أصول الفقه - ج ١٠

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٠

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-83-6
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٩٤

المراد بالحكاية هو الكاشفية المتحقّقة في مثل اليد ونحوها.

قوله : وألحق بعض الأعاظم الواسطة الجلية بالواسطة الخفيّة ، وقال باعتبار الأصل المثبت فيها أيضاً ... الخ (١).

هو صاحب الكفاية قدس‌سره قال فيها ـ بعد أن منع من حجّية الأصل المثبت من جهة أنّ المتيقّن من أخبار الاستصحاب إنّما هو التنزيل بلحاظ آثار نفس المتيقّن لا آثار لوازمه ـ : نعم لا يبعد ترتيب خصوص ما كان منها محسوباً بنظر العرف من آثار نفسه لخفاء ما بوساطته ، بدعوى أنّ مفاد الأخبار عرفاً ما يعمّه أيضاً حقيقة فافهم. كما لا يبعد ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفاً بينه وبين المستصحب تنزيلاً ، كما لا تفكيك بينهما واقعاً ، أو بوساطة ما لأجل وضوح لزومه له أو ملازمته معه بمثابة عدّ أثره أثراً لهما ، فإنّ عدم ترتيب مثل هذا الأثر عليه يكون نقضاً ليقينه بالشكّ أيضاً بحسب ما يفهم من النهي عن نقضه عرفاً فافهم (٢).

ومن هذه العبارة تعرف أنّ مراده من خفاء الواسطة هو خفاؤها بالنظر العرفي ، بحيث إنّهم يرون أنّ ذلك الأثر ـ اللاحق لنفس الواسطة بحسب الدليل الدالّ على ذلك الحكم ـ لا حق لذي الواسطة ، على وجه يعدّ رفع اليد عنه في مقام الشكّ في بقاء ذي الواسطة نقضاً لليقين ، فالتسامح العرفي لا يكون في ناحية موضوع ذلك الدليل الدالّ على الحكم ، بل إنّما هو في ناحية صدق النقض على رفع اليد عن مثل تلك الآثار.

وحينئذ لو قلنا إنّ مفاد دليل التعبّد بالاستصحاب هو مجرّد البناء العملي

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٩٤.

(٢) كفاية الأُصول : ٤١٥ ـ ٤١٦.

١٠١

على طبق المستصحب ، لتوجّه على هذا الاستدلال ما أُفيد من أنّ عدّ العرف ترتيب آثار الواسطة ترتيباً على ذي الواسطة ، بحيث إنّهم يجعلون الأثر اللاحق للواسطة أثراً لذي الواسطة ، من التسامحات العرفية غير المقبولة شرعاً.

أمّا لو قلنا إنّ مفاد دليل التعبّد بالاستصحاب هو عدم نقض اليقين والمنع عن هدمه ، وكان عدم ترتيب آثار الواسطة بحسب نظرهم نقضاً لليقين بذي الواسطة ، لم يكن ذلك الإشكال متوجّهاً عليه ، فإنّ المراد بالنقض وإن لم يكن هو النقض الوجداني لأنّ اليقين قد انتقض وجداناً ، بل كان المراد به هو النقض العملي ، ولكن مع ذلك لا يكون ذلك النقض العملي مقيّداً بكونه النقض للعمل على خصوص آثار المتيقّن ، بل يكون ذلك النقض العملي باقياً على إطلاقه ، فيشمل ما يعد بحسب العرف نقضاً عملياً لليقين أو المتيقّن السابق ، كما لو كان ذلك عند العرف معدوداً من النقض العملي لليقين السابق.

ولكن مع هذا كلّه لا يكون هذا التوجيه خالصاً من الإشكال المزبور ، لأنّ العرف بعد فرض اعترافهم بأنّ تلك الآثار لم تكن آثاراً لذي الواسطة الذي هو المتيقّن ، بل كانت آثاراً للواسطة نفسها ، لم يكن عدّ ترك العمل بها عندهم نقضاً لليقين المتعلّق بذي الواسطة إلاّمن المسامحات العرفية غير المعتنى بها شرعاً ، ولعلّ قول صاحب الكفاية قدس‌سره : فافهم ، إشارة إلى ذلك.

ثمّ إنّ المراد بجلاء الواسطة ليس هو ما يتراءى من ظاهر مقابلتها بخفاء الواسطة ، بل المراد بجلائها هو وضوح ملازمتها لذي الواسطة على [ نحو ] يكون أحدهما عين الآخر في النظر العرفي ، كما في مثل زوجية الأربعة وكونها منقسمة بمتساويين ، فإنّ الملازمة بين الزوجية والانقسام بمتساويين ملازمة جلية واضحة على وجه يتخيّل أنّ أحدهما عين الآخر ، بحيث يصحّ أن ينسب ما هو الثابت

١٠٢

لأحدهما من الآثار إلى الآخر ، ولكنّه مع ذلك لا يخرج عن كونه من المسامحات العرفية التي لا عبرة بها شرعاً ، بعد فرض قيام الدليل على اختصاص تلك الآثار بأحد المتلازمين المذكورين.

وأمّا ما في الكفاية من قوله قدس‌سره : كما لا يبعد ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفاً بينه وبين المستصحب تنزيلاً كما لا تفكيك بينهما واقعاً (١) فهو إشارة إلى أمر آخر على تقدير ثبوته يكون خارجاً عن الأصل المثبت ، ومرجعه إلى أنّه ربما كان التلازم ثابتاً بين الأمرين في تمام مراحلهما حتّى في مرحلة التعبّد ، وهو مختصّ بخصوص ما لو كانت هناك آثار لذي الواسطة مصحّحة للتنزيل في ناحيته ، وكان التنزيل في ناحية ذي الواسطة مستلزماً عرفاً للتنزيل في نفس الواسطة ، لأجل الملازمة بين الأمرين حتّى في وجودهما التعبّدي.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ الملازمة بين الأمرين مهما بلغت من القوّة أو الوضوح فهي لا تكون إلاّفي واقعهما دون وجودهما التنزيلي ، فلا يكون عدّ العرف أنّ وجود أحدهما تعبّداً ملازم للتعبّد بالآخر إلاّمن قبيل الاعتبارات العرفية التي لا عبرة بها. مضافاً إلى ما عرفت من أنّه لو تمّ فإنّما يتمّ في خصوص ما لو جرى التعبّد في نفس ذي الواسطة ليكون التعبّد به ملازماً للتعبّد بالواسطة ، ولا يجري التعبّد بذي الواسطة إلاّ إذا كان له في حدّ نفسه آثار شرعية ومترتّبة على نفسه ، لتكون مصحّحة للتعبّد فيه ، فلا يتمّ برهاناً على الأصل المثبت فيما لم يكن لذي الواسطة أثر شرعي وكان الأثر الشرعي منحصراً بالواسطة ، فتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ هذا الإشكال على الشيخ قدس‌سره ـ أعني ما ملخّصه أنّ النظر

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤١٥.

١٠٣

العرفي غير معتبر في تعيين المصاديق ـ نقله صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل عن بعض السادة من الأجلّة ولعلّه هو السيّد الشيرازي قدس‌سره وأجاب عنه في الحاشية المزبورة بقوله : إنّ ذلك من باب تعيين مفهوم الخطاب بمتفاهم العرف ، لا من ( باب ) تطبيق المفاهيم على مصاديقها العرفية خطأ أو مسامحة ـ إلى أن قال ـ وكأنّه ( يعني السيّد قدس‌سره ) توهّم من مطاوي كلماته ( يعني الشيخ ) قدس‌سره أنّه استظهر من الخطاب وجوب ترتيب الآثار بلا واسطة بالاستصحاب ، ومع ذلك ألحق به ما ( يترتّب عليه ) بالواسطة الخفية لتطبيقه عليه بالمسامحة العرفية ، وإن لم يكن منطبقاً عليه حقيقة ، وغفل عن أنّه بصدد ادّعاء أنّ الظاهر منه هو وجوب ترتيب الأثر بلا واسطة عرفاً ، فيكون تطبيقه على ما يكون بلا واسطة كذلك تطبيقاً حقيقياً دقيقاً بلا مسامحة الخ (١).

ومرجع ذلك كلّه إلى أنّ المستفاد من أدلّة الاستصحاب هو لزوم ترتيب الآثار اللاحقة للمستصحب لحوقاً حقيقياً أو لحوقاً ادّعائياً عرفياً ، بحيث كانت آثاراً له بحسب النظر العرفي وإن لم تكن آثاراً له حقيقة ، فيكون ذلك من باب التوسعة في مفهوم الأثر ، وأنّه الأعمّ من الأثر اللاحق له حقيقة واللاحق له عرفاً ، فلا يكون ذلك إلاّمن باب التوسعة في مفهوم الأثر ، والفهم العرفي متّبع في ذلك ، وحينئذ فلا يتوجّه عليه ما أورده السيّد قدس‌سره بما شرحه شيخنا الأُستاذ قدس‌سره.

نعم ، يتوجّه عليه أنّ هذه التوسعة لا دليل عليها ، بل قام الدليل على خلافها ، إذ ليس لنا في أدلّة الاستصحاب لفظ الأثر كي يقال إنّ العرف يفهم منه الأعمّ من اللاحق حقيقة واللاحق عرفاً ، بل ليس لنا إلاّ النهي عن نقض اليقين ، وحيث إنّ النقض الممنوع ليس هو النقض الوجداني ، بل هو النقض التعبّدي

__________________

(١) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ٢١٢.

١٠٤

الراجع إلى التنزيل ولزوم ترتيب الأثر ، ومن الواضح أنّ التنزيل إنّما يصحّ بلزوم ترتيب آثار المنزّل عليه ، وهي منحصرة في الآثار اللاحقة لنفس المنزّل عليه ، فإنّها هي التي تكون مصحّحة للتنزيل دون الآثار اللاحقة لغيره ، إذ لا وجه للتعبّد ببقاء شيء بترتيب آثار غيره ، وعدّ العرف لها من آثاره لا يصحّح التنزيل إلاّبأن يخرجها الشارع عن ذلك الغير ، ويحكم بالحاقها بذلك المنزّل عليه ، وحينئذ فمع فرض بقائها عند الشارع لاحقة بذلك الغير لا تكون مصحّحة للتعبّد ببقاء المتيقّن.

والحاصل : أنّ المصحّح للتنزيل في ناحية المتيقّن إنّما هو خصوص آثاره الشرعية اللاحقة لنفس المتيقّن ، دون الآثار اللاحقة لغيره وإن عدّها العرف من آثاره ، لأنّ عدّ العرف لها من آثاره لا يصحّح الحكم ببقائه في مقام الشكّ في بقائه الراجع في الحقيقة إلى جعل آثاره ، إذ لا معنى للجعل التعبّدي للشيء إلاّجعل ذلك الشيء في عالم التشريع ، ولا معنى لجعله في عالم التشريع إلاّجعل آثاره ، وأمّا جعل آثار لوازمه فلا تكون مصحّحة لجعل نفس ذلك الشيء في عالم التشريع.

ثمّ لا يخفى أنّه قدس‌سره في الحاشية جعل المتلازمين في الجعل والتنزيل ناشئاً عن جلاء الواسطة ، بأن يكون وضوح التلازم الواقعي بينهما موجباً للتلازم بينهما في مقام التعبّد ، لا أنّ التلازم في مقام التعبّد أمر آخر غير جلاء الواسطة كما يظهر من الكفاية.

وكيف كان ، فإنّ التلازم بين التنزيلين لو صحّ وتم لم يكن راجعاً إلى الأصل المثبت. مضافاً إلى اختصاصه بخصوص ما ترتّب الأثر على كلّ من المتلازمين ، ولا يشمل ما كان الأثر مترتّباً على اللازم فقط وكان الملزوم خالياً من الأثر الشرعي

١٠٥

وبالأخرة أجاب عن ذلك بأنّه يكفي الأثر اللاحق له بالواسطة. ولا يخفى ما فيه من أنّه حينئذ يكون راجعاً إلى دعوى اغتفار الواسطة لخفائها أو جلائها.

ثمّ إنّه في آخر هذه الحاشية يظهر منه التفصيل بين كون الواسطة لازمة لمؤدّى الأصل فيجري فيها حينئذ اغتفارها لخفائها ، دون ما لو كانت ملزومة أو ملازمة ، ولعلّ منشأ هذا التفصيل هو دعوى أنّ أثر الأثر أثر ، ومع صحّة هذه القضية لا نحتاج إلى التمسّك للاغتفار بخفاء ولا بجلاء ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ أثر الأثر إنّما يعدّ عرفاً أثراً في خصوص الواسطة الخفية أو الجلية ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا ما استدلّ به في الحاشية بقوله : وسرّه أنّه قد مرّ أنّ تعيينه بمقدّمات الحكمة ، وليس ما لا واسطة له أصلاً بالاضافة إلى ما لا واسطة له عرفاً بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب كما لا يخفى ، ولا اعتبار بالقطع بإرادة مقدار من الخارج ، فإنّ المدار فيها إنّما هو على القطع به في مقام التخاطب كما حقّقناه في البحث غير مرّة فتأمّل تعرف سرّه (١). وقد اختصره في الكفاية بقوله : أنّ مفاد الأخبار عرفاً ما يعمّه أيضاً حقيقة ، فافهم (٢) وذلك بعد أن أفاد أنّ المانع من ترتيب أثر الواسطة غير الخفية هو أنّ المتيقّن إنّما هو التنزيل بلحاظ آثار نفسه ، وأمّا آثار لوازمه فلا دلالة هناك على لحاظها أصلاً الخ.

ففيه : ما عرفت الاشارة إليه من أنّه ليس لنا في أدلّة الاستصحاب ما يتضمّن لفظ الآثار حتّى يتأتّى فيها مسألة القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، كي يدّعى أنّ آثار ما بالواسطة غير الخفية خارجة ويكون القدر المتيقّن في مقام التخاطب هو غير تلك الآثار ، ويبقى الآثار اللاحقة لنفس ذي الواسطة حقيقة والآثار اللاحقة له

__________________

(١) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٢) كفاية الأُصول : ٤١٥.

١٠٦

عرفاً وإن كان بالواسطة الخفية ، وأنّه لا ميز للأوّل على الثاني بكونه قدراً متيقّناً في مقام التخاطب ، بل كلّ منهما قدر متيقّن في مقام التخاطب ، إذ كما عرفت أنّه ليس لنا إلاّ المنع من نقض اليقين المنزّل على التعبّد ببقائه ببقاء أثره ، وقد عرفت أنّ المصحّح لهذا التعبّد إنّما هو آثار نفسه دون آثار غيره ، وإن كان بالواسطة الخفية المصحّحة لعدّها آثاراً عرفية للمتيقّن.

ومن ذلك تعرف الخدشة فيما استدلّ به لدخول القسم الثاني من الآثار من الطريقة الأُخرى التي استدلّ بها في الكفاية بقوله : فإنّ عدم ترتيب مثل هذا الأثر عليه يكون نقضاً ليقينه بالشكّ أيضاً بحسب ما يفهم من النهي عن نقضه عرفاً فافهم (١) حيث إنّك قد عرفت أنّ النقض في المقام تعبّدي باعتبار آثار نفس المتيقّن ، وأنّ آثار الواسطة وإن كانت خفية أو جلية لا تكون مصحّحة لهذا التعبّد وإن عدّها العرف من آثاره ، فإنّ عدّ العرف لها من آثاره لا يوجب إلحاقها بآثاره الحقيقية في كونها مصحّحة للتنزيل المذكور ، كما عرفته تفصيلاً فيما مرّ ، فراجع وتأمّل ، هذا ما كنّا حرّرناه سابقاً.

ولكن لا يخفى أنّا بعد البناء على أنّ المجعول في باب الاستصحاب هو جعل حجّية اليقين السابق ، أو جعل حجّية الظنّ النوعي بالبقاء الحاصل من اليقين بالوجود سابقاً ، يكون حاله حال الأمارة ، وإنّما أخرجنا الأصل المثبت لدعوى كون هذه الحجّية ليست مطلقة كما في الأمارات ، بل هي مقيّدة بالجري على طبق المتيقّن السابق ، كما هو المستفاد من أخذ النقض في دليله ، وحينئذ فيكون حجّية الاستصحاب منوطة بذلك القيد أعني النقض ، فما عدّه العرف نقضاً لليقين السابق وجب ترتّبه وإن لم يكن هو من آثار المتيقّن ابتداءً ، بل كان من آثار

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤١٦.

١٠٧

الواسطة بحسب لسان الدليل الدالّ على ذلك الحكم.

نعم ، يبقى إشكال التفكيك بين نظر العرف إلى دليل الحكم فيرون أنّه من أحكام الواسطة ، ونظرهم إلى مفاد دليل الاستصحاب فيرون أنّ عدم ترتّبه نقضاً ، ولازم أنّهم يرون ذلك نقضاً هو كون ذلك الأثر في نظرهم أثراً لذي الواسطة ، وليس ذلك من قبيل مسامحتهم في مسألة الماء والتغيّر ، وأنّهم بحسب لسان الدليل يرون الحكم وارداً على المتغيّر لكن بحسب مفاد دليل الاستصحاب يرونه مصداقاً للنقض ، فإنّ مرجع تلك المسامحة إلى دعوى أنّهم وإن قالوا إنّ التغيّر له المدخلية في نجاسة الماء ، إلاّ أنّهم بحسب ذوقهم يتسامحون ويرون التغيّر علّة لا مركباً ، وهذه المسامحة هي المسوّغة لهم دعوى اتّحاد القضيتين وصدق مادّة النقض ، بخلاف التسامح المدّعى هنا فإنّه لا يخرج عن التناقض ، فتأمّل.

والسرّ في ذلك : هو أنّ التسامح العرفي تارةً يكون من باب التجوّز في الكلمة ، وهذا لا إشكال في عدم الاعتبار به كما مثّل به قدس‌سره في الأوزان ، فإنّ إطلاقهم الكرّ على ما ينقص عن الوزن المعلوم تجوزاً في لفظ الكرّ لا عبرة به ، ولا يترتّب عليه الأثر الشرعي ، أمّا التسامح فيما نحن فيه فكذلك لا عبرة به غير أنّه مجاز في الاسناد ، لأنّ الأثر الذي هو وجوب التصدّق مثلاً لو كان مركبه بحسب ما فهمه العرف من لسان الدليل هو نبات اللحية ، لم يكن تسامحهم في نسبته إلى ذات الولد الذي هو ابن الناذر مثلاً إلاّمن قبيل المجاز في الاسناد في نسبة العارض الذي هو وجوب التصدّق إلى غير ما هو له ، ولو من جهة كونه من قبيل نسبة العارض إلى أحد ملابسات معروضه ، أو من جهة ادّعاء كون نبات اللحية من قبيل العلّة في ورود ذلك الحكم على ذات الابن ، وإن كان هو ـ أعني نبات اللحية ـ في الحقيقة هو المعروض لذلك الحكم ، وأقصى ما في هذه النسبة

١٠٨

المجازية هو تصحيح نسبة النقض ، لكنّها أيضاً نسبة مجازية ، فهي غير داخلة في عموم « لا تنقض ».

وكذلك الحال فيما لو قال الشارع : الماء المتغيّر بالنجاسة نجس ، وقد فهم العرف أنّ هذه النسبة مجازية من قبيل المجاز العقلي ، وأنّ ما هو معروض النجاسة حقيقة إنّما هو ذات الماء ، وأنّ التغيّر إنّما يكون علّة في ورود النجاسة على ذات الماء ، فعلى هذا التقدير يكون موضوع الحكم حقيقة هو ذات [ الماء ] ويكون التجوّز في النسبة الواقعة في كلام الشارع وأنّها ليست على حقيقتها.

ولو كان الأمر بالعكس ، بأن كان ما أفاده الشارع من النسبة المذكورة هي النسبة الحقيقية بحسب ما يفهمه العرف ، لكنّهم مع ذلك ينسبون النجاسة إلى الماء من قبيل التجوّز المعبّر عنه بالتسامح العرفي ، فإنّه حينئذ لا عبرة بهذا التسامح المبني على التجوّز ، ولا يكون مولّداً لصحّة نسبة النقض إلاّمجازاً ، ولا عبرة بها فيما يستفاد من قوله عليه‌السلام : « لا تنقض » الخ ، فإنّ المراد هو النقض الحقيقي لا المجازي ، فلاحظ.

قوله : وإن احتمل ثبوتاً أن يكون للواسطة دخل في ترتّب الأثر على مؤدّى الأصل ... الخ (١).

لا يخفى أنّه لابدّ من سدّ هذا الاحتمال بالقطع بعدمه ، وإلاّ فمع احتمال مدخلية السريان مثلاً في التنجيس بالملاقاة مثلاً لا يكاد ينفعنا استصحاب الرطوبة في النجس الملاقي. ثمّ إنّه لو كان ذلك الذي احتمل مدخليته لم يكن من قبيل المدخلية في العلّة ، كما في مثال الرطوبة والملاقاة ، بل كان من قبيل المدخلية في الموضوع ، كما في مثل مسألة احتمال مدخلية العنبية في حرمة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٩٤.

١٠٩

العصير ، لم تكن مدخليته المحتملة إلاّمن قبيل مدخلية العلّة المحدثة أو المبقية التي لابدّ من إحرازها ولا يكفي احتمالها ، غايته أنّه بعد زوالها يشكّ في بقاء الحكم من جهة احتمال أنّ مدخليتها من قبيل العلّة المحدثة ، أو من قبيل المبقية.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أُفيد بعد أسطر من قوله : وكانت الواسطة العقلية أو العادية علّة الخ (١) فإنّها لو كانت علّة لكان الواجب إحرازها في مثل الملاقاة والرطوبة ، إلاّ أن يكون المراد هو تقدّم العلم بالذات مقرونة بتلك العلّة ثمّ طرأ الشكّ في بقاء الذات ، سواء كان بقاء تلك العلّة مشكوكاً أيضاً أو كانت معلومة الارتفاع.

ثمّ لا يخفى أنّ قوله : وإن فرض أنّ العرف يتسامح الخ ، على الظاهر أنّه لا محصّل له في المقام ، فتأمّل.

قوله : وما قرع سمعك من اتّباع نظر العرف في باب الاستصحاب وأخذ الموضوع منه ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ من يدّعي المسامحة العرفية في الواسطة الخفية لا يريد بها التوسعة في موضوع الحكم ، بل لا يريد بها إلاّ المسامحة بحسب اتّحاد القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة ، بحيث إنّ الأثر وإن كان مترتّباً على تلك الواسطة ، ومقتضاه اختلاف القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة ، إلاّ أنّ العرف يتسامح لأجل خفاء الواسطة في التغاير المذكور ، ويعدّ الجري العملي الراجع في الحقيقة إلى الواسطة جرياً عملياً على اليقين السابق في ذي الواسطة ، بناءً على ما ذكرناه من الوجه في عدم حجّية الأُصول المثبتة من تقييد حجّيتها بحيثية الجري العملي

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٩٥.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٩٥.

١١٠

على طبق اليقين السابق ، وينبغي مراجعة ما أُفيد في مسألة الذباب بقية التقارير (١) ، والظاهر أنّه لا يتمّ شيء ممّا أُفيد فيها.

قوله : وإن كان الحكم الشرعي مترتّباً في الواقع على ذي الواسطة ، وكانت الواسطة العقلية أو العادية علّة لثبوت الحكم لمؤدّى الأصل ، فهذا لا يرجع إلى الأصل المثبت ، وإن فرض أنّ العرف يتسامح ويجعل الموضوع للحكم نفس الواسطة ... الخ (٢).

وقال في تحرير السيّد سلّمه الله : فإن كان معنى خفاء الواسطة أنّ العرف بحسب المستفاد من الدليل ، أو بحسب ما ارتكز في أذهانهم من مناسبات الحكم والموضوع يفهمون من الدليل أنّ الحكم ثابت لذي الواسطة ، ويرون الواسطة من علل الحكم ، بحيث لا يكون له دخل في قوام الموضوع ، فهذا يرجع إلى إنكار الواسطة حقيقة وثبوت الحكم لنفس ذي الواسطة (٣).

لكن ذلك لا يصحّح الاستصحاب فيما نحن فيه ، نعم إنّ ذلك نافع فيما لو وجد الموضوع ووجدت تلك الواسطة ثمّ زالت مثل زوال تغيّر الماء ، وحصل الشكّ في بقاء نجاسته من جهة الشكّ في كيفية تلك العلّة ، وأنّها هل هي محدثة ومبقية أو محدثة فقط ، فإنّه حينئذ يجري استصحاب نجاسة الماء ، لبقاء الموضوع الذي هو ذات الماء ، وأنّ مدخلية التغيّر فيه مدخلية العلّة لا قيد الموضوع.

وأمّا إذا شككنا في بقاء نفس الموضوع ، وعلى تقدير بقائه إلى الآن فهو قد

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ٤ : ١٣٧ ـ ١٣٨.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٩٥.

(٣) أجود التقريرات ٤ : ١٣٦.

١١١

طرأ عليه ما هو علّة ورود الحكم عليه ، بأن فرضنا أنّ موضوع وجوب التصدّق هو ذات زيد مثلاً ، ولكن كان نبات لحيته علّة في طروّ ذلك الحكم عليه ، فأقصى ما عندنا هو استصحاب بقاء ذات زيد ، ولكن مجرّد الحكم ببقاء ذاته لا يكون حكماً بطروّ تلك العلّة عليه كي يلحقه وجوب التصدّق ، وإن كان طروّ تلك العلّة عليه ـ أعني نبات اللحية ـ من لوازم بقائه عقلاً ، فنحن وإن أخرجنا هذه الواسطة عن كونها موضوعاً لذلك الأثر وجعلناها علّة للحوق ذلك الأثر لزيد المذكور ، لكن لا يخرج استصحاب حياته لترتيب ذلك الأثر عليه ـ أعني وجوب التصدّق ـ عن كونه مثبتاً ، فإنّ لحوق الحكم لتلك الذات يتوقّف على تحقّق العلّة المذكورة ، واستصحاب بقاء ذاته لا يحقّقها إلاّبالأصل المثبت ، فلاحظ.

نعم ، لو علمنا بوجود أصل الذات وعلمنا بطروّ تلك العلّة عليها ، ثمّ طرأ الشكّ لنا في بقاء تلك الذات ، كان استصحاب بقاء تلك الذات كافياً في الحكم بترتّب ذلك الحكم عليها ، سواء كان بقاء تلك العلّة مشكوكاً أو كانت معلومة الارتفاع ، بل حتّى لو كانت العلّة معلومة البقاء على تقدير بقاء الذات ، نعم في صورة العلم بارتفاعها لا ينفعنا استصحاب بقاء الذات لو كان بقاء الحكم منوطاً ببقاء تلك العلّة حتّى لو قلنا بحجّية الأصل المثبت. وعلى كلّ حال ، حيث جرى استصحاب الذات لا يكون ذلك من الأصل المثبت ، والظاهر أنّ هذا الفرض هو المراد له قدس‌سره.

قوله : إذ ما من مورد إلاّويمكن فيه دعوى كون الواسطة خفية أو جلية ... الخ (١).

قد عرفت أنّ معنى خفاء الواسطة هو خفاؤها في التوسّط ، بحيث إنّ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٩٥ ـ ٤٩٦.

١١٢

العرف يرى أنّ الأثر لاحق لذي الواسطة لدقّة توسّط تلك الواسطة ، كما في مثل توسّط السريان في تنجّس الملاقي ، فإنّ العرف يرى أنّ التنجيس مترتّب على الملاقاة مع الرطوبة ، ولا يلتفت إلى مدخلية السريان المذكور. ومعنى جلاء الواسطة هو وضوح اللزوم بينها وبين ذي الواسطة على وجه يرى العرف أنّ أحدهما عين الآخر ، وأنّ الأثر اللاحق لأحدهما لاحق للآخر ، وقد مثّل لذلك في حاشيته على الرسائل بالأُبوّة والبنوّة (١) ، ومن الواضح أنّ هذين الدعويين لا يجريان في جميع الأُصول المثبتة ، فإنّه لم يتوهّم أحد في مثل الحياة ونبات اللحية مثلاً أنّ مدخلية نبات اللحية في وجوب التصدّق مدخلية خفية على وجه لا يلتفت إليها العرف ، ويعدّون وجوب التصدّق لاحقاً لنفس الحياة ، كما أنّه لم يتوهّم أحد أنّ الملازمة بينهما هي نظير الملازمة بين الزوجية والانقسام بمتساويين في الجلاء والوضوح على وجه يكون الأثر اللاحق لنبات اللحية لاحقاً للحياة.

قوله : فإن قلنا بالأوّل فالمثال يندرج في باب الموضوعات المركّبة المحرزة بعض أجزائها بالوجدان والآخر بالأصل ـ إلى قوله ـ فإنّ المفروض أنّ الحكم بنجاسة الطاهر مترتّب على نفس ملاقاته للنجس الرطب ، فباستصحاب بقاء الرطوبة في الجسم النجس يحرز أحد جزأي الموضوع والجزء الآخر وهو المماسة محرز بالوجدان ... الخ (٢).

لا يخفى أنّا لو قلنا بكفاية الرطوبة في النجس ولم نعتبر السريان ، لم يكن استصحابها بمفاد كان التامّة محرزاً لموضوع التنجّس ، سواء قلنا إنّه ملاقاة الطاهر

__________________

(١) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ٢١٣.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٩٦.

١١٣

للرطوبة النجسة أو قلنا إنّه ملاقاة الطاهر للنجس الرطب ، إذ لا يحرز بمجرّد استصحاب بقاء الرطوبة بمفاد كان التامّة ملاقاة الطاهر للرطوبة أو للنجس الرطب إلاّ بالأصل المثبت.

أمّا على الأوّل ـ أعني كون المدار في النجاسة على ملاقاة الطاهر للرطوبة النجسة ـ فلأنّ استصحاب وجود الرطوبة بضمّ ملاقاة الطاهر للجسم لا يثبت ملاقاته للرطوبة ، ويكون ذلك من قبيل استصحاب وجود كرّ الماء في هذا الحوض لإثبات تطهّر المتنجّس الذي أُلقي فيه.

وأمّا على الثاني ـ أعني كون المدار على ملاقاة الطاهر للنجس الرطب ـ فلأنّ استصحاب وجود الرطوبة في الجسم النجس بعد إحراز الملاقاة لا يثبت كون الملاقى ـ بالفتح ـ رطباً إلاّبالأصل المثبت ، أعني كون الأثر مترتّباً على مفاد كان الناقصة ، مع أنّ الأصل لا يكون إلاّبمفاد كان التامّة ، ويكون ذلك من قبيل استصحاب وجود الكرّ لإثبات كون هذا الماء الموجود كرّاً.

وحينئذ لابدّ من استصحاب الرطوبة في الجسم النجس بمفاد كان الناقصة ، فيقال حينئذ : إنّ هذا الجسم كان رطباً وقد لاقته اليد الطاهرة فنستصحب كونه رطباً إلى حين ملاقاته للطاهر ، وحينئذ يتمّ كونه من باب إحراز أحد جزأي الموضوع للنجاسة وهو ملاقاة الطاهر للجسم النجس الرطب بالأصل ، والآخر وهو الملاقاة بالوجدان ، هذا إن قلنا بالأوّل وهو الاكتفاء في الحكم بالتنجّس بملاقاة النجس الرطب.

وأمّا لو قلنا بالثاني وهو اعتبار السريان فذلك الاستصحاب ولو كان بمفاد كان الناقصة لا ينفع في إثبات تلك الواسطة وهي السريان ، ولا يكون ذلك من قبيل استصحاب وجود الماء في هذا الحوض ، ولا من استصحاب وجود الكرّ

١١٤

فيه ، بل هو من قبيل استصحاب الحياة لترتيب آثار لازمها الذي هو نبات اللحية.

قوله : وإن قلنا بالثاني فاستصحاب بقاء الرطوبة في الجسم النجس لا أثر له ، لأنّه لا يثبت التأثير والتأثّر وانتقال النجاسة من النجس إلى الطاهر لأنّ ذلك من اللوازم العقلية لبقاء الرطوبة في أحد المتلاقيين ... الخ (١).

ستأتي الاشارة (٢) إلى أنّه بناءً على اعتبار السريان لا يكون استصحاب بقاء الرطوبة المسرية في النجس كافياً في الحكم بتنجّس الملاقي الطاهر لو كان الطاهر جافّاً ، والظاهر أنّ الأمر كذلك في صورة العكس ، بأن يكون النجس جافّاً ويكون الطاهر مورداً لاستصحاب الرطوبة المسرية ، أمّا لو كان الطاهر رطباً رطوبة مسرية وقد لاقى ما هو مستصحب النجاسة وكان جافّاً ، فالظاهر أن يكون استصحاب النجاسة في ذلك الملاقى كافياً في الحكم بالنجاسة ، لأن كلاً من الرطوبة والسريان محرز بالوجدان ، والجزء الآخر ـ وهو كون الملاقى نجساً ـ محرز بالأصل.

والإنصاف : أنّي لم أتوفّق إلى الآن لمعرفة ما هو المقصود من هذا السريان الذي يتوقّف عليه الحكم بتنجّس الملاقي الطاهر ، فإن كان المراد به هو سريان أجزاء من النجس أو المتنجّس إلى الجسم الطاهر كما هو ظاهر التعبير هنا وفي الرسائل (٣) ، ففيه أوّلاً : أنّ هذا يوجب أن لا يتنجّس الجسم الرطب رطوبة مسرية بملاقاته للنجس الجاف ، لأنّ تلك الرطوبة حينئذ لا تتنجّس فضلاً عن تنجّس الجسم ، إذ لا ينتقل من أجزاء النجس إلى شيء من أجزاء تلك الرطوبة ، اللهمّ إلاّ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٩٦.

(٢) في الصفحة : ١٢١ ـ ١٢٢.

(٣) فرائد الأُصول ٣ : ٢٤٤.

١١٥

أن يريد به مجرّد اختلاط الأجزاء ، سواء كانت من النجس إلى الطاهر أو من الطاهر إلى النجس. وثانياً : أنّ اللازم على ذلك هو لزوم الاجتناب عن ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة ، لأنّه قدس‌سره رتّب في الوسيلة طبع النجف لزوم الاجتناب عن الملاقي على القول بالسريان المذكور ، وهو قدس‌سره لا يقول باعتبار هذا المعنى من السريان ، فراجع الوسيلة (١) مع أنّه قدس‌سره قائل هنا باعتبار السريان كما يظهر من حاشيته على العروة في المسألة السابقة (٢) على المسألة التي قدّمنا نقلها.

اللهمّ إلاّ أن يريد بالسريان هناك هو سراية الحكم الذي هو النجاسة من النجس إلى الطاهر ، فلا يكون الملاقى موضوعاً جديداً ، بل يكون من باب اتّساع الموضوع الأوّل ، وهذا بخلاف السريان الذي يعلّق عليه حكم التنجيس بالملاقاة فإنّه عبارة عن اختلاط الأجزاء في الرطوبة التي على أحد المتلاقيين.

وبالجملة : لم أتوفّق لمعرفة السريان هنا ، فإنّ أخسّ الصور هو أن يكون النجس رطباً لا أقل [ من ] أنّه ماء ، فلو لاقته يدك الجافّة فقد انتقلت أجزاء من الماء إلى يدك ، ولكن كيف نجّست تلك الأجزاء يدك الطاهرة ، هل نجّستها بالانتقال أيضاً أو بمجرّد الملاقاة مع الرطوبة؟ لا سبيل إلى الأوّل ، إذ لا انتقال في تلك الأجزاء ، فينحصر الأمر حينئذ بالثاني ، وهو كون الملاقاة مع الرطوبة منجّسة ، فحينئذ نقول بذلك في الأوّل ، يعني نقول إنّ يدنا إنّما تنجّست بواسطة ملاقاة ذلك الماء المفروض كونه مع الرطوبة ، من دون أن نقول بأنّ للانتقال مدخلية ، فتأمّل لإمكان الجواب عن هذه الجهة الأخيرة بالالتزام بأنّ المنجّس هو الماء لكن بشرط سراية أجزاء منه إلى اليد ، لا أنّ المنجّس هو تلك الأجزاء

__________________

(١) وسيلة النجاة : كو ـ كز [ لا يخفى أنّه قد رمز إلى الصفحات الأُولى منهابالحروف ].

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ١٦٨ مسألة (١).

١١٦

السارية المنتقلة إلى اليد كي يتأتّى فيها الإشكال بأنّها كيف نجّست اليد.

والحاصل : أنّ هذا ـ أعني تنجّس الملاقي الذي هو اليد ـ حكم شرعي لاحق له عند ملاقاته لنجس تسري من أحدهما أجزاء رطبة إلى الآخر ، بحيث إنّا فهمنا من الدليل على ذلك ولو بمعونة العرف أنّ المدار في الحكم بالتنجيس هو سراية الرطوبة من أحد المتلاقيين إلى الآخر مع كون المنجّس هو الملاقى ، لا الأجزاء المنتقلة منه إلى الملاقي أو الأجزاء المنتقلة من الملاقي إليه.

قال في العروة في فصل كيفية تنجّس المتنجّسات : وكذا لا ينجس إذا كان فيهما أو في أحدهما رطوبة غير مسرية (١) ثمّ قال في مسألة ١٢ : قد مرّ أنّه يشترط في تنجّس الشيء بالملاقاة تأثّره ، فعلى هذا لو فرض جسم لا يتأثّر بالرطوبة أصلاً كما إذا دهن على نحو إذا غمس في الماء لا يتبلّل أصلاً ، يمكن أن يقال إنّه لا ينجس بالملاقاة ولو مع الرطوبة المسرية ، ويحتمل أن تكون رجل الزنبور والبق والذباب من هذا القبيل (٢) فهل المراد من السريان هو التأثّر المذكور ، الظاهر من قوله ولو مع الرطوبة المسرية ، أنّ التأثّر غير السريان ، إلاّ أن يكون المراد أنّ التأثّر هو السريان ، ويكون المراد من قوله : ولو مع الرطوبة المسرية ، أنّها في حدّ نفسها مسرية لو لاقت ما لا مانع فيه من السريان ، فتأمّل.

ثمّ إنّه في مثل الأمثلة في غنى عن دعوى اعتبار التأثّر ، نعم لو كانت يد الإنسان المتنجّسة مدهونة على النحو المسطور ، ولاقت الرطب أو الماء القليل أمكن القول بعدم تنجّسه بملاقاتها ، فتأمّل. ولعلّ المراد من المسرية الاحتراز عمّا إذا لم تكن منتقلة كما في رطوبة الجدار الذي وراءه بالوعة ، راجع ما في

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ١٦٧.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥.

١١٧

المستمسك ج ١ ص ٢١٢ (١) ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ ملاقاة الطاهر للنجس وإن أمكن أن تكون منجّسة بقول مطلق ، إلاّ أنّه قد خرج الجافّان بلا شبهة ولا ارتياب ، وحينئذ ينحصر التنجّس فيما لو كان بينهما رطوبة في كلّ منهما أو في أحدهما ، والسرّ في ذلك هو أنّ القابل للتنجّس بملاقاة النجس إنّما هو نفس الرطوبة ، كما أنّها بنفسها تنجّس الطاهر لو كانت نجسة أو متنجّسة.

وحينئذ فعند ملاقاة الطاهر للنجس وبينهما رطوبة في كلّ منهما تكون رطوبة النجس منجّسة لرطوبة الطاهر ، وهي ـ أعني رطوبة الطاهر بعد تنجّسها ـ تنجّس نفس سطح الجسم الطاهر ، ولو كانت الرطوبة على النجس فقط فهي عند ملاقاة الطاهر الجافّ تنجّس سطحه ، كما أنّها لو كانت على الجسم الطاهر ولاقت سطحاً نجساً تنجّست هي ابتداءً بالملاقاة ، وتنجّس سطح الطاهر أيضاً بملاقاتها.

وحينئذ يكون المدار في النجاسة على ملاقاة الرطوبة ، ومن الواضح أنّ استصحابها في أحدهما لا يثبت كون تلك الملاقاة ملاقاة للرطوبة ، مثلاً لو كان هذا السطح الطاهر جافّاً ولكن كان في سطح ذلك النجس رطوبة ، كانت الملاقاة موجبة لملاقاة السطح الجاف للرطوبة النجسة فتنجّسه ، أمّا لو لم يكن في طرف السطح النجس إلاّ استصحاب الرطوبة ، لم يكن استصحابها فيه محقّقاً لملاقاة السطح الطاهر للرطوبة النجسة ، فلا نحكم بتنجّسه إلاّبالأصل المثبت. وأشدّ منه ما لو كان الأمر بالعكس ، بأن كان النجس جافّاً وكان ما هو مستصحب الرطوبة هو الطاهر ، فإنّ استصحاب بقاء الرطوبة فيه لا يوجب الحكم بنجاسته ، إلاّبعد ثبوت أنّ رطوبة الطاهر لاقت النجس وتنجّست فنجّست السطح الطاهر.

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ١ : ٤٦٧ ـ ٤٦٨.

١١٨

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ كون هذا الأصل مثبتاً لا يتوقّف على مدخلية السريان في التنجيس ، بل ولا على مدخلية انتقال الرطوبة ، بل يتوقّف على إثبات كون الملاقاة ملاقاة للرطوبة ، واستصحاب بقائها لا يثبت ملاقاتها ، من دون فرق في ذلك بين كون الرطوبة المستصحبة هي رطوبة النجس أو هي رطوبة الطاهر.

والحاصل : أنّه لا يعتبر السريان ولا الانتقال ولا قابلية الانتقال ، بل ليس المعتبر والمنجّس إلاّملاقاة الرطوبة ، واستصحاب بقائها لا يثبت أنّ ذلك التلاقي بين الجسمين قد اشتمل على ملاقاة أحدهما للرطوبة ، وإنّما لم نقل بالنجاسة إذا فرضنا أنّ عين النجاسة لا تقبل التلوّث بالرطوبة التي على العين الطاهرة ، كما لو فرضنا هناك دسومة مانعة من تلوّث الجسم الدسم النجس بالرطوبة التي على الطاهر ، وهكذا الحال فيما لو فرضنا عدم تلوّث الطاهر برطوبة الجسم النجس ، فإنّه لا ينجس لعدم تحقّق ملاقاة الرطوبة ، لا لأجل أنّ الملاقاة تحقّقت في الصورتين لكنّها فاقدة الانتقال الفعلي. نعم لابدّ من صدق الرطوبة على وجه تكون الملاقاة ملاقاة للرطوبة ، ليخرج ما يكون من قبيل النداوة ، على ما عرفت تفصيله في مبحث الطهارة في شرح الفروع المتعلّقة بقوله : فصل في كيفية التنجيس ، فراجع (١).

تنبيه : قد أُورد على القول بالأصل المثبت بالمعارضة. وأجاب الشيخ قدس‌سره (٢) عن ذلك بالحكومة ، وقد تعرّض لذلك شيخنا قدس‌سره فيما حرّرناه عنه بما حاصله : أنّه إن كان مناط دعوى صحّة الأُصول المثبتة هو كون مثل استصحاب الحياة مثبتاً للازمه وهو نبات اللحية ، وبعد ثبوت اللازم يترتّب عليه أثره وهو

__________________

(١) لعلّه قدس‌سره يريد بذلك أبحاثه الفقهية المخطوطة.

(٢) فرائد الأُصول ٣ : ٢٣٧.

١١٩

وجوب التصدّق ، وردّ عليه ما أفاده الشيخ قدس‌سره من عدم المعارضة حينئذ ، لكون استصحاب الحياة حاكماً على أصالة عدم نبات اللحية لكونه مسبّباً عنه حينئذ ، ولو كان مناط دعوى صحّة الأُصول المثبتة هو دعوى كون أثر الأثر أثراً ، بأن يكون وجوب التصدّق من آثار الحياة لكونه أثراً لأثره الذي هو نبات اللحية ، بلا أن يكون مثبتاً لنبات اللحية ، لم يرد على التعارض المذكور ما أورده الشيخ قدس‌سره من الحكومة ، حيث إنّه حينئذ يكون وجوب التصدّق أثراً لكلّ من الحياة ونبات اللحية ، ويكون استصحاب بقاء الأوّل مقتضياً لثبوته ، واستصحاب عدم الثاني مقتضياً لعدمه.

لا يقال : يكون أصالة عدم نبات اللحية حاكماً على أصالة بقاء الحياة بالقياس إلى هذا الحكم أعني وجوب التصدّق ، لكونه رافعاً لموضوع هذا الحكم ، من دون أن يكون أصالة بقاء الحياة مثبتة لموضوعه الذي هو النبات ، فيكون من قبيل حكومة الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي.

لأنّا نقول : كلا الأصلين بالقياس إلى هذا الأثر ـ أعني وجوب التصدّق ـ أصل موضوعي ، أمّا أصالة عدم نبات اللحية فواضح ، وأمّا أصالة بقاء الحياة فإنّه بعد فرض تسليم هذه الدعوى وهي أنّ أثر الأثر أثر ، يكون وجوب التصدّق من آثار الحياة ومن أحكامها ، فتكون الحياة موضوعاً لهذا الأثر ، فيكون كلا الأصلين موضوعياً بالقياس إلى هذا الأثر.

قوله : نعم ، في خصوص مثال الذباب احتمال آخر مال إليه بعض ، وهو عدم نجاسة الذباب بملاقاته للنجس ، ولعلّه لقيام السيرة على عدم الاعتناء بملاقاة الذباب الطائر من المحل النجس إلى المحل الطاهر ... الخ (١).

اعلم أنّ الشيخ قدس‌سره بعد أن أشكل على استصحاب بقاء الرطوبة في أحد

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٩٧.

١٢٠