أصول الفقه - ج ١٠

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٠

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-83-6
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٩٤

الثانية : أنّ الاباحة التي هي أحد الأحكام الخمسة هي في قبال كلّ واحد منها فتكون حكماً ثبوتياً ، وهو عبارة عن تساوي الطرفين ، سواء قلنا بأنّها اقتضائية أو قلنا بأنّها غير اقتضائية ، بمعنى أنّ الحكم بتساوي الطرفين هل هو ناش عن مقتض يقتضي ذلك التساوي ، أو أنّه ناش عن عدم ما يقتضي ترجيح أحد الطرفين على الآخر. وعلى كلّ حال ، فليست هي إلاّعبارة عن الحكم بتساوي الطرفين ، فليست هي أمراً عدمياً لتكون عبارة عن عدم كلّ واحد من الأحكام الأربعة الباقية ، فليست الاباحة عبارة عن عدم الحرمة مثلاً ، بل هي حكم ثبوتي مضاد للأحكام الباقية ، كما أنّ كلّ واحد من تلك الأحكام مضاد لكل واحد من باقيها.

الثالثة : أنّ عدم الحكم وإن لم يكن بنفسه حكماً شرعياً ، إلاّ أنّه قابل للتعبّد الشرعي ، ولو باعتبار كونه بيد الشارع الناشئ عن كون وجود ذلك الحكم بيده ، فيكون عدمه بيده أيضاً ، وإلاّ لكان نفس الحكم غير اختياري له ، إلاّ أنّ ذلك ـ أعني قابليته للتعبّد الشرعي ـ إنّما هو فيما لو جرى الأصل في نفس عدم الحكم ، كما في استصحاب عدم الوجوب مثلاً ، أو استصحاب عدم الحرمة ، أمّا إذا كان المستصحب هو نفس الحكم ، فلا يكون ذلك الاستصحاب موجباً للتعبّد بعدم غيره من الأحكام ، فلا يكون استصحاب الوجوب والتعبّد ببقائه موجباً للتعبّد بعدم الحرمة مثلاً ، فإنّ عدمها وإن كان أثراً شرعياً بالاعتبار المتقدّم ، إلاّ أنّ ترتّبه على استصحاب الوجوب لمّا لم يكن شرعياً ، بل كان بالملازمة العقلية الناشئة عن كون وجود أحد الضدّين ملازماً لعدم الضدّ الآخر ، لم يمكن الحكم بترتّبه على استصحاب الوجوب إلاّبالأصل المثبت.

بل يمكن أن يقال : إنّ عدم الحرمة في مورد استصحاب الوجوب مثلاً ليس

٦١

بأثر شرعي ولو بذلك المعنى المتقدّم ، لما هو واضح من أنّه لا يمكنه الحكم بالحرمة في ظرف حكمه بالوجوب ، فلا يكون عدم الحرمة في ذلك الظرف بيد الشارع بل يكون قهرياً عليه.

وحينئذ فلو قلنا بأنّ الحلّية هي أحد الأحكام فكانت ضدّاً لباقيها ، لم يكن استصحاب الحرمة قاضياً بالتعبّد بعدمها بذلك المعنى الثبوتي ، نعم لو قلنا بأنّها عبارة عن أمر عدمي ، يعني عدم الأحكام الأربعة أو عدم خصوص الحرمة ، لكان استصحاب بقاء الحرمة قاضياً بعدمها ، بل كان استصحاب وجود الحرمة عين استصحاب عدم تلك الاباحة التي هي عدم الحرمة ، فإنّ وجود الحرمة عبارة أُخرى عن عدم عدمها.

إذا عرفت ذلك فنقول : قال الشيخ قدس‌سره في الجواب عن إشكال معارضة استصحاب الحرمة التعليقية باستصحاب الاباحة قبل الغليان ما هذا لفظه : والثاني ( يعني إشكال المعارضة ) فاسد ، لحكومة استصحاب الحرمة على تقدير الغليان على استصحاب الاباحة قبل الغليان (١). ولم يبيّن الوجه في هذه الحكومة ، فإن كانت الحلّية المستصحبة هي عبارة عن عدم الحكم ، بمعنى أنّ العنب قبل الغليان لا حكم له حتّى الاباحة التي هي عبارة عن الحكم بتساوي الطرفين ، اتّجهت الحكومة ، لكنّه فرض لا واقعية له ، إذ لا يخلو الشيء من أحد الأحكام الخمسة. وإن كانت الحلّية عبارة عن أحد الأحكام الأربعة ـ أعني ما عدا الحرمة من الأحكام الخمسة ـ لم يكن وجه للحكومة المذكورة ، إذ لا يكون عدم الحرمة بهذا المعنى نقيضاً لها ، بل يرجع إلى أحد الأضداد الوجودية. وإن كان المراد بالحلّية هي الاباحة الثبوتية التي هي ضدّ الحرمة ، كانت المعارضة أوضح ، لأنّ استصحاب

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ٢٢٣.

٦٢

الحرمة لا يقتضي التعبّد بعدم هذه الاباحة إلاّعلى الأصل المثبت ، الذي يكون مرجعه إلى أنّ التعبّد بأحد الضدّين يكون موجباً للحكم بعدم الضدّ الآخر ، ولو اقتضاه لقلنا إنّ التعبّد بالاباحة المذكورة يكون موجباً للحكم بعدم الحرمة.

ولا يخفى أنّ مورد كلام الشيخ قدس‌سره وإن كان هو استصحاب الحرمة والنجاسة المعلّقتين على الغليان ، إلاّ أنّه لمّا لم يكن كلامه ظاهراً في أنّ خصوصية التعليق هي مدرك الحكومة ، كان اللازم من كلامه هو أنّ استصحاب الحرمة مطلقاً حاكم على استصحاب الحلّية ، وكذا استصحاب النجاسة بالنسبة إلى استصحاب الطهارة فيرد عليه أنّه يلزمه أن يقول بالحكومة في مورد تعاقب الحالتين الحلّية والحرمة والطهارة والنجاسة.

أمّا ما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره بقوله : فالغليان في المثال كما كان شرطاً للحرمة كان غاية للحلّية ، فإذا شكّ في حرمته المعلّقة بعد عروض حالة عليه ، شكّ في حلّيته المغيّاة لا محالة أيضاً ـ إلى قوله ـ فقضيّة استصحاب حرمته المعلّقة بعد عروضها الملازم لاستصحاب حلّيته المغياة حرمته فعلاً بعد غليانه وانتفاء حلّيته الخ (١) ففيه أنّه بعد البناء على كون الحلّية هي الحلّية الثبوتية ، لا يكون جعل الحرمة للعصير العنبي على تقدير الغليان موجباً لجعل الشارع الغليان غاية للحلّية ، وإنّما أقصى ما فيه هو أنّ جعل الحرمة له على تقدير الغليان يكون رافعاً قهرياً للحلّية عند الغليان ، لأنّ جعل أحد الضدّين يكون موجباً تكويناً لرفع الضدّ الآخر ، وحينئذ فبعد أن صار العنب زبيباً ثمّ طرأه الغليان جرى فيه كلا الاستصحابين ووقع التعارض بينهما ، ولو أُريد بالاستصحاب استصحاب ارتفاعها بالغليان فقد عرفت أنّ ارتفاع الحلّية بالغليان الموجب للحرمة لا يكون

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤١٢.

٦٣

بجعل الشارع ، فكيف يمكن استصحابه.

ولا بأس بنقل نصّ ما كنت حرّرته عن شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في هذا المقام فلعلّ أن ترتفع به الشبهة من أصلها ، قال قدس‌سره : ثمّ إنّه بناءً على صحّة الاستصحاب التعليقي في مثال العنب والزبيب لا شبهة فيما أفاده الشيخ قدس‌سره من حكومة استصحاب الحرمة التعليقية على استصحاب الحلّية الثابتة للعصير الزبيبي قبل الغليان ، لكون الشكّ في بقاء الحلّية مسبّباً عن الشكّ في بقاء الحرمة التعليقية.

لا يقال : إنّ كلاً من الشكّ في بقاء الحلّية قبل الغليان وبقاء الحرمة المعلّقة على الغليان مسبّب عن الشكّ في كون ذلك الحكم ـ أعني حرمة العصير العنبي على تقدير الغليان ـ شاملاً للعصير الزبيبي ، فإن كان شاملاً له كانت تلك الحرمة التعليقية باقية قطعاً ، وتلك الحلّية مرتفعة قطعاً ، وإن لم يكن شاملاً له كان الأمر بالعكس ، فلا وجه لكون الشكّ في بقاء الحلّية مسبّباً عن الشكّ في بقاء الحرمة التعليقية ، بل إنّ كلاً منهما مسبّب عن الشكّ في أمر ثالث ، وهو شمول الحكم المذكور للعصير الزبيبي وعدم شموله له.

لأنّا نقول : إنّ بقاء الحرمة التعليقية لم يكن مسبّباً عن الشمول المذكور بل هو عينه ، فإنّ محصّل بقاء تلك الحرمة التعليقية هو كون الحكم المذكور شاملاً للعصير الزبيبي ، فيكون الشكّ في أحدهما عين الشكّ في الآخر ، وحينئذ فيكون الشكّ في بقاء الحلّية المسبّب عن الشكّ في الشمول المذكور مسبّباً عن الشكّ في بقاء الحرمة التعليقية ، لما عرفت من كون أحدهما عين الآخر ، وحينئذ فيكون الأصل الجاري في بقاء الحرمة التعليقية حاكماً على الأصل الجاري في بقاء الحلّية لكون الأوّل سببياً والثاني مسبّبياً.

٦٤

ثمّ بعد هذا أفاد في ليلة أُخرى ما نصّه على ما حرّرته عنه قدس‌سره : لا يقال : إنّ ترتّب ارتفاع الحلّية المذكورة على الحكم ببقاء تلك الحرمة التعليقية التي تحقّق ما علّقت عليه إنّما يكون بالملازمة العقلية ، لأنّه من قبيل الحكم بارتفاع أحد النقيضين ( الضدّين ) عند الحكم بتحقّق ضدّه الآخر. لأنّا نقول : قد حقّقنا في محلّه في مسألة اللباس المشكوك أنّ ارتفاع الحلّية عند الحكم بالحرمة أو العكس لا يكون موجباً لكون الأصل مثبتاً ، بل إنّ ارتفاع أحدهما عين ثبوت الآخر ، ولا أقل من كونه مترتّباً شرعاً على الحكم به ، انتهى.

قلت : أمّا السببية فبرهانها هو أنّ بقاء الحلّية ليس منشؤه مجرّد اختصاص الحرمة التعليقية بخصوص العنب ، إذ ربما كان ذلك الحكم وهو الحرمة التعليقية مختصّاً بخصوص العنب لأجل صيرورته بالغليان سمّاً قاتلاً ، وأنّه لو تبدّل إلى الزبيبية يخرج عن كونه سمّاً فيكون مباحاً ، ولكن يحتمل أن يحدث بالغليان بعد الزبيبية حكم آخر غير الحرمة السابقة ، بأن يكون حينئذ مكروهاً أو يكون واجباً أو نحوهما ، بل يحتمل أن تحدث حرمة أُخرى مترتّبة على غليان الزبيب غير الحرمة المترتّبة على غليان العنب ، ولو لأجل ملازمة غليان الزبيب لعنوان موجب لحرمته ، بأن لا يكون غليان العنب محرّماً لخصوصية في العنب ، مع فرض عدم كون غليانه موجباً لصيرورته مسكراً ، ولا يكون غليان الزبيب في حدّ نفسه واجداً لتلك الجهة التي أوجبت التحريم في غليان العنب ، لكن كانت فيه خصوصية أُخرى أوجبت تحريمه وهي الاسكار مثلاً ، وبناءً على ذلك فلا يكون مجرّد اختصاص حرمة العصير الغالي بالعنب موجباً لبقاء حلّية العصير الزبيبي بعد الغليان ، كي يكون الشكّ في بقاء الحلّية المذكورة مسبّباً عن احتمال اختصاص تلك الحرمة المعلّقة بالعنب.

٦٥

ويتلخّص من ذلك : أنّ بقاء الحلّية متوقّف على خلوّ صفحة الوجود من تلك الحرمة وغيرها ، وخلوّه من تلك الحرمة مسبّب عن اختصاص الحكم بها بحال العنبية ، ففي ناحية الحرمة لا نحتاج إلى أزيد من أن نقول الحكم عام فتبقى الحرمة فترتفع الحلّية ، لكن في ناحية الحلّية نحتاج إلى القول بأنّ الحكم خاصّ فترتفع الحرمة وغيرها ، فتبقى الحلّية فترتفع الحرمة (١).

والحاصل : أنّ الحكم ببقاء الحرمة هنا رافع للحلّية ، بخلاف الحكم ببقاء الحلّية فإنّه لا يرفع الحرمة ، لكونه معلولاً للحكم بارتفاعها ، وحينئذ فيكون الشكّ في بقاء الحرمة سببياً بالنسبة إلى الشكّ في بقاء الحلّية.

وليس المراد أنّ ارتفاع الحلّية معلول لبقاء الحرمة ، أو أنّ بقاء الحلّية معلول لارتفاع الحرمة ، لما هو واضح من أنّه لا تقدّم رتبي بين وجود أحد الضدّين وعدم الآخر ، بل المراد أنّ انتفاء الحلّية تعبّداً معلول لبقاء الحرمة تعبّداً ، وأنّ بقاء الحلّية تعبّداً معلول لارتفاع الحرمة تعبّداً ، هذا.

ولكن الإنصاف أنّ المسألة لم تخرج عن كون وجود أحد الضدّين وهو الاباحة فيما نحن فيه متوقّفاً ومتسبّباً عن عدم ضدّه الآخر وهو الحرمة ، فلا تكون إلاّ من قبيل توقّف وجود أحد الضدّين على عدم الآخر ، أو على رفع الضدّ الموجود وهو الحرمة ، فإنّها كانت موجودة على [ تقدير ] الغليان ، فيتوقّف بقاء الاباحة ووجودها فيما بعد الغليان على ارتفاع ذلك الضدّ الموجود وهو الحرمة ، وحينئذ فيكون إثبات السببية في غاية الإشكال ، هذا (٢)

__________________

(١) [ هكذا في الأصل ، والظاهر زيادة « فترتفع الحرمة » ].

(٢) [ لمّا وصل المصنّف إلى هذه العبارة كتب في الهامش بيتين معروفين من الشعر

٦٦

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الاباحة وإن كانت هي أحد الأحكام الخمسة ، وكانت الأحكام بأسرها متضادّة ، وقد حقّق في محلّه أنّ وجود أحد الضدّين لا يكون مقدّمة لعدم الآخر ، كما أنّ عدم أحدهما لا يكون مقدّمة لوجود الآخر ، من دون فرق في ذلك بين الضدّ الموجود والمعدوم.

لكنّا مع ذلك نقول : إنّ هذه الأضداد هي بمنزلة الأفعال الاختيارية للشارع ، وحينئذ يكون كلّ واحد منهما اختيارياً للشارع ، فعند إقدامه على جعل الحرمة مثلاً للشيء يكون قد اختار تحريمه ، وبعين اختياره لتحريمه يكون قد اختار عدم إباحته مثلاً ، إذ لو لم يكن عدم إباحته في قدرته واختياره لم يكن تحريمه باختياره.

والشاهد على ذلك : أنّك لا ترى في موارد استصحاب الوجوب مثلاً حاجة إلى ملاحظة احتمال الحرمة ، فإنّ استصحاب الوجوب فعلاً لو لم يكن نافياً لاحتمال الحرمة وحاكماً بعدمها ، لكان من اللازم في مورد احتمالهما مع الوجوب المستصحب من الرجوع في نفيها إلى الأصل ولو مثل البراءة ، وربما لم يكن الجاري في المسألة هو البراءة ، كما لو كانت الشبهة من الأُمور التي يكون الأصل فيها هو الاحتياط ، مثل ما لو كان الشخص واجب القتل لكونه مرتدّاً مثلاً ولكن عرض له ما يوجب الشكّ في بقاء ذلك الوجوب ، وحينئذ نشكّ في حرمته فيستصحب الوجوب ، ويكون المرجع هو أصالة الاحتياط ، هذا لا يكون ، إلاّ أن يقال : إنّ استصحاب أحد الضدّين كالوجوب مثلاً يكون دائماً مقروناً

__________________

وهما : ]

لقد كان القطا في أرض نجد

قرير العين لا يدري الهياما

تولّته البزاة فهيّمته

ولو تُرك القطا لغفا وناما

٦٧

باستصحاب عدم ضدّه الآخر.

نعم ، في مورد التعارض بين استصحاب الوجوب واستصحاب الحرمة مثلاً يكون كلّ من الأصلين ـ مع كونه حاكماً بضدّ مجرى الآخر ـ حاكماً أيضاً بنفي مجرى الآخر ، هذا كلّه في الجعل الابتدائي لأحد الأضداد التي هي الأحكام الخمسة.

وأمّا في مقام جعل أحدها طارئاً على الآخر ، بأن يكون الشيء في حدّ نفسه واجباً مثلاً ولكن الشارع قد جعل حرمته لأجل بعض الطوارئ ، فهو وإن لم يصدر منه إلاّجعل الحرمة ، إلاّ أنّ نفس جعله للحرمة يكون رافعاً للوجوب ، كما تجده من نفسك فيما لو كان الجسم ملوّناً بالبياض مثلاً وأنت أقدمت على تسويده ، فإنّ نفس تسويدك له يكون رفعاً للبياض ، ويكون نفس ذلك التسويد الاختياري منك رافعاً اختيارياً للبياض ، وإن لم يكن في البين تقدّم رتبي من أحدهما على الآخر ، بل كان أحدهما في عرض الآخر.

وحينئذ نقول : إنّ الشارع في ضمن جعله للحرمة المعلّقة على الغليان يكون قد جعل رفع الحلّية ، لا بمعنى جعل الغليان رافعاً للحلّية ، ولا بمعنى جعل الحلّية محدودة بالغليان ، بل بمعنى أنّ جعله للحرمة عند الغليان يكون قد رفع الحلّية ، كما أنّه لو أورد الحرمة فعلاً على ما هو في حدّ نفسه حلال مباح ، فإنّ نفس إيراده الحرمة عليه يكون رفعاً اختيارياً للحلّية والاباحة.

وحينئذ يكون محصّل استصحاب الحرمة التعليقية لو صحّحناه هو أنّ هذا العصير الذي هو فعلاً مباح وإباحته غير محدودة شرعاً بالغليان تطرؤه الحرمة عند الغليان ، وليست حرمته الطارئة عليه عند الغليان إلاّفعلاً اختيارياً للشارع ، وبعين جعله لتلك الحرمة وإيراده لها على ذلك المباح يكون قد رفع تلك الحلّية

٦٨

الموجودة التي هي ضدّ تلك الحرمة.

وحينئذ يكون استصحاب الحرمة التعليقية قاضياً برفع الحلّية وحاكماً على استصحاب تلك الحلّية ، ولا يمكن العكس ، فإنّ استصحاب الحلّية وإن قضى بعدم الحرمة على ما شرحناه ، إلاّ أنّه إنّما يقضي بعدم الحرمة الذي هو توأم مع جعل الحلّية ، ولا يقضي بعدم طروّ الحرمة ، لطار من الطوارئ ، فاستصحاب الاباحة لا يقضي بعدم طروّ الحرمة واستصحاب ما يقتضي طروّ الحرمة يكون بواسطة قضائه بطروّ الحرمة قاضياً بارتفاع الاباحة.

ولعلّ هذا هو المراد ممّا أفاده الشيخ قدس‌سره بقوله : لحكومة استصحاب الحرمة على تقدير الغليان على استصحاب الاباحة قبل الغليان الخ (١) فأوجز العبارة ولم يشرح هذه الحكومة ، نظراً إلى وضوحها ، وحاصله الفرق بين استصحابي الحكمين الابتدائيين ، أو الحكمين اللذين يكون كلّ منهما طارئاً على الآخر كما في توارد الحالتين ، وبين ما إذا كان أحدهما طارئاً على الآخر دون العكس كما نحن فيه ، فإنّ استصحاب ما يقتضي طروّ الحكم الطارئ يكون حاكماً على استصحاب بقاء ذلك الحكم المطروّ عليه ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّه ليس المنشأ في هذه الحكومة هو السببية والمسبّبية ، ولا كون الاستصحاب التعليقي قاضياً بتوسعة دليل حرمة العصير العنبي على تقدير الغليان إلى العصير الزبيبي ، ولا كون الحلّية محدودة شرعاً بالغليان ، بل ليس المنشأ فيها إلاّما عرفت من كون التحريم الطارئ على ما هو مباح رفعاً شرعياً للحلّية الموجودة ، كما هو الشأن في سائر الأضداد الاختيارية.

ولعلّ هذه الطريقة من كيفية الحكومة هي المشار إليها فيما حرّرته عنه قدس‌سره

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ٢٢٣.

٦٩

فيما تقدّم نقله (١) ، وذلك قوله فيما حرّرته عنه في مقام الجواب عن إشكال المثبتية : لأنّا نقول قد حقّقنا في محلّه في مسألة اللباس المشكوك أنّ ارتفاع الحلّية عند الحكم بالحرمة أو العكس لا يكون موجباً لكون الأصل مثبتاً ، بل إنّ ارتفاع أحدهما عين ثبوت الآخر ، ولا أقل من كونه مترتّباً شرعاً على الحكم به ، انتهى فلاحظ.

وإن شئت فقل : إنّ ما هو المعروف من أنّ استصحاب عدم أحد الضدّين لا يثبت الضدّ الآخر إلاّبالأصل المثبت وإن كان صحيحاً ، إلاّ أنّ عكسه وهو أنّ استصحاب وجود أحد الضدّين لا يثبت عدم الآخر يمكننا القول بعدم صحّته ، لأنّ استصحاب وجود أحد الضدّين يكون دائماً مقروناً باستصحاب عدم الضدّ الآخر ، حيث إنّ كلّ وجود للضدّ لابدّ أن يكون مقروناً بعدم الآخر.

وبناءً على ذلك يكون استصحاب الحرمة دائماً مقروناً باستصحاب عدم الوجوب ، كما أنّ استصحاب الوجوب يكون مقروناً دائماً باستصحاب عدم الحرمة ، فلو تعاقب على الشيء حالتان في إحداهما كان واجباً وفي الآخر كان محرّماً ، تعارض فيه الاستصحابان ، بمعنى أنّ استصحاب الوجوب المقرون باستصحاب عدم الحرمة يكون معارضاً لاستصحاب الحرمة المقرون باستصحاب عدم الوجوب ، أمّا لو كان أحدهما الذي هو التحريم التعليقي مثلاً طارئاً على الآخر الذي هو الوجوب أو الاباحة كما فيما نحن فيه ، فلا يعقل المعارضة بينهما ، لأنّ محصّل استصحاب الحرمة التعليقية هو وجود الحرمة عند الغليان ، وهي ـ أعني الحرمة ـ تكون رافعة شرعاً للاباحة ، ومع تحقّق رافع الحلّية بحكم الشارع لا مجال لاستصحاب بقائها.

__________________

(١) في الصفحة : ٦٥.

٧٠

وأمّا استصحاب نفس تلك الحلّية السابقة عندما كان عنباً أو زبيباً ، فهو وإن كان مقروناً باستصحاب عدم الحرمة ، إلاّ أنّ استصحاب الحرمة يكون رافعاً لتلك الحلّية ، وناقضاً لعدم الحرمة الذي كانت الحلّية مقرونة به ، فمحصّل استصحاب الحرمة التعليقية إلى ما بعد الغليان هو كون ذلك الوجود من الحلّية قد ارتفع بوجود رافعه الشرعي وهو الحرمة ، وكون ذلك العدم ـ أعني عدم الحرمة المقارن لتلك الحلّية ـ قد انتقض وتبدّل إلى وجود الحرمة ، كلّ ذلك من جهة كون الحرمة طارئة على الحلّية التي هي ضدّها ، وكون إيجاد الشارع للحرمة على ما هو حلال في نفسه يكون رفعاً تشريعياً لتلك الحلّية.

وهذا بخلاف تعاقب الحالتين ، فإنّه لمّا كان كلّ منهما محتملاً لأن يكون هو الطارئ على الآخر ، لم يتعيّن كون أحدهما المعيّن هو الرافع للآخر ، فيتعارض فيه الاستصحابان ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ الحرمة على تقديرها تكون هي الرافعة للحلّية ، لكونها هي الطارئة على الحلّية ، أمّا الحلّية فلا يكون استصحابها قاضياً بارتفاع الحرمة ، بل أقصى ما فيه أنّه مقرون باستصحاب عدم الحرمة ، وقد عرفت أنّ الحكم ببقاء الحلّية وببقاء عدم الحرمة محكوم لاستصحاب الحرمة الرافعة لذلك الوجود من الحلّية ، والناقضة لذلك العدم من الحرمة المقارن لتلك الحلّية ، ولا يكون استصحاب تلك الحلّية وذلك العدم من الحرمة المقارن لتلك الحلّية قاضياً بعدم طروّ الحرمة بالغليان إلاّباعتبار لازم بقاء تلك الحلّية وذلك العدم المقرون بها.

وبالجملة : إنّ استصحاب الحرمة التعليقية بواسطة كون الحرمة طارئة على تلك الحلّية ، القاضي بكون الشارع قد رفعها بالحرمة ، يتعرّض لنفس الحلّية المستصحبة ولنفس العدم المقرون بها ، أعني عدم الحرمة المقارن لعدم الحلّية ،

٧١

بخلاف استصحاب تلك الحلّية وذلك العدم المقرون ، فإنّه لا تعرّض فيه لعدم حصول الحرمة عند الغليان ابتداءً ، بل بواسطة أنّ الحكم ببقاء الحلّية وعدم الحرمة إلى ما بعد الغليان يكون اللازم هو عدم ارتفاع تلك الحلّية ، وعدم انتقاض ذلك العدم.

تكميل : قد تقدّم أنّ قولهم إنّ استصحاب عدم أحد الضدّين لا يترتّب عليه وجود الضدّ الآخر إلاّبالأصل المثبت صحيح ، وأنّ الإشكال الذي ذكرناه إنّما هو في عكسه.

ولكن يمكن أن يقال : إنّه أيضاً يجري فيه نظير الإشكال في عكسه ، وذلك فإنّ الضدّين اللذين جرى الاستصحاب في عدم أحدهما إمّا أن يكونا من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، فلا ريب في أنّ تحقّق عدم أحدهما يكون مقروناً بوجود الآخر ، فيكون استصحاب عدم أحدهما دائماً مقروناً باستصحاب وجود الآخر ، وإن لم يكونا من الضدّين اللذين لا ثالث لهما بل كان لهما ثالث مثلاً ، فلا ريب أنّ استصحاب عدم أحد الأضداد لا يلازم وجود الآخر المعيّن كي يمنع منه من جهة الاثبات ، وإن أُريد بذلك أحد الأضداد الأُخر غير هذا الذي تحقّق عدمه وجرى استصحاب العدم فيه ، فلا ريب في أنّ استصحاب عدم هذا الضدّ الخاصّ يكون دائماً مقروناً بما هو المطلوب ، وهو استصحاب أحد الأضداد الباقية من غير تعيين لها ، فتأمّل.

نعم ، فيما لو كان الموجود سابقاً هو أحد الأضداد ، ثمّ علمنا تبدّله إلى ضدّ آخر مردّد بين ضدّين معينين ، كان استصحاب العدم في أحد هذين الضدّين غير مقرون باستصحاب وجود الضدّ الآخر منهما ، وهنا يصحّ أن يقال : إنّ استصحاب عدم أحد الضدّين لا يترتّب عليه لازمه وهو كون الذي وجد هو الضدّ الآخر إلاّ

٧٢

بالأصل المثبت ، وأنّه لو أُغضي النظر عن هذه الجهة من الإثبات فهو معارض بمثله من الطرف الآخر ، فيقال الأصل عدمه ، فيترتّب عليه لازمه وهو كون الموجود هو طرفه المقابل له.

وهكذا الحال في الضدّين اللذين لا ثالث لهما إذا فرض كونهما معاً مسبوقين بالعدم ثمّ حصل العلم بطروّ أحدهما ، كما لو قلنا بالتضادّ بين الميتة والمذكّى بدعوى كون كلّ منهما ضدّاً وجودياً للآخر ، وعلمنا بطروّ أحدهما على هذا الحيوان ، فإنّ أصالة عدم الموت حتف الأنف لا يترتّب عليه وجود ضدّه الآخر وهو الموت بالتذكية إلاّبالأصل المثبت ، لكون وجود التذكية حينئذ لازماً عقلياً لعدم الموت حتف الأنف ، ومع قطع النظر عن ذلك هو معارض بالمثل من الطرف الآخر.

والخلاصة : هي أنّ تعارض الأُصول العدمية في الأضداد الوجودية ينحصر بما إذا كانت الأضداد مسبوقة بالعدم ، وقد علم بوجود أحدها وتردّد بين الاثنين أو الثلاثة مثلاً ، أمّا تعارض الأُصول الوجودية في الأضداد فينحصر في تعاقب الحالتين من الأضداد ، وقد ادّعي تأتّي هذا التعارض فيما نحن فيه ممّا كان أحد الضدّين فعلياً وكان الآخر معلّقاً على أمر ، وقد حصل تبدّل في بعض حالات الموضوع الموجب للشكّ في بقاء ذلك الحكم التعليقي والحكم الفعلي ، بأن تبدّل الموضوع من العنبية إلى الزبيبية ، فقيل : إنّ استصحاب ذلك الحكم الفعلي الذي هو ضدّ لذلك الحكم التعليقي معارض لاستصحاب ذلك الحكم التعليقي بعد حصول المعلّق عليه الذي هو الغليان.

والجواب : هو أنّ ذلك ليس من التعارض ، بل إنّ الاستصحاب التعليقي حاكم على استصحاب الحكم الفعلي ، لكون المستصحب في التعليقي وهو

٧٣

التحريم رافعاً للمستصحب في الفعلي ، لكون الحكم فيه طارئاً على الحكم في الفعلي ، والضدّ الطارئ رافع للضدّ الموجود ، والأمر في تعاقب الحالتين وإن كان كذلك لكون إحدى الحالتين طارئة على الأُخرى ، إلاّ أنّه لمّا لم يكن الطارئ في تعاقب الحالتين متعيّناً ، لم يكن الاستصحاب في أحدهما المعيّن متعيّناً لأن يكون مؤدّاه رافعاً لمؤدّى الآخر ، بل كان كلّ منهما محتمل الرافعية للآخر.

وإن شئت فقل : إنّ نتيجة الاستصحاب في تعاقب الحالتين هو بقاء كلّ من الحالتين بحاله ، من دون تعرّض لكون إحداهما رافعة للأُخرى ، لعدم تعيّن كونها هي المتأخّرة ، بخلاف ما نحن فيه ، لأنّ الضدّ المعلّق هو المتعيّن لكونه رافعاً وطارئاً على الضدّ الفعلي ، لكونه هو المتأخّر والطارئ على الضدّ الفعلي ، فيكون استصحاب الضدّ المعلّق حاكماً بارتفاع ذلك الضدّ الفعلي ، بخلاف استصحاب ذلك الضدّ الفعلي فإنّه لا يحكم بعدم حصول الضدّ المعلّق إلاّبالملازمة المتوقّفة على بقاء ذلك الضدّ الفعلي ، وعدم حصول رافعه الذي هو الضدّ المعلّق ، فكان جريان الاستصحاب في ذلك الفعلي متوقّفاً على عدم جريان الاستصحاب في المعلّق ، بخلاف الاستصحاب في المعلّق فإنّه يجري الاستصحاب فيه بلا توقّف على عدم جريان الاستصحاب في الفعلي ، وإن كان جريان المعلّق موجباً لعدم جريان الفعلي ، فكان عدم جريان الفعلي بمنزلة المعلول لجريان المعلّق ، فيكون جريان الفعلي موقوفاً على عدم جريان المعلّق ، لأن جريان المعلّق يكون علّة لعدم جريان الفعلي ، بخلاف جريان المعلّق فإنّه لا يكون متوقّفاً على عدم جريان الفعلي ، لعدم كون جريان الفعلي علّة في عدم جريان المعلّق ، فلاحظ وتأمّل.

ولعلّ هذا التفصيل الذي حرّرناه هو المراد لشيخنا قدس‌سره فيما نقلناه (١) عنه قدس‌سره من

__________________

(١) في الصفحة : ٦٥.

٧٤

تلك العبارة المختصرة ، أعني قوله قدس‌سره في الجواب عن إشكال المعارضة : قد حقّقنا في محلّه في مسألة اللباس المشكوك أنّ ارتفاع الحلّية عند الحكم بالحرمة أو بالعكس لا يكون موجباً لكون الأصل مثبتاً ، بل إنّ ارتفاع أحدهما عين ثبوت الآخر ، ولا أقل من كونه مترتّباً شرعاً على الحكم به. فإنّ هذا الجواب ذكره في درس مستقل بعد أن أفاد الجواب في سابقه بما هو موجود في التحارير ، أو ما هو قريب منه ، وقد تقدّم نقل ذلك مفصّلاً ، وهذا التأخّر ممّا يشهد بأنّ المتأخّر مشتمل على نحو عدول أو شرح لما سبقه.

وأمّا ما أشار إليه في مسألة اللباس المشكوك فإنّي لم أتوفّق للعثور عليه صريحاً في رسالته المطبوعة ، ولكن فيما حرّرته عنه في تلك المسألة في التعرّض لتقريب الجواز بقاعدة الحل أفاد أنّ التعبّد بأحد الأضداد الشرعية عين التعبّد بعدم الآخر ، وليس ذلك من الأصل المثبت (١)

__________________

(١) قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه في مسألة اللباس المشكوك : وقد يشكل أيضاً على الأصل المذكور أعني قاعدة الحل في الحيوان المأخوذ منه اللباس بأنّه مثبت ، بتقريب أنّ الحرمة والحل ضدّان ، فجريان الأصل في أحدهما وهو الحل لاحراز عدم الآخر وهو الحرمة يكون مثبتاً ، فلا يترتّب على أصالة حل الأكل في الحيوان عدم حرمة الصلاة في وبره الذي هو محصّل المانعية إلاّعلى تقدير الأصل المثبت.

وفيه : أنّه بعد تسليم السببية والمسبّبية لا ورود لهذا الإشكال ، فإنّ التعبّد بأحد المتضادّين بعد الفراغ عن كون كلّ منهما مجعولاً شرعياً يغني عن التعبّد بعدم الآخر ، بل يكون التعبّد بوجود أحدهما عين التعبّد بعدم الآخر ، وهذا مطلب سيّال في كلّ أمرين متضادّين مجعولين شرعاً إذا كان الأثر المطلوب في المورد مترتّباً على عدم أحدهما ، فإنّه لا حاجة في إحراز ذلك العدم إلى تعبّد فيه بالخصوص ، بل يكفي فيه

٧٥

ولكن قد عرفت أنّ التعبّد بوجود أحد الأضداد سواء كانت شرعية أو من الموضوعات الخارجية يكون مقروناً دائماً بالتعبّد بعدم الآخر ، لأنّ وجود أحد الضدّين خارجاً يكون مقروناً بعدم الآخر ، فلا نحتاج إلى هذه القضيّة وهي أنّ التعبّد بأحد الأضداد الشرعية عين التعبّد بعدم الآخر ، وإن كانت صحيحة في نفسها ، والغرض أنّ هذا الذي أفاده من أنّ التعبّد بأحد الأضداد الشرعية عين التعبّد بعدم الآخر قد تقدّم إقامة البرهان عليه ، وهو كون ذلك العدم المقارن لذلك الوجود مستنداً إلى الشارع.

ومن هذا البرهان يمكننا إتمام ما حرّرناه في وجه الحكومة من طريقة الرافعية الناشئة عن كون إيجاد الطارئ رفعاً لما هو طار عليه ممّا هو ضدّه ، وبه يمكننا أن نصحّح ما نقله عنه المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه‌الله من تلك الجملة أعني مثل قوله : إذ لا معنى للتعبّد بالنجاسة أو الحرمة إلاّ إلغاء احتمال الحلّية والطهارة (١) ، ونحو ذلك من الجمل التي تقدّم نقلها ، بأن نقول : إنّ الغرض من إلغاء احتمال الحلّية هو تحقّق الموجب لارتفاعها وهو الحرمة ، فلاحظ وتدبّر. ولعلّ سلوك طريقة حكومة ذي العنوان الثانوي على ذي العنوان الأوّلي أسهل ، فإنّ حرمة العصير إنّما هي بعنوانه الثانوي وهو الغليان ، وحلّيته إنّما هي بعنوانه الأوّلي ، فكما أنّ الأوّل حاكم على الثاني في غير مورد الشكّ في البقاء فكذلك يكون حاكماً عليه في مورد الشكّ في البقاء عند إثبات كلّ منهما بالاستصحاب ، ولعمري إنّ هذه الطريقة مع كونها أسهل من الطريقة الأُولى التي أطلنا الكلام

__________________

التعبّد بوجود الآخر لكون التعبّد بوجوده عين التعبّد بعدم الآخر ، انتهى. ثمّ إنّه كرّر ذلك بعد هذا المبحث بنحو أوضح ، فراجع [ منه قدس‌سره ].

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٧٧.

٧٦

عليها يمكن القول بتعيّنها ، إذ لا تخلو الطريقة الأُولى من دعوى كون الشارع بجعله أحد الضدّين يلزمه جعل عدم الآخر ، فترجع الشبهة في الإثبات بحالها ، حيث إنّ استصحاب الحرمة المجعولة يلزمها بقاء لازمها وهو جعل عدم الحلّية.

ولا يمكن الجواب عنه إلاّبأن يقال : كما أنّا نجري الاستصحاب في الحرمة المعلّقة ، فكذلك نجري الاستصحاب في عدم الحلّية الملازم لجعل الحرمة ، وحينئذ يكون الحاكم على استصحاب الحلّية هو استصحاب عدمها لا استصحاب الحرمة ، وحينئذ يقع التعارض بين استصحاب عدم الحلّية المعلّق على الغليان وبين استصحاب نفس الحلّية المطلقة ، ولا يندفع هذا التعارض إلاّ بدعوى كون عدم الحلّية لاحقاً للعصير بعنوانه الثانوي ، وكون الحلّية لاحقة له بعنوانه الأوّلي ، والأوّل حاكم على الثاني.

قوله : أمّا الوجه الأوّل ففيه : أنّ توهّم اختلاف الموضوع مبني على أن تكون المنشآت الشرعية أحكاماً جزئية بنحو القضايا الخارجية ، فيكون كلّ فرد من أفراد المكلّفين موضوعاً مستقلاً قد أُنشئ في حقّه حكم يختصّ به ولا يتعدّاه ... الخ (١).

الظاهر أنّ المراد من القضية الخارجية حيث يطلقها الأُستاذ قدس‌سره هي التي يكون الحكم فيها وارداً ابتداءً على أشخاص موجودين بلا توسّط عنوان ، فيكون هناك أحكام متعدّدة متباينة على موضوعات متعدّدة متباينة ، لكن في مقام الحكاية عن تلك الأحكام لأجل صعوبة التكرار يحكي تلك الأحكام المتباينة على الموضوعات المتباينة بعبارة واحدة ، بأن يقول : يجب إكرام هؤلاء ، مشيراً به إلى تلك الأفراد الموجودة ، أو يقول : قتل من في العسكر ، في مقام الحكاية

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٧٨.

٧٧

عوضاً عن أن يقول : قتل فلان وقتل فلان ، إلى آخر الأفراد ، وبناءً على ذلك لا يكون الإشكال في استصحاب عدم النسخ منحصراً بتبدّل الموضوع ، بل هناك إشكال آخر وهو انحصار الأحكام بمن كان موجوداً في حال جعلها ، وعدم سرايته إلى من يوجد بعد ذلك إلاّبنحو الإجماع على الاشتراك في الحكم ونحوه.

ولأجل ذلك قال في الكفاية : وإلاّ لما صحّ الاستصحاب في الأحكام الثابتة في هذه الشريعة ، ولا النسخ بالنسبة إلى غير الموجود في زمان ثبوتها (١) فإنّ الحكم إذا كان مختصاً بالموجودين لم يمكن تسريته بالاستصحاب إلى المعدومين ، وكذلك لم يكن ارتفاعه عن المعدومين من قبيل النسخ.

ولعلّه لأجل ذلك أفاد شيخنا قدس‌سره في التحرير المطبوع في صيدا (٢) ما محصّله أوّلاً : إجراء الإشكال في المعدومين في هذه الشريعة بل في الغائبين ، ثمّ قاس عليه الاستصحاب في أحكام الشريعة السابقة ، فلاحظ.

وربما يقال : إنّ المراد من القضية الخارجية هو ما ذكرتموه ، ولكن لا تكون الأفراد المحكومة عليها مختصّة بالموجودين ، بل يكون المحكوم عليه هو جميع الأفراد حتّى من يأتي بعد ذلك ، بأن يكون الحاكم قد تصوّر جميع تلك الأفراد الموجودة والتي توجد فيما بعد ، وجعل لكلّ واحد منها حكماً مستقلاً ، وفي مقام الحكاية عن تلك الأحكام التي جعلها المفروض تباينها وتباين موضوعاتها يحكيها بعبارة واحدة ، بأن يقول : حرّمت شرب الخمر مثلاً على كلّ فرد من تلك الأفراد الموجودة والتي توجد فيما بعد ، أو يقول : حرّمته على جميعهم ، أو يقول : على جميع المكلّفين ، أو يقول : على الأفراد التي هي من أهل شريعتي ،

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤١٣.

(٢) لاحظ أجود التقريرات ٤ : ١٢٧ ـ ١٢٨.

٧٨

ونحو ذلك من العبائر الحاكية عن تلك الأفراد المتباينة التي حكم عليها بأحكام متباينة.

وعلى هذا فيكون الفرق بين القضية الخارجية بهذا المعنى والقضية الحقيقية هو أنّ المحكوم عليه في هذه القضية هو الفرد بجميع خصوصياته ، فيكون كلّ واحد موضوعاً مستقلاً مبايناً للموضوع الآخر ، بخلاف القضية الحقيقية فإنّه لا يكون الموضوع فيها إلاّذلك الكلّي الطبيعي الموجود في ضمن تلك الأفراد ، والخصوصيات الفردية خارجة عنه ، فلا يكون الموضوعات متباينة ، وانحلال الحكم الوارد على الكلّي الطبيعي المأخوذ على نحو القضية الحقيقية إلى أحكام متعدّدة لا ينافي ما ذكرناه ، فإنّه لا يكون ذلك الانحلال إلاّ عبارة عن كون كلّ واحد من تلك الأفراد سارياً إليه الحكم بمقدار ما فيه من حصّة ذلك الكلّي الطبيعي.

وبناءً على ذلك ينبغي أن ينظر الحكم الذي كان موجوداً في تلك الشريعة السابقة ، فإن كان بعنوان المكلّفين أو بعنوان البشر ونحو ذلك ممّا يكون أهل الشريعة اللاحقة واجدين له ، وكان المحكوم عليه هو كلّ واحد من أفراد البشر الموجودين في الشريعة السابقة والمعدومين ، جرى استصحاب البقاء في حقّنا بالنسبة إلى ذلك ، من دون فرق في ذلك بين كون القضية خارجية أو كونها حقيقية ، ولو كان بعنوان أهل الشريعة السابقة لم يجر الاستصحاب المذكور ، من دون فرق أيضاً بين كون القضية خارجية أو كونها حقيقية.

والذي يظهر من مثل قوله : فيكون كلّ فرد من أفراد المكلّفين موضوعاً مستقلاً قد أُنشئ في حقّه حكم يختصّ به الخ ، وكذا من مثل قوله : فإنّه يلزم أن تكون الأدلّة الواردة في الكتاب والسنّة كلّها أخباراً عن إنشاءات لاحقة عند وجود

٧٩

آحاد المكلّفين بعدد أفرادهم (١) أنّ القضية الخارجية قد أُخذت على النحو الثاني الشامل للموجودين حين الحكم والمعدومين.

نعم ، ربما يقال : إنّ الحكم وإن كان كلّياً شاملاً للمعدومين كما هو شامل للموجودين ، إلاّ أنّه مختصّ بأتباع تلك الشريعة ، ولا يشمل من لم يكن منهم تابعاً لتلك الشريعة.

وفيه : ما لا يخفى ، حيث إنّ أحكام كلّ شريعة ليست مختصّة بمن هو تابع لتلك الشريعة ، بل هو شامل لجميع المكلّفين ، ولأجل ذلك نقول : إنّ الكفّار مكلّفون بالفروع ، ولو كانت أحكام الشريعة مختصّة بمن هو من أتباعها ، كان لازمه عدم تكليف الكفّار بفروع شريعتنا ، فلاحظ وتدبّر.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه المسألة لا يترتّب عليها أثر عملي ، للقطع بأنّ شريعتنا المقدّسة قد نسخت الشرائع السابقة ، على وجه لو كان لنا حكم موافق للشريعة السابقة لم يكن ذلك من باب الامضاء وعدم النسخ ، بل هو من باب جعل المماثل كما في مثل قوله تعالى : ( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ... وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ) الخ (٢) ونحو ذلك.

ويمكن إقامة الدليل على هذه الدعوى من النسخ الكلّي ، من ناحية الأخبار الواردة مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما عمل يقرّبكم إلى الله » الخ (٣) ومثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعمر : لو

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٧٨.

(٢) المائدة ٥ : ٤٥.

(٣) ورد مضمونه في وسائل الشيعة ١٧ : ٤٥ / أبواب مقدّمات التجارة ب ١٢ ح ٢ ، بحار الأنوار ٢٠ : ١٢٦ / ٥٠.

٨٠