أصول الفقه - ج ١٠

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٠

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-83-6
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٩٤

كان موسى وعيسى حيّين لاتّبعاني. بل يمكن تحصيل الاتّفاق العملي من جميع طوائف المسلمين ، فإنّك ترى الفقيه منهم يتتبّع النصّ في المسألة ، فإن عثر على نصّ أخذ به ، سواء كان الحكم في الشريعة السابقة على طبقه أو كان على خلافه ، وما لم يجد فيه رجع فيه إلى قاعدته فيما لا نصّ فيه من براءة أو احتياط أو استحسان أو قياس ، ونحو ذلك ممّا أسّسوه لما لا نصّ فيه ، ولو كان أحدهم يحتمل بقاء جملة من أحكام الشرائع السابقة لكان اللازم فيما لا نصّ فيه أن يراجع الشرائع السابقة ، فلعلّ أن تتضمّن حكماً لتلك المسألة ، فيلزمه الأخذ به واستصحاب عدم نسخه ، ولم نر أحداً منهم صنع ذلك ، فهذا دليل على تسالمهم على النسخ الكلّي ، فراجع.

ولا يخفى أنّه بعد البناء على ذلك لا يكون لنا معنى محصّل لاستصحاب الحكم السابق أو لاستصحاب عدم نسخه ، فإنّا لو بنينا على النسخ الكلّي لم يعقل بقاء حكم من الأحكام السابقة لم ينسخ ، بل تكون كلّها منسوخة وغير باقية ، غايته أنّ نسخها تارةً يكون بجعل ضدّها وأُخرى يكون بجعل المماثل ، وفي كلّ منهما لا وجه لاحتمال البقاء وعدم النسخ كي يجري استصحابه.

نعم ، يجري استصحاب عدم جعل الضدّ ، لكنّه مثبت ومعارض باستصحاب عدم جعل المماثل. أمّا الامضاء فهو راجع إلى جعل المماثل. نعم لو قلنا إنّ الامضاء مرجعه إلى إبقاء الحكم السابق من باب الرضا ببقائه ، لا من باب جعل مثله ، ففيه أوّلاً : أنّه حينئذ عبارة أُخرى عن عدم النسخ ، وقد فرضنا النسخ الكلّي. وثانياً : أنّا لو أخرجناه حينئذ عن عدم النسخ ، وقلنا إنّه ليس من بابه ولا من

٨١

باب جعل المماثل بل من باب الرضا بالبقاء ، ويكون نفس الحكم السابق باقياً لكن برضا من صاحب شريعتنا ، لكان استصحاب بقائه وعدم نسخه مثبتاً لما هو المطلوب من رضا صاحب شريعتنا ببقائه ، على أنّ الرضا إذا لم يكن راجعاً إلى جعل المماثل ولا إلى مجرّد عدم النسخ ، كان غير معقول كما هو واضح.

قوله : وما أجاب به الشيخ قدس‌سره عن دعوى اختلاف الموضوع : بأنّا نفرض كون الشخص مدركاً للشريعتين فيجري في حقّه استصحاب عدم النسخ ، لا يحسم مادّة الإشكال ـ إلى قوله ـ وذلك واضح ... الخ (١).

لا يخفى أنّ دعوى عدم انحسام مادّة الإشكال تارةً يكون مستندها هو اختصاص الاستصحاب المذكور بنفس ذلك المدرك للشريعتين ، لكونه هو المتيقّن والشاكّ ، دون غيره ممّن لم يدرك الشريعة السابقة لعدم تحقّق اليقين والشكّ في حقّه كما يعطيه قوله : فإنّ مؤدّيات الأُصول إنّما تختصّ بمن يجري في حقّه الأصل الخ (٢).

وفيه : أنّ الحكم المستصحب وإن كان هو حكم من أدرك الشريعتين ، إلاّ أنّ من لم يدرك الشريعة السابقة يمكنه استصحاب حكم ذلك المدرك ، ويرتّب أثر بقائه وهو اشتراكه معه في التكليف ، وذلك نظير استصحاب المجتهد حكم الحائض مثلاً ويرتّب أثر بقائه وهو إخباره ببقاء حكمها.

وتارةً يكون عدم انحسام مادّة الإشكال لأجل أنّ استصحاب غير المدرك حكم المدرك لا يترتّب عليه أثر بالنسبة إلى غير المدرك ، إلاّبالملازمة بين الحكمين كما هو قضية الاشتراك ، وحينئذ يكون الأصل مثبتاً.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٧٩ ـ ٤٨٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٨٠.

٨٢

ويمكن الجواب عنه : بأنّا لا نريد من استصحاب حكم المدرك إثبات لازمه الواقعي وهو حكم غير المدرك ، بل نريد من استصحاب حكم المدرك إثباته ظاهراً ، وننتقل من إثباته ظاهراً إلى إثبات الحكم ظاهراً في حقّ غير المدرك بدعوى أنّ دليل الاشتراك كما يقضي بالملازمة بين الحكمين واقعاً ، فكذلك يقضي بالملازمة بينهما ظاهراً ، وهذا هو الذي أجاب عنه بقوله : بداهة أنّ الاشتراك إنّما يكون في التكاليف الواقعية ، وأمّا التكاليف الظاهرية التي تؤدّي إليها الأُصول العملية فليس محلّ لتوهّم الاشتراك فيها الخ (١) وحاصله إنكار الملازمة بين [ الحكمين ] الظاهريين ، فإنّ الملازمة إنّما جاءت من دليل الاشتراك ، وهو مختصّ بالأحكام الواقعية هذا ، مضافاً إلى أنّ الملازمة بين الحكمين الظاهريين إنّما تنفع بعد إثباتنا الحكم الظاهري في حقّ المدرك ، والمفروض أنّا لا يمكننا إثباته بالاستصحاب لعدم الأثر في حقّنا ، فلاحظ.

قوله : وأمّا الوجه الثاني ففيه : أنّ العلم الاجمالي بنسخ جملة من الأحكام التي كانت في الشرائع السابقة ينحلّ بالظفر بمقدار من الأحكام المنسوخة ... الخ (٢).

لكن هذا إنّما ينفع بعد العثور على المقدار المذكور ، أمّا قبله فينبغي أن يكون العلم الاجمالي مانعاً من إجراء استصحاب عدم النسخ ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٧٩ ـ ٤٨٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٨٠.

٨٣

[ الأصل المثبت ]

قوله : إذا تبيّن ذلك فنقول : إنّ المجعول في باب الطرق والأمارات إنّما هو الطريقية والكاشفية ـ إلى قوله ـ فالأمارات تكون كالعلم من حيث الاحراز والكاشفية ... الخ (١).

هذه جهات تقدّم الكلام عليها في جعل الطرق ، وحاصل التأمّل فيها : أنّ العلم لا يعقل جعله إلاّتنزيلاً ـ أعني تنزيل الأمارة أو الظنّ الحاصل منها منزلة العلم ـ فيرجع ذلك إلى جعل آثار العلم ، والمفروض أنّ العلم الطريقي لا أثر له شرعاً ، فلابدّ من إرجاع ذلك إلى تنزيل المؤدّى منزلة المعلوم في ترتيب آثاره الشرعية ، وحينئذ يتوجّه إشكال التناقض بين الحكم الواقعي والظاهري ، إذ لا محصّل للعلم التعبّدي إلاّ العلم التنزيلي ، ولا محصّل للتنزيل في العلم إلاّ التنزيل في ناحية المعلوم والمؤدّى ، ولا مخلص عن هذا الإشكال إلاّبالالتزام بجعل الحجّية ، فإنّها من الأحكام الوضعية القابلة للجعل ، ويكون الوجه في ترتيب اللوازم في الأمارات دون الأُصول هو الاطلاق في الأمارات والتقييد في الأُصول المستفاد من مادّة نقض اليقين على ما شرحناه ، فلاحظ.

نعم ، لو كان العلم من مقولة الأحكام الوضعية كالملكية والرقّية والزوجية لكان قابلاً للجعل والاعتبار عند العقلاء وعند الشارع إمضاءً أو تأسيساً ، لكن المفروض أنّه ليس كذلك ، بل هو من الصفات الواقعية غير القابلة للجعل

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٨٤ ـ ٤٨٥.

٨٤

الاعتباري ، وأقصى ما في ذلك هو التنزيل منزلة العلم ، وقد عرفت ما يلزم عليه ، فراجع ما حرّرناه في التعليق على الجزء الأوّل في مباحث جعل الطرق (١) وفي مباحث العلم الصفتي والطريقي خصوصاً حواشي ص ٩ من الجزء الأوّل (٢).

قوله : فهي عندهم محرزة للمؤدّى وكاشفة عنه وواسطة لإثبات مقاصدهم كالعلم ، والشارع قد أبقاها على حالها وأمضى ما عليه العرف ... الخ (٣).

توضيحه : أنّ الأمارات العقلائية وإن كانت في حدّ ذاتها كاشفة عن الواقع ، لكنّه كشف ناقص مقرون باحتمال الخلاف ، ومع ذلك فالعقلاء يرون أنّها محرزة للواقع ، ويثبتون بها مقاصدهم ويجرون عليها في مقام العمل ، حتّى لو لم تكن مفيدة للظنّ الشخصي فضلاً عن العلم القطعي ، بل يكون الظنّ النوعي كافياً عندهم في الكاشفية ، بحيث إنّهم يجعلونها كاشفة عن الواقع كشفاً تامّاً ، ويلتزمون بالغاء احتمال الخلاف فيها ولا يعتنون به ، وما ذلك إلاّلتعبّدهم عقلائياً بتتميم كشفها وجهة نقصها في الكاشفية ، وهذا المعنى ـ أعني حكمهم بتتميم كشفها وإلغاء احتمال الخلاف فيها وإلحاقها بالعلم ـ هو الذي أمضاه الشارع ، وبواسطة أنّ مرجع الامضاء إلى جعل المماثل يكون الشارع قد تمّم كشفها ، وألغى احتمال الخلاف فيها ، وبعد ذلك الحكم العقلائي الذي قد أمضاه الشارع يكون الجري العملي على طبقها قهرياً ولازماً ذاتياً لانكشاف الواقع ، وهذا

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢٩٩ وما بعدها.

(٢) لاحظ المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٨٢ ـ ٨٩.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٤٨٥.

٨٥

بخلاف الأُصول إحرازية كانت أو غير إحرازية ، فإنّها لا تكون كاشفة عن الواقع ذلك الكشف الناقص الذي تمّمه الشارع ، بل أقصى ما فيها هو أنّ الحكم فيها يتضمّن الجري العملي على طبق أحد طرفي الشكّ فيها ، فإن كان ذلك الجري العملي الذي تضمّنه الحكم الشرعي مقروناً بالبناء على أنّ أحد طرفي الشكّ هو الواقع ، كانت من الأُصول التنزيلية ، وإن لم يكن مقروناً بذلك البناء ، بل اقتصر فيه على مجرّد العمل على طبق أحد طرفي الشكّ ، كانت من الأُصول غير التنزيلية.

وحاصل ما أُفيد من الفرق بين باب الأمارات وباب الأُصول الاحرازية وباب الأُصول غير الاحرازية ، هو أنّ الجري العملي في الأمارات يكون لازماً عقلياً لما هو المجعول الشرعي فيها وهو تتميم كشفها ، فيكون حال الجري العملي فيها حال الجري العملي في باب القطع في كونه لازماً عقلياً للكشف العلمي. أمّا باب الأُصول الاحرازية فيكون المجعول فيها ابتداءً هو لزوم الجري على مؤدّاها ، غايته أنّه معنون بعنوان أنّه هو الواقع ، فيكون مرجعه إلى البناء على أحد طرفي الشكّ من حيث الجري العملي على طبقه ، بخلاف الأُصول غير الاحرازية فإنّها فاقدة لهذه الجهة من البناء على أنّه هو الواقع ، وممحضة للزوم الجري العملي على أحد طرفي الشكّ من دون البناء على أنّه هو الواقع ، وحينئذ فيكون مرجع الجعل فيها منتهياً إلى مقام التنجّز والمعذورية ، لا أنّ التنجّز والمعذورية هي المجعولة ابتداءً ، بل بمعنى أنّ المجعول الابتدائي هو الجري على طبق أحد طرفي الشكّ ، فإن كان هو ثبوت التكليف كان ذلك ملازماً لتنجّز الواقع ، وإن كان هو نفي التكليف كان ذلك ملازماً للمعذورية في مخالفة الواقع لو كان في البين تكليف واقعي.

٨٦

قوله : فإنّه ليس في بناء العقلاء تعبّد في مقام العمل ... الخ (١).

الظاهر أنّه لا ريب في أنّ للعقلاء أُصولاً عقلائية يركنون إليها في مقام العمل والمفروض أنّ باب الأُصول العملية عنده قدس‌سره راجع إلى التطبيق العملي ، فلا يتمّ ما أُفيد من أنّه ليس في بناء العقلاء تعبّد في مقام العمل.

والحاصل : أنّ هذه الجملة مع قوله فيما تقدّم : كما لا يبعد أن تكون قاعدة التجاوز وأصالة الصحّة بل الاستصحاب في وجه من هذا القبيل (٢) ، وقوله فيما يأتي : إذ ليس في الأُصول العملية ما يقتضي الكشف والاحراز الخ (٣) ، كالمتنافيات إذ لا ريب عنده قدس‌سره أنّ هذه الأُصول أُصول عقلائية أمضاها الشارع ، وأنّ العقلاء يبنون عليها في مقام العمل ، فإن لم تكن عندهم محرزة للواقع لم يتمّ ما أفاده من أنّه ليس في بناء العقلاء تعبّد في مقام العمل ، كما أنّه لا يتمّ ما تقدّم من أنّها في حدّ نفسها محرزة للواقع وكاشفة عنه ، وإن كانت هذه الأُصول عندهم محرزة للواقع لم يتمّ ما أفاده قدس‌سره بقوله : ليس في الأُصول العملية ما يقتضي الكشف والاحراز ، فتأمّل.

قوله : نعم ، المجعول في باب الأُصول العملية مطلقاً هو مجرّد تطبيق العمل على مؤدّى الأصل ... الخ (٤).

لا يخفى أنّه لا محصّل لنسبة الجعل الشرعي إلى تطبيق العمل على مؤدّى الأصل إلاّ الأمر بتطبيق العمل عليه ، وهو قدس‌سره لا يسلّم وجود الأمر الشرعي في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٨٥.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٨٢.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٤٨٦.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٤٨٦.

٨٧

جميع الأُصول الشرعية ، كما أنّه قدس‌سره لا يسلّم اشتمالها على التنزيل منزلة الواقع ، لأنّه يستلزم جعل المماثل ، وحينئذ فلا محيص من القول بأنّ المجعول في باب الأُصول الشرعية التنزيلية مثل الاستصحاب إنّما هو حجّية اليقين السابق ، أو الظنّ النوعي الحاصل من اليقين السابق ، غايته أنّ ذلك مقيّد بحيثية العمل على المتيقّن السابق ، فيكون الفارق بين الأمارات والأُصول التنزيلية هو أنّ المجعول في الأمارات هو مجرّد تتميم كشفها من دون تقييد بحيثية العمل ، بخلاف باب الأُصول التنزيلية فإنّ ذلك الجعل مقيّد فيها بحيثية العمل على طبق مؤدّاها ، الذي هو الجهة الثالثة من جهات العلم الطريقي ، ولأجل هذا التقييد لم يكن مثبتها حجّة كما تقدّم تفصيله في باب جعل الطرق والأُصول الشرعية (١) ، وقد ذكرنا هناك أنّ المجعول في الأُصول غير التنزيلية هو الحجّية أيضاً ـ أعني حجّية الاحتمال ـ لكن من حيث المعذورية أو التنجّز ، وقد ذكرنا في الأُصول التنزيلية أنّ محصّل هذه الدعوى راجع إلى أمرين : الأوّل كون المجعول في باب الأُصول الاحرازية هو نفس حجّية اليقين السابق. والثاني كون الحجّية المذكورة مقصورة على العمل الذي يكون عملاً على بقاء المتيقّن ، دون غيره ممّا يكون عملاً بلوازمه ممّا لا يعدّ عرفاً عملاً ببقاء ذلك المتيقّن ، بل يكون بحسب النظر العرفي عملاً على أمر آخر غير ذلك المتيقّن ، مثل نبات اللحية في استصحاب الحياة.

أمّا الدعوى الأُولى ، فيمكن أن يقال باستفادتها من النهي عن نقض اليقين السابق ، بأن يجعل النهي كناية عن حجّية اليقين السابق ، لا أنّه نهي مولوي مستقل بنفسه ، ولو سلّمنا أنّ لذلك النهي ظهوراً في النهي المولوي الاستقلالي لأمكننا رفع اليد عن هذا الظهور بالقرينة العقلية ، بأن يقال : لا يمكن حمل النهي المذكور

__________________

(١) راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢٩٩ وما بعدها.

٨٨

على كونه نهياً مولوياً ، لما يلزمه من الجمع بين الحكمين المتناقضين ، الذي هو إشكال الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية بعد إبطال ما قيل في ذلك من وجوه الجمع ، فإنّه حينئذ يلزم الالتزام بكون ذلك النهي كناية [ عن ] جعل الحجّية لليقين السابق تخلّصاً من المحذور المذكور ، خصوصاً بعد البناء على أنّ هذا النهي إمضاء أو إرشاد إلى البناء العقلائي على الأخذ باليقين السابق ، إذ لا شبهة في أنّه ليس عند العقلاء في ركونهم إلى اليقين السابق نهي ولا أمر مولوي ، وإنّما هو مجرّد كون ذلك اليقين حجّة في نظرهم يلزم البناء عليه ما لم يثبت ناقضه.

وأمّا الثاني ، فالأمر فيه أسهل ، لأنّ أخذ عنوان النقض يكون قرينة على أنّ المنظور إليه في ذلك النهي هو ما كان يعدّ في العرف نقضاً ، فيكون الممنوع عنه هو ما يكون نقضاً لليقين السابق ، وتكون الأعمال المترتّبة على ما هو لازم اليقين السابق خارجة عنه ، إذ ليست هي نقضاً.

ولا يخفى أنّ هذا التقريب الذي قرّبناه كلّه مبني على كون المجعول له الحجّية هو اليقين السابق بعد طروّ الشكّ عليه ، ولو نوقش في ذلك بأنّ اليقين السابق في حدّ نفسه غير قابل لجعل الحجّية لكونه علماً في ظرفه وبعد الشكّ لا وجود له ، وأغضينا النظر عن الجواب عنه بأنّه لا مانع من جعل ذلك اليقين السابق حجّة ، لكن لا في الزمان السابق بل في الزمان اللاحق الذي هو زمان الشكّ ، لكنّا في فسحة عن هذا الإشكال بصرف الحجّية إلى الظنّ النوعي الحاصل من اليقين السابق الذي يكون متعلّقاً ببقاء المتيقّن ، وتكون حجّيته مقصورة على ترتيب البناء العملي على طبق المتيقّن السابق ، إمّا لدعوى كون أخذ العقلاء بذلك الظنّ النوعي مختصّاً بهذا المقدار ، ولا أقل من كونه هو القدر المتيقّن ، أو لدعوى كون

٨٩

دليل الامضاء وهو قولهم عليهم‌السلام : « لا تنقض » الخ (١) مختصاً بذلك على التفصيل الذي حرّرناه فلا نعيد.

قوله : فإنّ قياس المساواة إنّما يكون في العلل والمعلولات التكوينية أو في العلل والمعلولات الشرعية ، بحيث تكون سلسلة الوسائط والعلل والمعلولات كلّها شرعية كما سيأتي بيانه ... الخ (٢).

هذا فيما لو كان مبدأ تلك الآثار المتسلسلة الشرعية محرزاً بأحد الأُصول الاحرازية كالاستصحاب ، فإنّ نسبة كلّ واحد منها إلى سابقه نسبة الحكم إلى موضوعه ، وإذا أُحرز الموضوع بالأصل الاحرازي ترتّب عليه حكمه ، وكذا إذا لم يكن الأصل المذكور إحرازياً بل كان غير إحرازي ، لكن كان المتأخّر عمّا جرى فيه الأصل تابعاً شرعاً لما هو الأعمّ من الواقعي والظاهري حتّى لو كان الأصل احتياطاً ، كما لو كان مقتضى الأصل في وجوب ذي المقدّمة هو الاحتياط ، فإنّه يتبعه الاحتياط في وجوب المقدّمة ، أمّا إذا لم يكن الثاني تابعاً للأوّل إلاّبوجوده الواقعي ، فما لم يحرز الأوّل بالأصل الاحرازي لا يترتّب عليه الثاني ، فلاحظ.

قوله : وكذا لا يمكن أن يثبت به ملزوم المؤدّى أو ما يلازمه شرعاً ... الخ (٣).

يعني أنّ الأصل الجاري في الملزوم يترتّب عليه لازمه الشرعي ، أمّا الأصل الجاري في اللازم الذي هو الحكم فلا يترتّب عليه اللازم الآخر وإن كان شرعياً كما مثّل به ، فإنّه بعد البناء على أنّ حرمة الأكل وحرمة الصلاة أثران متقابلان

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٨٩ [ ستأتي حاشية أُخرى على هذا المتن في الصفحة الآتية ].

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٤٩٠.

٩٠

لاحقان للحيوان الخاص أعني الأرنب مثلاً ، فلا يترتّب على الأصل الجاري في أحد الحكمين الحكم الآخر ، وكما أنّه لا يترتّب عليه الحكم الآخر الذي هو الملازم لا يترتّب عليه الملزوم وإن كان شرعياً ، فإنّ استصحاب طهارة الثوب المغسول بالماء المشكوك الطهارة ، أو استصحاب نجاسة ذلك الثوب ، لا يترتّب عليه ملزومه وهو طهارة ذلك الماء أو نجاسته.

والحاصل : أنّ طهارة الماء ملزوم ، ولازمه ـ أعني أثره الشرعي ـ هو طهارة الثوب النجس المغسول فيه ، فلو أجرينا الأصل في ذلك الملزوم ، وحكمنا بطهارة الماء لأجل استصحاب الطهارة أو قاعدة الطهارة ، ترتّب عليه ذلك اللازم أعني طهارة الثوب ، لكن لو أجرينا الأصل في اللازم ـ أعني نجاسة الثوب ـ لا يترتّب عليه الملزوم أعني نجاسة الماء.

والحاصل : أنّ الأصل في الموضوع يترتّب عليه حكمه الشرعي ، لكن الأصل في نفس ذلك الحكم لا يترتّب عليه موضوعه ، ولو كان نفس ذلك الموضوع حكماً شرعياً.

قوله : فإنّ قياس المساواة إنّما يكون في العلل والمعلولات التكوينية أو في العلل والمعلولات الشرعية بحيث تكون سلسلة الوسائط والعلل والمعلولات كلّها شرعية ... الخ (١).

وذلك مثل جواز الصلاة في جلد الحيوان المترتّب على حلّية أكل لحم ذلك الحيوان ، فإنّ استصحاب الحلّية في الحيوان موجب لترتّب جواز الصلاة في جلده.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٨٩ [ تقدّمت حاشية للمصنّف رحمه‌الله على هذا المتن في الصفحة السابقة ].

٩١

ولا يخفى أنّ الأثر الثاني وهو جواز الصلاة إن كان موضوعه هو مطلق ثبوت الأوّل وهو حلّية الأكل وإن كان بالاستصحاب أو بقاعدة الحل ، كان تحقّقه بجريان الأصل في الأوّل تحقّقاً واقعياً لتحقّق موضوعه بذلك الأصل ، حتّى أنّه لو انكشف الخلاف لم تجب الاعادة ، بل لا يتصوّر فيه انكشاف الخلاف ، لأنّ الأصل قد حقّق موضوع الأثر الثاني وهو جواز الصلاة تحقّقاً واقعياً ، هذا إن كان الأصل جارياً في نفس الأثر الأوّل.

ولو كان جارياً في موضوعه كان ترتّب الأثر الثاني حينئذ محتاجاً إلى توسعة أُخرى في دليل الأثر الثاني ، بأن يكون موضوعه هو مجرّد العمل بالأثر الأوّل ، وإن لم يكن الأثر الأوّل ثابتاً في حدّ نفسه ، بل كان الثابت بالأصل هو موضوعه ، ولا يكفي في تحقّق الأثر الثاني ما ذكرناه من المسامحة الأُولى ، أعني كون موضوعه هو ثبوت الأثر الأوّل ولو بالأصل ، كما لا يخفى.

وإن كان موضوع الأثر الثاني هو الحلّية الواقعية لم ينفع في ترتّب الأثر الثاني مجرّد الأصل العملي في الأثر الأوّل ، مثل قاعدة الحل والبراءة ونحوهما من الأُصول غير الاحرازية ، بل لابدّ حينئذ من كون الأصل إحرازياً مثل استصحاب الحلّية ونحوه ممّا يكون مفاده إحراز الحلّية الواقعية ، فيكون جريان الاستصحاب حينئذ موجباً لترتّب الثاني ترتّباً ظاهرياً ، يجري فيه انكشاف الخلاف وعدم الاجزاء عند انكشاف الخلاف ، وغير ذلك من آثار الحكم الظاهري ، وفي ترتّب الأثر الثاني ولو ظاهراً على جريان الاستصحاب في موضوع الأثر الأوّل تأمّل وإشكال.

وعلى أي حال ، فلا يكون ترتّب الأثر الثاني على الأصل في نفس الأثر الأوّل أو في موضوعه من باب أنّ أثر الأثر أثر ، بل هو إمّا من باب تحقّق موضوع

٩٢

الأثر الثاني وجداناً ، أو لكون الأصل محرزاً تعبّداً لموضوعه الذي هو الأثر الأوّل ، ولا يكون شيء منهما من باب أثر الأثر ، بل إنّ أصل الفرض وهو كون الأثر الثاني أثراً للأثر الأوّل يعطي أنّ جعل أثر الأثر أثراً خروج عن الفرض ، فإنّ معنى الأثر هنا هو الحكم الشرعي ، ومن الواضح أنّ الحكم الثاني مترتّب على الحكم الأوّل ، والحكم الأوّل مترتّب على موضوعه ، فليس الحكم الثاني لاحقاً لموضوع الحكم الأوّل ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ قياس المساواة إنّما ينتج النتيجة المطلوبة بعد تألّف قياسين ، ففي مثل العلل والمعلولات يقال : إنّ المعلول الثاني وهو ج معلول لباء ، وهو ـ أعني باء ـ معلول لألف ، فيكون النتيجة أنّ ج معلول لمعلول الف ، فتضمّ هذه النتيجة إلى كبرى مسلّمة وهي أنّ المعلول لمعلول الشيء معلول لذلك الشيء ، وحينئذ تتحقّق النتيجة المطلوبة وهي أنّ ج معلول لألف ، فالمدار حينئذ على تلك الكبرى ، فلو لم تكن تلك الكبرى مسلّمة لا يكون قياس المساواة تامّاً ، مثل الاثنين نصف الأربعة والأربعة نصف الثمانية ، فإنّه ليس لنا أن نقول إنّ نصف نصف الشيء نصف لذلك الشيء.

وما نحن فيه من أثر الأثر الشرعي من هذا القبيل ، فإنّ الحكم الثاني وإن كان حكماً للحكم الأوّل فيكون حكماً لحكم الموضوع ، ومن الواضح أنّه ليس لنا أن نقول إنّ حكم حكم الشيء حكم لذلك الشيء ، مثلاً وجوب الصيام حكم للمكلّف ، وحكم هذا الوجوب أنّه يحكم ببقائه عند الشكّ في رافعه مثلاً ، أو أنّه تجب مقدّمته أو أنّه يقتضي النهي عن ضدّه ، ومن الواضح أنّ هذه الأحكام لا تكون أحكاماً للمكلّف ، فتأمّل.

ثمّ إنّ حاصل ما أُفيد في مسألة الملزومات الشرعية ولوازمها الشرعية

٩٣

المترتّبة على ملزوماتها الشرعية بلا واسطة أجنبية عقلية أو عادية ، هو أن يقال : إنّ الأُصول العملية لمّا كان المجعول فيها هو البناء العملي ، لم يترتّب عليها إلاّما كان أثراً عملياً لاحقاً لنفس المجرى ، دون لوازمه العقلية والعادية ، ودون ملزوماته وملازماته وإن كانت شرعية.

مثال الأوّل الأصل المسبّبي بالنسبة إلى الأصل السببي ، كما في مسألة اللباس المشكوك ، فإنّا لو قلنا بأنّ ترتّب جواز الصلاة على حلّية الأكل ترتّب شرعي ، بحيث يكون جواز الصلاة وعدم المانعية من أثار الحلّية ، لكان الأصل المحرز لحلّية الأكل حاكماً على الشكّ في المانعية من دون العكس ، يعني أنّ الأصل في المانعية لا يكون مسوّغاً لأكل اللحم الذي هو ملزوم شرعي لجواز الصلاة فيما أُخذ من ذلك الحيوان ، لأنّ أكل اللحم ليس أثراً شرعياً لجواز الصلاة فيما أُخذ من ذلك الحيوان ، بل الأمر بالعكس.

ومثال الثاني أيضاً في مسألة اللباس ، بناءً على أنّ حرمة أكل اللحم وعدم جواز الصلاة فيما أُخذ من الحيوان ليس أحدهما أثراً شرعياً متفرّعاً عن الآخر ، بل كلّ منهما متفرّع عن أمر ثالث وهو كون الحيوان من أحد العناوين المذكورة في الأخبار ، أعني الأرنب والثعلب مثلاً ، بحيث إنّ الأرنب له حكمان أحدهما في عرض الآخر ، وهما حرمة أكل لحمه وعدم جواز الصلاة في شيء منه ، بخلاف الغنم فإنّ له حكمين أيضاً أحدهما في عرض الآخر ، وهما حلّية أكل لحمه وجواز الصلاة فيما يؤخذ منه ، وحينئذ لا يكون الأصل الجاري في أحد الحكمين موجباً لترتّب الحكم الآخر الذي هو ملازم له ، وإن كان ذلك الملازم في حدّ نفسه أثراً شرعياً.

وملخّص هذا المبحث : أنّ التلازم في الأشياء الخارجية لابدّ أن يكون

٩٤

ناشئاً عن كون أحد المتلازمين علّة للآخر ، فيكون الملزوم هو العلّة ويكون اللازم هو المعلول ، أو عن كون كلّ منهما معلولاً لعلّة ثالثة ، فيكون المتلازمان معلولين لتلك العلّة ، ويكونان لازمين لتلك العلّة ، وتكون العلّة ملزومة لهما ، ويكونان في حدّ أنفسهما متلازمين في الوجود.

وفي هذا الأخير إشكال من جهة أنّ الأمرين المتباينين لا يعقل صدورهما عن علّة واحدة ، فلابدّ من القول بأنّ المعلول هو القدر المشترك بينهما ، أو القول بأنّ العلّة مختلفة بالحيثية ، فمن جهة إحدى الحيثيتين يصدر أحد المعلولين ، ومن جهة الحيثية الأُخرى يصدر المعلول الآخر ، وعلى كلّ حال فإنّ التلازم المذكور بجميع أنحائه لا يكون موجباً لصحّة الترتّب في باب الاستصحاب ، بمعنى أنّ استصحاب العلّة لا يترتّب عليه الحكم التعبّدي ببقاء المعلول ، واستصحاب المعلول لا يترتّب عليه الحكم التعبّدي ببقاء العلّة ، واستصحاب أحد المعلولين لا يترتّب عليه الحكم التعبّدي ببقاء المعلول الآخر.

وأمّا الأُمور الشرعية المتلازمة فيتأتّى فيها عين هذا التفصيل من كونه ناشئاً عن كون أحد الأمرين الشرعيين معلولاً للآخر ، أو كونهما معلولين لعلّة ثالثة ، والمراد بالمعلول هو اللازم ، والمراد بالعلّة هو الملزوم ، والمراد بالمعلولين لعلّة ثالثة هما اللازمان لملزوم ثالث ، ولكن المراد بالأمر الشرعي الذي نقول إنّه معلول ولازم للآخر هو أنّ ذلك الأمر الشرعي يكون حكماً لذلك الآخر ، كما أنّ المراد من الأمرين الشرعيين اللذين نقول إنّهما معلولان ولازمان لأمر آخر هو أنّهما حكمان عرضيان لاحقان لذلك الأمر الآخر.

ويتّضح ذلك بالمثال المعروف في مسألة لباس المصلّي ، فإنّ جواز الصلاة في جلد الحيوان وحلّية أكل لحمه كلاهما حكمان شرعيان ، فقيل إنّ الأوّل وهو

٩٥

جواز الصلاة في الجلد معلول للثاني وهو حلّية أكل لحمه ، يعني أنّ جواز الصلاة في الجلد حكم شرعي لاحق للحكم الشرعي الآخر وهو حلّية الأكل ، فيكون اللازم هو جواز الصلاة ، ويكون الملزوم هو حلّية الأكل ، وبناءً على هذا القول يكون الأصل الجاري في الحلّية نافعاً في الحكم التعبّدي بجواز الصلاة على ما مرّ تفصيله ، بخلاف العكس ، يعني أنّ الأصل الجاري في الثاني وهو جواز الصلاة غير نافع في الحكم التعبّدي في الأوّل وهو الحلّية.

أمّا لو قلنا بأنّ هذين الحكمين كليهما معلولان لأمر آخر وهو كون الحيوان من الغنم ، يعني أنّ كلاً من جواز الصلاة في الجلد وحلّية الأكل يكون من أحكام الغنم ، فيكونان معاً معلولين لعلّة ثالثة ولازمين لتلك العلّة الثالثة ، فهذان الأمران الشرعيان وإن كانا متلازمين لكن لا يكون الأصل الجاري في أحدهما موجباً للحكم التعبّدي بالآخر.

فتلخّص : أنّ المتلازمات الشرعية لا يكون الأصل الجاري في أحدها موجباً للحكم التعبّدي بالآخر ، سواء كانا معلولين لعلّة ثالثة أو كان أحدهما معلولاً للآخر ، إلاّفي صورة واحدة وهي ما لو كان الأصل جارياً في العلّة ، فإنّه يترتّب عليه الحكم التعبّدي بالمعلول إذا لم يتوسّط بينهما أمر أجنبي عقلي أو عادي ، والسرّ في ذلك هو ما أشرنا إليه من أنّ معنى كون الأمر الشرعي معلولاً للآخر أنّه يكون حكماً شرعياً لاحقاً للآخر ، ويكون ذلك الآخر موضوعاً لذلك الحكم الذي عبّرنا عنه بأنّه لازم له أو بأنّه معلول له ، ومن الواضح أنّ استصحاب الموضوع يكون موجباً لترتّب حكمه عليه ، بخلاف العكس فإنّ استصحاب نفس الحكم لا يوجب ترتّب موضوعه ، بل لابدّ من إحراز موضوعه من دليل آخر ، وهكذا الحال في استصحاب أحد الحكمين اللاحقين لموضوع واحد ، فإنّ

٩٦

استصحاب أحدهما لا يوجب الحكم التعبّدي بالآخر ، بل لابدّ من إحراز ذلك الآخر من دليل آخر غير الاستصحاب الجاري في مقابله ، فتأمّل.

قوله : نعم ، إذا ورد في مورد بالخصوص التعبّد بأصل مع أنّه ليس لمؤدّاه أثر شرعي إلاّبواسطة عقلية أو عادية ، فلابدّ من ثبوت الأثر الشرعي وإلاّ يلزم لغوية التعبّد بالأصل ... الخ (١).

كما إذا فرضنا أنّه ليس لنفس حياة زيد أثر شرعي أصلاً ، وإنّما كان الأثر الشرعي مترتّباً على نبات لحيته ، ومع ذلك دلّ الدليل الخاصّ وقال : لا تنقض اليقين بحياة زيد عند شكّك في بقائها ، كان من اللازم علينا أن نحكم بترتّب ذلك الأثر اللاحق لنبات اللحية ، إخراجاً لذلك الدليل المتكفّل للتعبّد ببقاء حياة زيد عن اللغوية ، لا بمعنى أن نقول : إنّ أثر نبات اللحية مشمول لقوله : لا تنقض اليقين بحياة زيد ، فإنّ ذلك لا يدخل فيه أصلاً ، بل بمعنى أنّ المصحّح للتعبّد بالمنع عن نقض اليقين بحياته هو أنّ الشارع جعل وجوب التصدّق جعلاً تعبّدياً باقتضاء النهي عن نقض اليقين بحياته ، ويكون ذلك الجعل التعبّدي مصحّحاً لذلك النهي عن النقض ومخرجاً له عن اللغوية.

ثمّ إنّ لهذا المطلب تتمّة ، وهي أنّه بعد أن صحّ ورود « لا تنقض » في خصوص هذا المثال ، ولو بالنظر إلى تلك العناية وهي الحكم التعبّدي بوجوب التصدّق ، بحيث كان لازم ورود « لا تنقض » في حقّ زيد المذكور هو الحكم التعبّدي بوجوب التصدّق ، نقول : إنّ أصالة العموم في قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين » الخ (٢) حاكمة بشمولها لزيد المذكور ، وحينئذ نحكم بتحقّق ذلك الحكم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٩٠.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١.

٩٧

التعبّدي ، لأنّ أصالة العموم من الأمارات تكون مثبتة للوازم.

والجواب عنه مذكور في بحث العموم ، وهو أنّه لو توقّف فردية فرد للعام على إعمال عناية ، لا نقول إنّ العام يشمله وإنّ تلك العناية متحقّقة ، لأنّ أصالة العموم وإن كانت من الأمارات ، إلاّ أنّها لمّا كانت مأخوذة من بناء العقلاء كان اللازم هو اتّباعهم في موارد إعمالها ، ولم يثبت أنّهم يبنون على الأخذ بأصالة العموم في مثل ذلك المورد الذي يتوقّف شمول العام له على إعمال تلك العناية ، نعم لو ورد دليل بالخصوص في ذلك الفرد لقلنا بتحقّق تلك العناية إخراجاً لذلك الدليل عن اللغوية ، هذا.

ولكن في النفس من أصل هذا المطلب شيء ، فإنّه لو كان عبد مملوك لشخص ، وشككنا في بقاء حياة ذلك العبد ولم يكن لحياته أثر أصلاً ، غير أنّا نحتمل أنّ الشارع أوجب علينا شراءه ، ومع ذلك ورد دليل بالخصوص يقول لا تنقض اليقين بحياة ذلك العبد ، لأمكن أن نرتّب هذا الأثر وهو وجوب شرائه إخراجاً للتعبّد الخاص الوارد في حياته عن اللغوية ، وفي الحقيقة أنّ وجوب الشراء من الآثار الشرعية لحياة العبد المذكور ، وجعله له من لوازم جعل الاستصحاب في المقام ، فيكون الوجوب من اللوازم العقلية لجعل الاستصحاب أمّا إذا فرضنا أنّه لم يكن هناك أثر أصلاً إلاّوجوب التصدّق عند نبات لحيته ، وقد فرضنا أنّ ذلك الأثر ليس من آثار حياته بل كان أجنبياً عنه ، نظير وجوب الإنفاق على هذه المرأة المشكوك بقاؤها على الزوجية في كونه غير مربوط بحياة ذلك العبد بوجه من الوجوه ، فهل ترى أنّه يلزمنا ترتيب ذلك الأثر المفروض كونه أجنبياً عن حياة ذلك العبد بالمرّة ، كلاّ ثمّ كلاّ ، ولو بقي ذلك القول ـ أعني لا تنقض اليقين بحياة ذلك العبد ـ على اللغوية.

٩٨

وبالجملة : لا يصحّ ذلك القول إلاّبأن يكون ذلك الأثر أثراً لحياة ذلك العبد والمفروض أنّه ليس أثراً له بل هو أجنبي عنه. والحاصل : أنّ الخروج عن اللغوية لا يتمّ إلاّبجعل أثر مرتّب على حياة ذلك العبد ، ومجرّد ترتّب أثر على موضوع آخر يكون ذلك الموضوع مشكوك الوجود لا يخرجه عن اللغوية إلاّبنحو من التسامح ، بأن ندّعي أنّ ذلك الأثر الشرعي المفروض كونه لاحقاً لنبات اللحية يكون لاحقاً للحياة بالعرض والمجاز ، ليكون مصحّحاً للشارع أن يتعبّدنا ببقاء الحياة في مورد لا يترتّب عليها أثر شرعي إلاّهذا الأثر الذي لا يكون أثراً لها إلاّ بالعرض والمجاز.

قوله : وإمّا أن يكون جواز الصلاة في الجلد وحلّية أكل الحيوان لازمين لكون الحيوان مسوخاً أو ذا ناب ومخلب ... الخ (١).

هذه العبارة كغيرها من العبائر الآتية تحتاج إلى تصحيح بتقدير لفظ « العدم » على لفظ « كون الحيوان مسوخاً » الخ ، أو على لفظ « جواز الصلاة » ولفظ « حلّية أكل الحيوان » ، والأمر في ذلك سهل بعد اتّضاح المراد.

قوله : وأضعف من ذلك دعوى دلالة إطلاق أدلّة اعتبار الأمارات ... الخ (٢).

قد عرفت قوّة تقريب طريقة الاطلاق والتقييد بما لا يرد عليه ما أُفيد بقوله : وجه الضعف هو أنّ الخ.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّه لا يقاس المقام بمسألة عموم المنزلة في باب الرضاع ومسألة الكشف الحكمي ، فإنّ كلاً من المسألتين راجع إلى جعل المماثل

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٩١.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٩٢.

٩٩

وهو الحرمة في باب الرضاع وآثار الملكية في باب الكشف الحكمي المبنية على التنزيل ، بخلاف الأُصول العملية فإنّها بناءً على مسلكه قدس‌سره معرّاة عن كلّ من جعل المماثل والتنزيل ، وأنّها ممحضة لجعل الحكم الوضعي وهو الحجّية ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الأولى أن يجعل الحكم الذي هو محلّ الكلام في باب الكشف الحكمي في مثل عقد النكاح هو الحرمة الأبدية فيما لو وطئ الزوجة المذكورة أجنبي كما تضمّنه ما حرّرته عنه قدس‌سره ، أمّا ما تضمّنه هذا التحرير (١) من الرجم على الواطئ فإنّما يترتّب إذا كان الواطئ محصناً ، نعم رجم الموطوءة يترتّب أيضاً على كونها محصنة ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ إنّه يمكن المناقشة فيما أُفيد من تضعيف توجيه حجّية الأمارة في اللوازم بأنّها حاكية عنها أيضاً بما أُفيد من وجه الضعف بعدم تحقّق الحكاية ، لغفلة المخبر عن اللوازم ، ووجه المناقشة هو أنّ الحكاية القصدية وإن توقّفت على القصد إلاّ أنّ الدلالة القهرية لا تتوقّف عليه ، كما في مثل دلالة الآيتين (٢) على أقل الحمل ، فتكفي الحكاية الارتكازية ، على أنّ الأمارة لا تنحصر بالحاكي كالأخبار ، بل هي كلّ ما يكون كاشفاً عن الواقع كشفاً ظنّياً كاليد مع فرض عدم القصد فيها ، ومن الواضح أنّ الكشف عن الواقع كشف عن لوازمه وملزوماته ، ولعلّ ذلك هو المراد بالحكاية ، لا الحكاية القصدية المختصّة بالدلالة اللفظية ، بل

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٩٣.

(٢) وهما قوله تعالى في سورة الأحقاف ٤٦ : ١٥ ( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) وقوله تعالى في سورة البقرة ٢ : ٢٣٣ ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ).

١٠٠