المتنجّس عنه ، ويحكم بنجاسة الماء الثاني ، وعلى القول الآخر لا يجري الاستصحاب لعدم اليقين من النجاسة حدوثاً ، واستصحاب بقاء البلل على فمه لا يثبت نجاسة الماء الثاني إلاّبنحو مثبت.

__________________

(١) ينبغي مراجعة كلام الشيخ قدس‌سره في مبحث الأسآر [ من كتاب الطهارة ١ : ٣٧٩ ـ ٣٨٠ ] في إنكار الثمرة المذكورة ، وقد نقلناها فيما حرّرناه على العروة في هذه المباحث [ منه قدس‌سره ].

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٩٧.

(٣) [ في الأصل هنا بياض بمقدار صفحة ، وبعده كتب المصنّف قدس‌سره هذا التكميل المنقول عن السيّد إسماعيل الصدر قدس‌سره ].

(٤) هو المرحوم الشيخ محمّد رضا آل ياسين قدس‌سره [ منه قدس‌سره ].

١٢٥

الفائدة الثانية : فيما لو يبست (١) النجاسة على بدن الحيوان وبعد ذلك ذبح ، فعلى القول بالنجاسة لا تجوز الصلاة فيه لنجاسته ، وعلى الثاني تجوز بناءً على جواز الصلاة في الثوب الحامل للنجس ، إذ أنّ نفس الثوب لا يكون نجساً وإنّما النجس ما علق به.

الفائدة الثالثة : نقلها (٢) عن أحد تلامذته ، إذ كان قد قرّر له الثمرة قبل مجلس الدرس فنقلها عنه في البحث ، وهي أنّه لو علم بملاقاة النجاسة لبدن حيوان معيّن وزوالها ، ثمّ علم إجمالاً بموت أحد الحيوانين المردّد بينه وبين غيره قبل زوال النجاسة ، فإنّه على القول بالنجاسة تستصحب نجاسة بدن ذلك الحيوان الذي يحتمل موته ، للشكّ في بقاء نجاسته ، إذ هو على فرض كونه هو الميّت فقد خرج عن كونه حيواناً فلا يجدي زوال النجاسة في تطهير بدنه ، وعلى فرض كونه حياً يكون قد طهر بدنه بإزالة النجاسة ، فيجري استصحاب النجاسة. ولا يجري

__________________

(١) هذه الفائدة والخامسة مبنية على أنّ اليبس لا يوجب الطهارة ، وأنّ النجاسة لاترتفع إلاّبزوال عين النجاسة ، ولا حاجة إلى توسّط الذبح ، بل يمكن الفرض بوقوع الدم على صوف الحيوان ثمّ بعد جفافه يجزّ صوفه ، ويفرك الدم وينسج الصوف [ منه قدس‌سره ].

(٢) ومثل ذلك لو جزّ الصوف من أحد الحيوانين ولم يعلم أنّه هو الذي زالت عنه النجاسة قبل الجزّ ، أو أنّه هو الذي يبست نجاسته ولم تزل وقد وقع الجزّ بعد اليبس وهذا الاستصحاب من قبيل استصحاب نجاسة الدم المردّد بين كونه من المسفوح وكونه من المتخلّف في الذبيحة ، وقد أفاد شيخنا الأُستاذ قدس‌سره أنّه لا يجري فيه الاستصحاب ، لعدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، فراجع ما حرّرناه عنه [ الظاهر أنّ المقصود بذلك هو تحريراته المخطوطة عن شيخه قدس‌سره. وعلى أي حال راجع الحاشيتين الآتيتين في الصفحة : ١٧٨ و ١٩١ ] وما علّقناه عليه في التنبيه المتعلّق بذلك [ منه قدس‌سره ].

١٢٦

استصحاب حياته الحاكم على استصحاب النجاسة ، لأنّه معارض بمثله في الحيوان الآخر فيما لو فرض لموته أثر إلزامي كنجاسة بدنه ، ليجري الاستصحاب بلحاظه ويسقط بالمعارضة. وأمّا على القول بعدم التنجّس ، فلا يجري استصحاب النجاسة بل أصالة الطهارة ، إذ لا نجاسة حدوثاً حتّى تستصحب.

الفائدة الرابعة : أنّ ما يشكّ (١) في كونه من نجس العين إذا أصابته نجاسة وزالت عنه ، فعلى القول بالتنجّس يجري استصحاب نجاسته المردّدة بين الذاتية والعرضية ، دونه على القول الآخر.

الفائدة الخامسة : فيما لو يبست (٢) النجاسة على بدن الحيوان ثمّ ذبح ، فإنّه على القول بالنجاسة لا يطهر بالفرك والازالة لأنّه قد تنجّس ، والازالة بعد الموت لا ترفع نجاسته. وعلى الثاني يمكن الاكتفاء بالفرك وإزالة النجاسة ، لأنّه حال حيوانيته لم يتنجّس ، وحين موته كانت النجاسة يابسة بحسب الفرض. انتهى منقولاً عن خط جناب السيّد إسماعيل نجل المرحوم السيّد حيدر الصدر ، وذكر لي أنّ مأخذ ذلك عن درس جدّه المرحوم السيّد إسماعيل الصدر قدس‌سره.

__________________

(١) ونظير ذلك ما لو أصابت النجاسة الجسم المردّد بين كونه دماً منجمداً مثلاً أوكونه جسماً طاهراً ثمّ غسلناه بالماء ، في أنّ الجاري هو استصحاب الكلّي من النجاسة المردّد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، فراجع ما حرّرناه في المثال المزبور في التنبيه الثالث [ منه قدس‌سره. قد تعرّض قدس‌سره لنظير هذا الفرع في حواشيه على التنبيه الثالث من تنبيهات الاستصحاب فراجع المجلّد التاسع من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٢٤ والصفحة : ٣٤١ ].

(٢) يمكن القول بأنّ النجاسة لبدن الحيوان أو صوفه وإن بقيت بعد اليبس ، إلاّ أنّه من الممكن غير البعيد أن لا يكون موته أو تذكيته أو جزّ صوفه موجباً لتأكّد نجاسته ، على وجه لا ترتفع إلاّبالغسل ولا يكفي فيها الفرك والإزالة المجرّدة [ منه قدس‌سره ].

١٢٧

قال المرحوم الحاج آغا رضا قدس‌سره في الجزء الأخير من الطهارة : تنبيه : عدّ بعض الأصحاب من جملة المطهّرات غيبة الإنسان وزوال العين من باطنه ومن بدن الحيوان. أقول : أمّا طهارة بدن الحيوان بعد زوال العين فقد عرفت في مبحث الأسآر أنّها ممّا لا ينبغي الاستشكال فيه ، لكن لو منعنا سراية النجاسة من المتنجّسات الجامدة الخالية من العين ـ كما نفينا عنه البعد عند التكلّم في مسألة السراية ـ أشكل استفادة طهارة الحيوان من الأدلّة المتقدّمة في ذلك المبحث ، فإنّها لا تدلّ إلاّعلى طهارة السؤر التي لا ينافيها بقاء الحيوان على نجاسته على هذا التقدير ، فليس حكم الحيوان حينئذ مخالفاً لحكم سائر المتنجّسات ، ومقتضى الأصل انفعاله بالملاقاة وبقاء نجاسته إلى أن يغسل ، فلا يجوز اتّخاذ جلده أو صوفه ثوباً للمصلّي (١).

ذكر السيّد قدس‌سره في العروة في المسألة الأُولى من مسائل المطهّر العاشر ـ أعني زوال عين النجاسة عن بدن الحيوان والبواطن ـ أنّه عند الشكّ في كون الشيء من البواطن يكون المرجع فيه هو استصحاب النجاسة على القول الأوّل واستصحاب الطهارة على القول الثاني (٢) ، وحينئذ يكون هذا الحكم في الفرع ـ أعني فرع الشكّ ـ من ثمرات القولين ، فراجع ما حرّرناه (٣) هناك.

قوله في تحريرالسيّد سلّمه الله : هذاكلّه في غيرالحيوان المتلطّخ بعض أجزائه بالرطوبة النجسة أوالمتنجّسة ، وأمّا فيه فقد يقال بالتفصيل ... الخ (٤).

لا يخفى أنّ هذا التفصيل جار بعينه فيما لو كان النجس غير الحيوان بناءً

__________________

(١) مصباح الفقيه ( كتاب الطهارة ) ٨ : ٣١٢.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٢٨٩.

(٣) مخطوط لم يطبع بعدُ.

(٤) أجود التقريرات ٤ : ١٣٧ ـ ١٣٨.

١٢٨

على اعتبار السريان ، فإنّ الماء الطاهر أو الثوب الطاهر المشتمل على الرطوبة المسرية لو لاقى ما هو مستصحب النجاسة يحكم بنجاسته ، وإن كان الملاقى ـ بالفتح ـ جافّاً ، لتحقّق الملاقاة والسريان بالوجدان ، وثبوت النجاسة في الملاقى ـ بالفتح ـ بالاستصحاب ، من دون حاجة في الملاقى ـ بالفتح ـ إلى رطوبة فعلية أو إلى استصحابها كي يقال : إنّ استصحاب الرطوبة فيه مثبت للسريان.

نعم ، لو كان الثوب الطاهر جافّاً وقد لاقى النجس المستصحب الرطوبة لم يحكم بنجاسته استناداً إلى استصحاب كون النجس الملاقى ـ بالفتح ـ رطباً ، بناءً على اعتبار السريان ، بخلاف ما لو قلنا بعدم اعتبار السريان ، لإمكان الحكم بالنجاسة حينئذ استناداً إلى الاستصحاب المذكور. ومن ذلك تعرف أنّه لا حاجة إلى الرطوبة في طرف الملاقى ـ بالفتح ـ ، فينبغي إبدال لفظ « الرطوبة » في قوله : « مع الشكّ في بقاء الرطوبة » بلفظ « النجاسة » ، وكذلك لفظ « رطوبته » في قوله : « للشكّ في بقاء رطوبته » فإنّ اللازم إبدالها بلفظ « النجاسة » الموجودة فيه وإن كانت جافّة.

والذي تلخّص : أنّ أحد المتلاقيين لو كان مشتملاً على الرطوبة المسرية ، وكان أحدهما نجساً سابقاً وقد تلاقيا الآن ، يحكم بنجاسة الطاهر منهما حتّى لو قلنا باعتبار السريان ، لكن ذلك خارج عمّا نحن فيه من أنّ المستصحب هو الرطوبة المسرية ، لأنّ المفروض أنّ الرطوبة في أحدهما وجدانية ، وإنّما المستصحب هو نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ ، والذي نحن فيه هو كون النجاسة لأحد المتلاقيين فعلية وجدانية ، ولكن المستصحب هو الرطوبة المسرية في أحد المتلاقيين ، والمدّعى عدم جدوى استصحاب الرطوبة في أحدهما استناداً إلى دعوى اعتبار السراية ، وأنّ استصحاب الرطوبة المسرية سواء كانت في النجس

١٢٩

الملاقى ـ بالفتح ـ أو كانت في الطاهر الملاقي ـ بالكسر ـ لا تثبت السراية كي يترتّب عليه الحكم بالنجاسة ، بخلاف ما لو قلنا بعدم اعتبار السراية والاكتفاء بمجرّد الملاقاة للنجس مع الرطوبة ، فإنّ الملاقاة للنجس وجدانية ، وكون الملاقي أو الملاقى رطباً بالأصل ، فيتمّ الموضوع ويحكم بالنجاسة.

بل لو كان الملاقى مستصحب النجاسة وكانت الرطوبة في أحد المتلاقيين أيضاً استصحابية ، كان ذلك كافياً في الحكم بالنجاسة ، بناءً على القول المزبور أعني عدم اعتبار السريان.

ومنه يعلم أنّه بناءً على تنجّس بدن الحيوان بعلوق النجاسة به لو كانت رطوبته من تلك النجاسة أو رطوبة ملاقيه الطاهر مستصحبة كما أنّ نجاسته مستصحبة أيضاً ، كان داخلاً فيما نحن فيه من الحكم بنجاسة ملاقيه ، بناءً على عدم اعتبار السريان ، بخلافه بناءً على اعتباره ، أمّا لو كانت رطوبة ملاقيه وجدانية كما فرضه في هذا التحرير ، فهو خارج عمّا نحن فيه ، إذ ليس المستصحب حينئذ هو الرطوبة ، بل المستصحب هو نجاسة الملاقى الذي هو بدن الحيوان ، كما أنّه لو كانت الرطوبة في بدن الحيوان وجدانية كان أيضاً خارجاً عمّا نحن فيه ، إذ لا يكون محتاجاً إلى استصحاب النجاسة فضلاً عن استصحاب الرطوبة ، لأنّ كلاً منهما وجداني ، فيكون الحكم بتنجّس ملاقيه وجدانياً أيضاً ، فلاحظ.

قوله : فاستصحاب الرطوبة لا يترتّب عليه أثر شرعي بنفسه ، فلا يكون جارياً ... الخ (١).

الوجه في ذلك هو ما عرفت فيما تقدّم من أنّ استصحاب الرطوبة النجسة في جسم الحيوان أو استصحاب كون جسم الحيوان رطباً لا يترتّب عليه ما هو

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٣٨.

١٣٠

موضوع نجاسة الملاقي ، أعني ملاقاته للنجس ، حتّى لو قلنا بكفاية الملاقاة للنجس مع الرطوبة من أحد المتلاقيين ولم نعتبر السريان.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أُفيد بقوله : ولكن يمكن أن يقال ـ إلى قوله ـ مع إحراز الجزء الآخر ـ وهو الملاقاة ـ بالوجدان (١) فإنّ الموضوع هو ملاقاة النجس ، وقد عرفت أنّ استصحاب بقاء الرطوبة في الحيوان أو استصحاب كون جسمه رطباً لا يثبت الملاقاة للنجس ، إلاّباعتبار الملازمة بين بقاء الرطوبة النجسة وبين كون هذه الملاقاة ملاقاة للنجاسة التي هي على جسم الحيوان ، من دون فرق في ذلك بين اعتبار السريان وعدمه ، وهكذا الحال فيما لو كانت الرطوبة المستصحبة هي رطوبة الطاهر الملاقي له ، بل لو كانت رطوبة الطاهر وجدانية لم يكن استصحاب وجود النجاسة على بدن الحيوان نافعاً في الحكم بنجاسة ملاقيه ، فإنّ استصحاب كون بدن الحيوان حاملاً للنجاسة لا يترتّب عليه نجاسة ما لاقى ذلك البدن وإن كان الملاقي ماءً ، إذ لا يثبت بذلك كون الماء قد لاقى النجاسة التي كان الحيوان حاملاً لها. نعم على القول باعتبار السريان يكون الأصل في الرطوبة مثبتاً من الجهتين ، إحداهما كون الملاقاة ملاقاة للنجس والأُخرى إثبات السريان. ومنه أيضاً يظهر التأمّل فيما أُفيد من قوله : فلا فرق الخ ، فلاحظه وتأمّل.

قوله : لأنّ التركيب إنّما يعقل في موضوعات الأحكام لا في مداليل الألفاظ ، فإنّ مداليل الألفاظ كلّها تكون ... الخ (٢).

توضيح هذا المبحث : هو أن يقال إنّه لا شبهة في كون يوم العيد الواقعي هو

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٩٩.

١٣١

أوّل يوم من شهر شوّال ، كما لا شبهة في أنّ ذلك اليوم هو من أيّام شوال ، ولكن بماذا امتاز به ذلك اليوم حتّى صار يستحقّ أن يسمّى بالأوّل من شهر شوال ، فنقول : إنّ لذلك اليوم جهتين من الاضافة : الأُولى : إضافته لما بعده من تمام الباقي من أيّام الشهر باعتبار كونه سابقاً عليه ، وأنّ وجوده قبل وجوده ، وهذه الجهة جهة وجودية. والثانية إضافته لما قبله ، ويعني باضافته لما قبله لحاظه بالنسبة إلى ما قبله باعتبار كونه غير مسبوق بمثله من أيّام شوال ، وهذه الجهة جهة عدمية منتزعة من عدم وجود مثله قبله. وهاتان الجهتان هما اللتان ميّزتا ذلك اليوم عن بقيّة أيّام شوال ، على وجه صار يستحقّ إطلاق لفظ « الأوّل » عليه دون باقي الأيّام ، فهل الملاك في ذلك هو الجهة الأُولى فقط دون الثانية ، أو أنّ الملاك فيه هو الجهة الثانية دون الأُولى ، أو أنّ الملاك في ذلك هو كلا الجهتين؟

لا يبعد القول بأنّ الملاك في ذلك هو الجهة الثانية فقط دون الأُولى ، لأنّ مجرّد كون ذلك اليوم سابقاً في الوجود على ما بعده لا يحقّق كونه أوّلاً ، لأنّ كلّ واحد من تلك الأيّام سابق في الوجود على ما قبله.

إلاّ أن يقال : إنّ أسبقيته بالوجود إنّما هي بالنظر إلى تمام أيّام شوال لا خصوص ما بعده ، وحينئذ تعود الأسبقية بهذا المعنى الذي هو السابق على جميع الأيّام إلى الجهة الثانية ، أعني أنّه لم يسبق بمثله ، ولا أقل من الفهم العرفي من لفظ الأوّل ، فإنّ العرف يفهم منه ما لم يكن مسبوقاً بمثله ، كما أفاده الشيخ قدس‌سره بقوله : فالأوّل عندهم هو ما لم يسبق بمثله (١) ويتّضح ذلك بمقابلة الأوّل والوسط والآخر ، فإنّ الظاهر من الآخر ما لم يكن بعده شيء مثله ، والوسط ما كان مقروناً بمثله من قبله ومن بعده ، والمراد بالأوّل ما لم يكن مسبوقاً بشيء مثله من قبله. وإذا تمّ لنا

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ٢٤٥.

١٣٢

هذا الفهم العرفي كان كافياً فيما نحن بصدده من تعيين موضوع الدليل بحسب الفهم العرفي ، وليس ذلك من قبيل التصرّف منهم في المصداق كي لا يكون متّبعاً ، بل هو من باب تعيين مفهوم « الأوّل » الموضوع في الدليل الدال على ترتيب جملة من الأحكام على عنوان « الأوّل » ، وبذلك يكون مفهوم « الأوّل » مؤلّفاً من جهة وجودية وهي كون اليوم من شوال ، وأُخرى عدمية وهي عدم مسبوقيته بمثله.

ثمّ إنّ انضمام هذه الجهة العدمية إلى تلك الجهة الوجودية ليس من قبيل مفاد ليس الناقصة ، بل هو من قبيل مفاد ليس التامّة ، لأنّ هذا التركّب من قبيل التركّب من عرضين لموضوعين ، فلا يكون إلاّمن قبيل الاجتماع في الوعاء المناسب دون التركّب الوصفي ، وبناءً عليه يكون استصحاب عدم دخول شوال إلى ذلك اليوم كافياً في ترتّب الآثار اللاحقة للأوّل على ذلك اليوم ، ويكون من قبيل إحراز أحد جزأي الموضوع بالوجدان وهو كونه من شوال ، وإحراز الآخر بالأصل وهو عدم وجود شوال قبله.

أمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّ الواقع وإن كان كذلك من التركّب المذكور إلاّ أنّ مفهوم « الأوّل » ليس هو عين ذلك المركّب ، بل هو أمر بسيط منتزع من ذلك المركّب ببرهان أنّ مدلولات الألفاظ لمّا كانت مدركات ذهنية وموجودات عقلية كانت من البسائط لا محالة ، فيمكن التأمّل فيه :

أوّلاً : بأنّ كون المفهوم البسيط منتزعاً عن المركّب لا يوجب المباينة واقعاً بينه وبين المركّب ، لأنّ نسبة ذلك المفهوم البسيط إلى ذلك المركّب المنتزع عنه ليست من قبيل نسبة المسبّبات إلى أسبابها ، بل هي نسبة الاتّحاد والعينية واقعاً ، ولو أوجب ذلك المباينة لم يمكن الرجوع فيما يشكّ في كونه جزءاً من الصلاة أو

١٣٣

شرطاً إلى البراءة ، بل كان من قبيل الشكّ في المحصّل ، والظاهر أنّه لا فرق في هذه الجهة بين ما هو متعلّق التكليف وبين ما هو موضوع للحكم الشرعي ، ولعلّ ذلك هو المشار إليه في التنبيه الثامن في الكفاية وهو : أنّه لا تفاوت في الأثر المترتّب على المستصحب بين أن يكون مترتّباً عليه بلا وساطة شيء ، أو بوساطة عنوان كلّي ينطبق ( عليه ) ويحمل عليه بالحمل الشائع ( الصناعي ) ، الخ (١). هذا في موضوعات الأحكام ، وأمّا ما يكون في متعلّقاتها فلعلّه هو المشار إليه في مبحث الصحيح والأعمّ في الكفاية بقوله : مدفوع بأنّ الجامع إنّما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المركبات الخ (٢) فراجع.

وثانياً : بأنّ المفاهيم وإن كانت بسيطة إلاّ أنّ ما هو متعلّق التكليف أو ما هو من موضوعات الأحكام ليست هي نفس المفاهيم العقلية ، بل إنّما هي الأُمور الواقعية المحكية بتلك المفاهيم العقلية الذهنية.

وثالثاً : أنّ الصور الذهنية المعبّر عنها بالمفاهيم تكون تابعة في البساطة والتركيب للأُمور الواقعية التي تحكيها ، فإن كان ما تحكيه الصورة مركّباً كانت تلك الصورة الذهنية الموجودة منه في الذهن مركّبة أيضاً ، وإلاّ لم يكن مايز بين المفهوم الحاكي عن هذه الصورة عن المفهوم الحاكي عن الصورة الأُخرى (٣).

وما أُفيد في الجواب عنه بأنّ ما به الامتياز في البسائط العقلية هو عين ما به الاشتراك (٤) ممّا [ لم ] أتوفّق لفهمه ، على أنّه إنّما يكون ذلك في الكلّيات العقلية

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤١٦.

(٢) كفاية الأُصول : ٢٥.

(٣) [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، والظاهر أنّ المراد : وإلاّ لم يكن مايز بين المفهوم الحاكي عن هذا الواقع وبين المفهوم الحاكي عن واقع آخر ].

(٤) [ في الأصل : « الامتياز » بدل « الاشتراك » ].

١٣٤

دون الصور الذهنية الحاكية عن الموضوعات الخارجية ، فإنّها تابعة لا محالة لذي الصورة.

ورابعاً : أنّ هذا لو تمّ لكان جارياً في جميع الموضوعات المركّبة ، مثل صلّ خلف العادل أو قلّد العادل ، فيما إذا شكّ في بقاء عدالته ، لأنّه حينئذ يقال : إنّ العادل وإن كان مركّباً من الحياة والعدالة ، إلاّ أنّ مدلول العادل لمّا كان مفهوماً بسيطاً لم يمكن إحراز أحد جزأيه بالأصل والآخر بالوجدان.

على أنّه يمكن التأمّل والتشكيك في أصل وجود هذه الصورة المعبّر عنها بأنّها صورة ذهنية منطبعة في النفس ، فإنّ جميع هذه الأُمور قابلة للمنع ، إذ ليس لنا إلاّ الواقع وانكشافه لدى النفس ، وهذه الألفاظ التي نوردها ونحكم عليها لا تحكي إلاّنفس ذلك الواقع المفروض انكشافه لنا.

ودعوى أنّها تحكي أوّلاً عن نفس الصور الذهنية ، وأنّ الصور الذهنية تكون هي الحاكية عن الواقع ، قابلة للمنع والتأمّل ، إذ لا نجد في أنفسنا في القضايا التي نوردها إلاّ الحكاية عن الواقع المنكشف لنا.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد بقوله : بل لابدّ من أن يكون « الأوّل » موضوعاً للمعنى البسيط الحاصل منهما ، ولو كان ذلك المعنى البسيط نفس اجتماع المفهومين في الزمان ، كما إذا فرض أنّ الواضع تصوّر مفهوم اجتماع المفهومين في الزمان ووضع لفظ « الأوّل » بازاء مفهوم الاجتماع ، ومن المعلوم أنّ ضمّ الوجدان إلى الأصل لا يثبت عنوان الاجتماع إلاّعلى القول بالأصل المثبت (١) ، فإنّه لا ريب في أنّ « الأوّل » ليس هو عبارة عن نفس الاجتماع ، وإنّما أقصى ما في البين هو أن يقال : إنّ لفظ « الأوّل » هو ما اجتمع فيه

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٩٩.

١٣٥

الأمران ، كونه من شوال وعدم مثله في الزمان السابق ، بمعنى أنّ « الأوّل » هو المتّصف بعدم المسبوقية بمثله ، وذلك لا يخرجه عن التركيب إلى البساطة ، فإشكال بساطة المفهوم المقتضية لبساطة المعنى المحكي به بعدُ باق بحاله ، لأنّ أخذ الاجتماع صفة لليوم أو أخذ عدم المسبوقية بالمثل صفة له لا تخرجه عن التركيب ، فكيف انطبق عليه المفهوم البسيط.

نعم ، قد يقال : إنّ اليوم الموصوف بهذا الوصف إنّما هو على مفاد ليس الناقصة ، فيكون الأصل مثبتاً من هذه الجهة ، لكنّك قد عرفت أنّ هذا التركّب ليس من هذا القبيل ، بل هو من قبيل مفاد ليس التامّة كما هو الشأن في كلّ موضوع مركّب من عرضين لموضوعين ، فإنّ أحد العرضين وهو كونه من شوال عرض لليوم نفسه ، والآخر وهو عدم وجود مثله قبله أو وجود ضدّه قبله عرض لليوم الذي قبله ، وقد حقّق هو قدس‌سره أنّ التركّب في مثل ذلك لا يكون إلاّمن قبيل الاجتماع في الزمان لا من قبيل التركّب الوصفي الذي هو هنا مفاد ليس الناقصة.

كما أنّه قد ظهر لك أنّه لا يمكن القول بأنّ « الأوّل » موضوع للعنوان المنتزع من هذين الجزأين إن كان المقصود من العنوان المنتزع هو عبارة عن الاجتماع المذكور ، إذ لا ريب أنّ « الأوّل » لم يكن عبارة عن نفس الاجتماع ، وإن كان المقصود من العنوان المنتزع هو العنوان الوصفي اللاحق لذات اليوم باعتبار اتّصافه بعدم وجود مثله قبله ، فذلك العنوان وإن كان بسيطاً إلاّ أنّه ليس الموضوع للأحكام إلاّ المعنون لا العنوان نفسه ، وقد عرفت أنّ المعنون مركّب لا بسيط ، وأنّ التركيب فيه من باب محض الاجتماع في الزمان لا من باب التركب الوصفي.

والذي يتلخّص من مجموع ما أُفيد في هذا التحرير : هو عدم الجدوى في استصحاب بقاء رمضان أو عدم دخول شوال لاثبات كون ما بعد يوم الشكّ أوّل

١٣٦

شوال ، لأحد أُمور ثلاثة مستفادة من مجموع كلماته : الأوّل : أنّ الأوّلية ليست هي عين ذلك المركّب ، بل هي منتزعة منه. الثاني : أنّ ما هو موضوع الحكم هو مدلول لفظ « الأوّل » ، وليس ذلك إلاّ الصورة الذهنية البسيطة. الثالث : أنّه لو سلّمنا أنّ « الأوّل » عبارة عن اجتماع أجزاء ذلك المركّب ، لكن ذلك ـ أعني الاجتماع ـ لا يثبت بالأصل المذكور والوجدان المزبور.

وقد عرفت التأمّل في ذلك كلّه. أمّا الوجه الأوّل ، فلما عرفت من أنّ مجرّد الانتزاع لا يوجب التعدّد والمباينة بين العنوان وما هو المنتزع منه. وأمّا الثاني ، فلأنّ مداليل الألفاظ لو قلنا إنّها الصور الذهنية وهي بسائط ، إلاّ أنّ موضوع الحكم ليس هو نفس الصورة الذهنية على نحو الموضوعية ، بل إنّ الموضوع هو ما تحكيه تلك الصور وهو مركّب. وأمّا الثالث ، فلأنّ الموضوع ليس هو عنوان « الاجتماع » ، بل الموضوع هو نفس الأجزاء ، فإذا وجدت تلك الأجزاء في الوعاء المناسب لها ولو بواسطة الأصل في بعضها أو كلّها ، كان ذلك كافياً في تحقّق الموضوع المركّب ، إذ ليس وجودها في الوعاء المناسب لها إلاّعبارة عن اجتماعها في ذلك الوعاء ، هذا.

ولكن تحرير السيّد سلّمه الله لم يشتمل إلاّعلى الأمر الثاني من هذه الأُمور فراجع ، وهذا نصّ عبارته : وإن قلنا بأنّه مفهوم بسيط لازم لهذين الأمرين ـ كما هو الصحيح ، لما ذكرناه مراراً من أنّ المفاهيم والمدركات العقلية بسيطة في أعلى مراتب البساطة ، وليس شيء منها مركّباً من مفهومين متغايرين ـ فيتوقّف إثبات عنوان الأوّلية أو الثانوية ـ مثلاً ـ بالاستصحاب على القول بالأُصول المثبتة (١).

ووجه التأمّل فيه ما عرفت من أنّ ما هو موضوع التكليف أو ما هو متعلّقه

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٣٩.

١٣٧

ليس هو تلك الصور الذهنية ، بل إنّ الموضوع أو متعلّق التكليف إنّما هو الواقعيات المحكية بتلك الصور الذهنية ، ومن الواضح أنّ بساطة الحاكي لا توجب بساطة المحكي ، وإلاّ لاستحال امتثال تلك التكاليف واستحال تعلّق الأحكام بها ، فلم يبق إلاّدعوى أخذ تلك الصور الذهنية في موضوعات الأحكام وهو محال ، كما قاله في الكفاية (١) في مبحث المعاني الحرفية وغيره من المباحث ، وكيف يمكن أن تكون الصورة الذهنية للعالم في مثل أكرم العالم وقلّد المجتهد ، موضوعاً لوجوب الاكرام ووجوب التقليد ، بل قد جعل في الكفاية هذه الاستحالة برهاناً على عدم أخذ الوجود الذهني قيداً في كلّ من المعاني الاسمية والحرفية.

والذي حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام لعلّه يختلف بعض الاختلاف عن هذين التحريرين ، فإنّه بعد أن حرّر الوجه في التركيب قال ما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه قدس‌سره : ولا يخفى أنّ المفاهيم التي وضعت الألفاظ بازائها وإن كانت حاكية عن مركّب خارجاً ، إلاّ أنّها لمّا كانت هي الصور الذهنية المنتزعة منها فلا محالة تكون بسيطة ، وحينئذ فلفظ « الأوّل » لا يمكن أن يكون موضوعاً إلاّلذلك المفهوم البسيط المنتزع من ذينك الأمرين ، ويستحيل أن يكون مفهومه مركّباً من ذينك المفهومين ، إذ لا يمكن الحكاية عن ذينك المفهومين إلاّبلفظين يكون أحدهما حاكياً عن أحد المفهومين والآخر حاكياً عن المفهوم الآخر ، وإذا كان مفهوم « الأوّل » أمراً بسيطاً منتزعاً عن ذلك المركّب لا أنّه عينه مفهوماً وإن كان عينه خارجاً ، وكانت نسبته إليه نسبة المسبّبات إلى أسبابها التوليدية ، لم يكن إحراز أحد ذينك الجزأين بالأصل والآخر بالوجدان كافياً في تحقّق مفهومه إلاّ بالأصل المثبت.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١١.

١٣٨

ثمّ أفاد ما حاصله : أنّ هذا الإشكال إنّما يتوجّه إذا كان موضوع الحكم هو عنوان « الأوّل » ، فإنّه يتوجّه حينئذ أنّ مفهوم « الأوّل » لابدّ أن يكون بسيطاً منتزعاً عن ذلك المركّب ، ولكن الأحكام الشرعية لم تترتّب على هذا المفهوم ، بل إنّما رتّبت على الواحد والثلاثين أو رؤية الهلال ، وحينئذ فيجري فيه الاستصحاب للشهر السابق في يوم الشكّ ، ويترتّب عليه أوّلية ما بعده للشهر اللاحق لكونه الواحد والثلاثين ، ويكون ممّا أحرز فيه أحد جزأي الموضوع بالأصل والآخر بالوجدان انتهى.

قوله : ولكن يمكن دفع الإشكال بأنّ الظاهر كون المراد من « أوّل الشهر » في موضوع الأحكام هو يوم رؤية الهلال أو اليوم الذي انقضى من الشهر الماضي ثلاثون يوماً ـ إلى قوله ـ فيكون اليوم الواحد والثلاثون أوّل الشهر المستقبل ، وبعده ثانيه ، وهكذا ... الخ (١).

ظاهره أنّ الشارع تصرّف في مفهوم أوّل الشهر واعتبره كونه الواحد والثلاثين من الشهر السابق ، فهل المراد أنّه يكون أوّلاً واقعياً أو ليس في البين إلاّ أنّه أوّل بحسب الحكم الظاهري ، والظاهر من هذه العبارة أنّه أوّل واقعي ، وحينئذ يمكن التأمّل فيه من جهة أنّ هذا التصرّف إنّما استفيد من أدلّة اعتبار الرؤية وأدلّة إكمال العدّة ، وكلامنا إنّما هو مع عدم الرؤية ، فينحصر الأمر حينئذ بإكمال عدّة الثلاثين من الشهر السابق ، وذلك مثل قوله عليه‌السلام ـ كما في الوسائل وغيرها ـ : « فإذا خفي الشهر فأتمّوا العدّة شعبان ثلاثين وصوموا الواحد والثلاثين » (٢) ، ومثل

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٩٩ ـ ٥٠٠.

(٢) وسائل الشيعة ١٠ : ٢٦٦ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ١٦ ( مع اختلاف يسير ).

١٣٩

قوله عليه‌السلام : « وإن غمّ عليكم فعدّوا ثلاثين يوماً ثمّ أفطروا » (١). ونحوهما غيرهما مثل قوله عليه‌السلام : « وإن خفي عليكم فأتمّوا الشهر الأوّل ثلاثين » (٢) ، وقوله عليه‌السلام : « وإن كان علّة فأتمّ شعبان ثلاثين يوماً » (٣) إلى غير ذلك من الروايات.

ولا يخفى أنّ الأمر باكمال الثلاثين بالنسبة إلى يوم الشكّ الذي [ هو ] اليوم الثلاثون ليس بحكم واقعي ، وإلاّ لزم عدم وجوب القضاء لو انكشف كون شعبان تسعة وعشرين يوماً ، وإذا ثبت كون الأمر المذكور ظاهرياً بالقياس إلى اليوم الثلاثين الذي هو يوم الشكّ ، فما لذلك الأمر الظاهري منشأ إلاّ الاستصحاب ، فإذا فرضنا دلالة هذه الأدلّة على كون الأوّل من الشهر اللاحق هو اليوم الواحد والثلاثون ، كان ذلك هو عين أصل المطلب الذي هو المنشأ في النزاع ، وهو ترتّب عنوان « الأوّل » على الاستصحاب المزبور ، ولا يكون الحكم عليه بأنّه أوّل إلاّ ظاهرياً لا واقعياً ، فلا يكون ذلك من قبيل التصرّف في معنى « الأوّل ».

اللهمّ إلاّ أن يكون المراد هو ثبوت « الأوّل » ظاهراً بحكم الاستصحاب ، بحيث كانت هذه الأخبار دالّة على الأخذ باستصحاب الشهر السابق أو استصحاب عدم دخول اللاحق ، وأنّ ذلك وإن كان في حدّ نفسه لا يثبت عنوان « الأوّل » لكونه من قبيل الأصل المثبت ، لكن تكون هذه الأخبار نصوصاً خاصّة في ترتيب هذا الأثر بالخصوص على خصوص هذا الاستصحاب ، فكأنّه قال :

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ : ٢٦٤ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ١١ ، ٢٧٨ / ب ٨ ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ١٠ : ٢٦٥ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ١٢.

(٣) وسائل الشيعة ١٠ : ٢٦٣ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ٥ ، ٢٨٩ / ب ١١ ح ١١.

١٤٠