أصول الفقه - ج ١٠

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٠

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-83-6
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٩٤

اعتبار المجموعية ، ويكون تخلّل العدم في أثنائها بخروج الوسط مُخلاً بها على وجه لو خرج الوسط لم تبق تلك الوحدة بين طرفيه بحالها ، بخلاف المجموعية فإنّ خروج الوسط فيها لا يكون مضرّاً بالمجموعية في الباقي من طرفي الوسط ، ولو كان ذلك مخلاً لكان خروج الأوّل أو الآخر مخلاً. فكأنّ صاحب الكفاية قدس‌سره ينظر في أخذ الدوام في العموم الأزماني إلى هذه الجهة ، أعني اعتبار اتّصال أجزاء المظروف وعدم تخلّل العدم بينها ، وكونه أمراً وحدانياً متّصلاً من أوّل النهار إلى آخره ، ومن الواضح أنّ هذه الجهة وإن كانت لازمة للعموم الأزماني بالنسبة إلى ذلك المظروف ، إلاّ أنّها جهة زائدة عليه يضرّ فيها خروج الوسط ، بل يمكن أن يقال : إنّ الدليل المتعرّض لحكم الوسط على خلاف ذلك الحكم العام لا يكون مخصّصاً ، بل يكون معارضاً له. وشيخنا قدس‌سره ينظر إلى الدوام بالمعنى الأوّل الذي هو عبارة عن نفس الملزوم الذي هو نفس العموم الأزماني ، سواء كان استغراقياً أو كان مجموعياً. وبناءً عليه لا يكون خروج الوسط مخلاً فيه ، فما أشبه هذا النزاع بالنزاع اللفظي.

ثمّ لا يخفى أنّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة » الخ ، أجنبي عن إفادة العموم الأزماني ، وأنّه إنّما هو في قبال طروّ احتمال النسخ ، وأنّ مفاده أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما تركه حلالاً يبقى حلالاً إلى يوم القيامة ولا يمكن أن ينسخه ناسخ بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو الحقّ الذي لا محيص عنه ، فلا ينبغي عدّه في جملة أدلّة العموم الأزماني.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره من أنّه ليس لنا في البين عموم أزماني وإنّما أقصى ما عندنا هو عدم كون الحكم آنياً خروجاً عن اللغوية ، فهو إنّما يتمّ في خصوص ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، لعدم ما يدلّ على بقاء ذلك الحكم إلاّمسألة عدم اللغوية ، وهذا لا يمنع

٣٤١

أن يكون لنا أحكام قد دلّت الأدلّة على تحقّقها وثبوتها في كلّ آن ، ولا أقل ممّا يدلّ على بقائها ودوامها واستمرارها. وإنّي فعلاً وإن لم أستحضر له مثالاً فقهياً ، إلاّ أنّه لو كان الأمر كذلك ، بأن كان لنا حكم شرعي يتعلّق بعام أفرادي ، وقام دليل آخر متّصل أو منفصل يدلّ على كون ذلك الحكم باقياً ومستمرّاً وموجوداً في كلّ آن ، ماذا يكون المرجع في مورد الشكّ؟ هل هو عموم العام الأزماني أو هو استصحاب حكم المخصّص؟

ثمّ إنّ كون دليل الحكمة لا يفيد العموم الأزماني قابل للتشكيك ، حيث إنّه كسائر الأدلّة العقلية التي يكون حكمها حكم التقييد المنفصل.

وبالجملة : إنّ لغوية الحكم الآني وقبح صدوره من الحكيم يكون دليلاً على أنّ الشارع جعله عاماً لجميع الأزمنة ، بحيث كان ذلك الحكم مجعولاً في كلّ آن ، وهذا المقدار كافٍ في التمسّك لإزالة الشكّ.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا المقدار إنّما يطرد احتمال سقوط وجوب الوفاء بتحقّق الوفاء آناً ما ، وأمّا احتمال عدم وجوب الوفاء به بعد فرض الحكم بعدم وجوب الوفاء به في الآن الأوّل ، فلا يكون الدليل المذكور وافياً به ، لاحتمال عدم وجوب الوفاء به في جميع الأزمنة ، إذ لا يكون حينئذ في البين لغوية أصلاً.

وحينئذ ندفع الإشكال والشكّ المزبور بطريق آخر هو نظير الطريق الذي ذكرناه مع فرض وجود الدليل على العموم الأزماني ، وذلك بإعمال كلّ من الدليل اللفظي المشتمل على العموم الأفرادي وهو وجوب الوفاء في الجملة بكلّ عقد ، والدليل العقلي المانع من كون ذلك الوجوب آنياً ، بأن نقول لو كان هذا العقد لا يجب الوفاء به في جميع الأزمنة لكان خارجاً عن العموم الأفرادي لكلّ عقد ، فأصالة العموم الأفرادي تحكم بأنّه داخل تحت عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) فيكون

٣٤٢

محكوماً بوجوب الوفاء في الجملة بعد فرض كونه في الآن الأوّل غير واجب الوفاء ، ثمّ نقول : إنّ هذا الوجوب لو كان آنياً لكان لغواً ، فلابدّ من كونه غير آني وأنّه باقٍ بعد ذلك الزمان الذي فرضنا عدم وجوب الوفاء به فيه.

وهكذا الحال لو تردّد العقد بين كون الوفاء [ به ] واجباً في جميع الأزمنة ، وبين كونه في جميع الأزمنة غير واجب الوفاء ، فإنّ أصالة العموم الأفرادي تدخله في جملة العقود التي كان الوفاء بها واجباً في الجملة ، وبعد ثبوت كون الوفاء به واجباً في الجملة ننقل الكلام إلى ذلك الوجوب ونقول إنّه غير آني ، وإلاّ لكان لغواً ، فلابدّ أن يكون غير آني ، وهو معنى بقاء الوجوب مستمرّاً وفي جميع الآنات ، فلاحظ وتأمّل.

وقد يقال : إنّ المراد بالعموم الأزماني المدّعى في هذا المقام كونه مأخوذاً في ناحية الحكم ، ليس هو عبارة عن كلّ آن من آنات الزمان ، بل المراد بذلك (١) هو النظر إلى جهة البقاء من ناحية الحكم ، والحكم عليه بأنّه باقٍ دائماً ، لا أنّه آني مثلاً ، وذلك فإنّ للحكم جهة حدوث وجهة بقاء ، ولا ريب أنّ جهة البقاء متأخّرة رتبة عن جهة الحدوث ، والحكم في مقام جعله إنّما يكون منظوراً به إلى جهة حدوثه ، ويستحيل النظر في هذا المقام ـ أعني مقام جعله وحدوثه ـ إلى جهة بقائه ، فإنّها إنّما تكون بعد جهة حدوثه.

__________________

(١) لا يخفى أنّه ينبغي الجزم بأنّ هذا المعنى من العموم الأزماني في ناحية الحكم هو الذي يريده شيخنا قدس‌سره كما يشهد بذلك ما حرّره عنه المرحوم الشيخ موسى في حواشي خيار الغبن من المكاسب من أواخر ص ٨٩ إلى أواسط ص ٩٠ [ راجع منية الطالب ٣ : ١٦٧ ـ ١٦٩ ] وهذا هو الذي قدّمنا نقله عنه قدس‌سره في البحث مع صاحب الكفاية [ منه قدس‌سره. راجع صفحة : ٣٣٥ المتقدّمة ].

٣٤٣

وإن شئت فقل : إنّ هذا الحكم الذي يريد الحاكم جعله على أن يكون باقياً بعد حدوثه ، لا يكفي فيه جعل واحد بل لابدّ فيه من جعلين ، فيجعل أوّلاً نفس الحكم ، وهذا الجعل يكون متكفّلاً لحدوثه ، ثمّ بعد جعل حدوثه يجعل بقاءه ، كما أنّ الدليل المتكفّل لجهة الحدوث يستحيل أن يكون ناظراً إلى جهة البقاء ، فإنّه يستحيل أن يكون لنا دليل واحد متكفّل لكلّ من جهة الحدوث وجهة البقاء ، بل كما أنّه في مقام أصل الجعل والتشريع الذي هو مقام الثبوت يكون المجعول أوّلاً هو جهة الحدوث ، ثمّ بعد ذلك يحكم على ذلك الحادث بأنّه باقٍ ، فكذلك في مقام الاثبات يكون الدليل أوّلاً مثبتاً لحدوث الحكم ، وثانياً يكون لنا دليل آخر مثبتاً بقاءه بعد حدوثه.

ومن ذلك يظهر أنّ هذا المعنى من العموم الأزماني الذي نعبّر عنه بجهة البقاء يكون متأخّراً رتبةً عن أصل ثبوت الحكم الذي هو عبارة عن جهة الحدوث ولا يمكن الجمع بينهما في دليل واحد ، ويكون هذا المعنى من العموم الأزماني ـ أعني به جهة البقاء ـ فوق الحكم وهو واضح. كما أنّه لا ريب في أنّ هذا المعنى من العموم الأزماني لا يمكن الرجوع إليه في مقام الشكّ في تحقّق الحكم في زمان من الأزمنة ، سواء كان ذلك بعد خروج واحد من الآنات أو قبل خروجه ، فإنّه مع الشكّ في تحقّق الوجوب في آن من الآنات لا يمكن الحكم على ذلك الوجوب ببقائه في ذلك الآن ، لأنّ الحكم على الحكم بالبقاء فرع تحقّق الحكم وثبوته ، فكيف يحكم ببقائه في ذلك الآن مع الشكّ في أصل ثبوته في ذلك الآن!

وسرّ ذلك هو ما عرفت من كون رتبة هذا المعنى من العموم الأزماني متأخّرة عن رتبة أصل حدوث الحكم ، بل إنّ هذه المرتبة من العموم الأزماني المعبّر عنها بجهة بقاء الحكم متأخّرة عن نفس العموم الأزماني لو أُخذ في ناحية

٣٤٤

الحكم وقيل إنّ الوجوب موجود في كلّ آن ، لأنّ ذلك الوجوب في كلّ آن له جهة حدوث وله جهة بقاء ، فلو قيل إنّ الوجوب الموجود في كلّ آن هو باقٍ لكان صحيحاً ، وذلك لأنّ الوجوب الموجود في كلّ آن قابل لأن يكون باقياً ولأن لا يكون باقياً ، فيصحّ الحكم عليه بأنّه باقٍ مستمرّ في قبال كونه قصير الأمد ، ولو لأجل كون مصلحته الباعثة على جعله مصلحة قصيرة لا تقتضي بقاءه.

وبالجملة : إنّ الحكم على ذلك الحكم بأنّه باقٍ ، تارةً يكون في مقابل احتمال نسخه ، ويكون معنى الحكم عليه بأنّه باقٍ في مقابل أنّه قد يعرضه الارتفاع ويكون مفاد الحكم عليه بالبقاء مفاد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ». وتارةً يحكم عليه بالبقاء في مقابل احتمال كون مصلحته قصيرة الأمد ، وأنّها تنتهي إلى بعض الأزمنة فيرتفع الحكم بانتهائها من دون فرق في ذلك بين كون ذلك الحكم الذي هو الوجوب قد أُخذ فيه العموم الأزماني ، وكونه لم يؤخذ فيه ذلك العموم الأزماني ، لما عرفت من صحّة الحكم عليه بأنّه باقٍ على كلا التقديرين ، وإن كان صحّة الحكم عليه بالبقاء على التقدير الثاني أوضح منها على التقدير الأوّل.

والحاصل : أنّ العموم الأزماني تارةً يؤخذ بمعنى الوجود في كلّ زمان ويعلّق ذلك العموم الأزماني بمتعلّق الوجوب الذي هو الاكرام أو يعلّق بنفس الوجوب ، فيقال : يجب الإكرام في كلّ آن ، أو يقال : يجب في كلّ آن الإكرام ، وتكون النتيجة واحدة ، فإنّه لو علّق قولنا : في كلّ آن ، بالاكرام وقيل : الاكرام في كلّ آن واجب ، يلزمه أن يكون الوجوب موجوداً في كلّ آن ، كما أنّه لو علّق قولنا : في كلّ آن ، بالوجوب وقيل : الاكرام يجب في كلّ آن ، يلزمه أن يكون الاكرام موجوداً في كلّ آن بمعنى أنّه لو كان الوجوب المتعلّق بالاكرام موجوداً في كلّ آن

٣٤٥

كان ذلك عبارة أُخرى عن أنّ الاكرام في كلّ آن متّصف بالوجوب ، هذا كلّه لو كان المراد بالعموم الأزماني هو الوجود في كلّ آن.

أمّا لو كان بمعنى البقاء في قبال جهة الحدوث فهو لا يكون ملحوظاً إلاّفي ناحية الحكم الذي هو الوجوب ، فإنّه بعد حدوثه يحكم عليه بأنّه باقٍ ، ويكون نتيجته هي نفي احتمال ارتفاع ذلك الوجوب بانتهاء أمد مصلحته ، كما يحكم ببقائه في قبال احتمال نسخه ، ومن الواضح أنّ ذلك أعني الحكم على الوجوب بأنّه باقٍ في قبال احتمال ارتفاعه بانتهاء أمد مصلحته ، لا يفرق فيه بين كون ذلك الحكم الذي هو الوجوب قد أُخذ فيه العموم الأزماني أو أُخذ العموم الأزماني في ناحية متعلّقه ، أو كون ذلك الحكم الذي هو الوجوب لم يؤخذ فيه العموم الأزماني ولا في متعلّقه ، لصحّة الحكم عليه في جميع هذه الصور الثلاث بأنّه باقٍ لا يرتفع. أمّا في الصورة الثالثة وهي صورة عدم أخذ العموم الأزماني لا فيه ولا في متعلّقه فواضح ، وكذلك صورة أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ، لصحّة أن تقول : إنّ الوجوب المتعلّق بالاكرام في كلّ آن باقٍ لا يرتفع ، في قبال كون الوجوب المذكور آنياً.

ومنه يظهر الحال في صورة أخذ العموم الأزماني في ناحية الوجوب نفسه فإنّه يصحّ لك أن تحكم على ذلك الوجوب في كلّ آن بأنّه باقٍ في قبال كونه آنياً فيكون ذلك القول طارداً لاحتمال ارتفاع الوجوب المذكور بانتهاء أمد مصلحته ، فإنّه إذا صحّ لك الحكم على الوجوب المتعلّق بالاكرام الموجود في كلّ آن بالبقاء صحّ لك الحكم على الوجوب الموجود في كلّ آن بالبقاء ، لما عرفت من أنّ كون الوجوب متعلّقاً بالاكرام الموجود في كلّ آن ملازم لكون ذلك الوجوب موجوداً في كلّ آن من تلك الآنات.

٣٤٦

فقد تلخّص لك : أنّ العموم الأزماني بهذا المعنى ـ أعني به المتكفّل لجهة بقاء الحكم واستمراره في قبال احتمال ارتفاعه بانتهاء أمد مصلحته ـ يكون فوق الحكم وفوق العموم الأزماني المأخوذ في متعلّقه ، بل هو فوق العموم الأزماني المأخوذ في نفس الحكم ، لأنّ محصّل هذه الجهة هو أنّ ذلك الوجوب الموجود في كلّ آن أو أنّ ذلك الوجوب المتعلّق بالاكرام في كلّ آن هو باقٍ لا يرتفع.

وخلاصة ذلك : هو أنّ أمد مصلحة ذلك الوجوب الباعثة على جعله لا تنتهي فهو باقٍ لبقاء مصلحته. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه هذا المعنى من العموم الأزماني ، وأنّه فوق الحكم ، وأنّه لا يمكن التمسّك به في مقام الشكّ في الحكم في زمان من الأزمنة.

ولكن بقيت في المقام جهات لم تتّضح :

الأُولى : جهة الفرق بين العموم الأزماني بهذا المعنى وبين عدم النسخ ، فإنّ النسخ لا يكون إلاّلأجل انتهاء أمد الحكم بانتهاء مصلحته ، أو بقيام مصلحة أُخرى تقتضي رفع ذلك هي أقوى من مصلحة نفس الحكم ، ولكن لا يخرج الحكم في مقام احتمال نسخه عن كونه من قبيل الشكّ في الرافع ، حتّى لو كان احتمال النسخ ناشئاً عن احتمال انتهاء مصلحة الحكم ، فإنّ الحكم بحسب ذاته لا يرتفع بعد حدوثه إلاّبرافع وناسخ يرفعه ، حتّى أنّه لو لم يكن الحاكم به حكيماً وكان لا يراعي المصالح في أحكامه يكون ذلك الحكم باقياً بعد انتهاء مصلحته ، غايته أنّه لمّا كان حاكمنا وهو الشارع حكيماً مراعياً للمصالح في أحكامه ، فعليه عند انتهاء مصلحة حكمه أن يرفعه بنسخه له عند انتهاء مصلحته ، أو يجعله من أوّل الأمر محدوداً بزمان مطابق لانتهاء مصلحته ، حسبما يراه من المصلحة في سلوك أحد الطريقين ، من جعله أوّلاً مطلقاً ثمّ بعد ذلك يرفعه ، أو جعله من أوّل

٣٤٧

الأمر محدوداً بالحدّ المذكور ، وحينئذ فلا يكون ذلك العموم الأزماني بالمعنى المشار إليه الذي هو عبارة عن الحكم عليه بالبقاء بعد الحدوث إلاّعبارة أُخرى عن عدم النسخ ، لا أنّه أمر آخر مغاير لعدم النسخ.

الجهة الثانية : أنّك بعد أن عرفت أنّ العموم الأزماني بهذا المعنى مساوق لعدم النسخ ، تعرف أنّه لا دليل عليه إلاّ استصحاب نفس الحكم الراجع إلى استصحاب عدم نسخه ، أو التمسّك بمثل « حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة » الذي هو بمنزلة عموم يدلّ على عدم النسخ ، لا أنّه أمر آخر في قبال عدم النسخ ، كي يتكلّم عليه في أنّه هل يصحّ الرجوع إليه في مقام الشكّ في الحكم في زمان من الأزمنة ، كي يدخل في عنوان المسألة من أنّه بعد التخصيص هل يكون المرجع هو استصحاب حكم المخصّص ، أو العموم الأزماني الذي هو عبارة عن الحكم على ذلك الوجوب مثلاً بالبقاء ، بل ينبغي حينئذ أن يجعل عنوان المسألة هو أنّه هل يرجع إلى استصحاب حكم المخصّص ، أو يرجع إلى استصحاب عدم نسخ ذلك الحكم العام ، أو إلى عموم « حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة » ، ولا يخفى بشاعة هذا التحرير وعدم استقامته.

الجهة الثالثة : أنّك بعد ما عرفت ما ذكرناه في الجهة الأُولى والجهة الثانية ، تعرف أنّ هذا العموم الأزماني بالمعنى المذكور لا يمكن أن يستدلّ عليه بالحكمة وعدم اللغوية في مثل قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، لأنّا بعد فرض عدم أخذ العموم الأزماني المعبّر عنه بالوجود في كلّ آن في ناحية المتعلّق الذي هو الوفاء ، ولا في ناحية الحكم الذي هو الوجوب نفسه ، لم يكن الحكم بالبقاء على ذلك الوجوب المتعلّق بالوفاء مخرجاً له عن اللغوية ، لوضوح بقاء لغوية الوجوب المتعلّق بالوفاء بحالها حتّى مع الحكم على ذلك الوجوب بالبقاء في

٣٤٨

مقابل احتمال ارتفاعه بانتهاء أمد مصلحته ، لكفاية تحقّق الوفاء به في وقت من الأوقات في صحّة الحكم على ذلك الوجوب بأنّه باقٍ لم ينتهِ أمد مصلحته ، فإنّ الوجوب إذا لم يكن الوقوع في كلّ آن من آنات الزمان مأخوذاً فيه ، بل كان المجعول هو الوجوب الصادق بتحقّقه في آن من الآنات ، وكان متعلّقه أيضاً صرف طبيعة الوفاء مجرّدة عن اعتبار وقوعها في جميع الآنات ، كان الالتزام بالوفاء في آن من الآنات كافياً في امتثاله ، ومجرّد الحكم على ذلك الوجوب بأنّه باقٍ لا ينتهي أمد مصلحته ولا يرتفع بانتهاء أمد مصلحته لا يخرجه عن اللغوية ، فإنّ ذلك الحكم عليه بالبقاء لا يوجب تكرار الوفاء وتعدّده بتعدّد الآنات كي يخرج بذلك عن اللغوية ، فإنّ البقاء وعدم انتهاء أمد الحكم شيء ، وكون ذلك الحكم موجوداً في كلّ آن أو كون متعلّقه موجوداً في كلّ آن أمر آخر ، لما عرفت من أنّ الحكم على الوجوب بأنّه باقٍ عبارة أُخرى عن كونه لا ينسخ ، ومن الواضح أنّ الحكم على الوجوب بأنّه باقٍ وأنّه لا يرتفع وأنّه لا ينسخ لا ينافي سقوطه بالامتثال في آن من الآنات.

ألا ترى أنّه لو أمر بإكرام زيد ، ولم يكن ذلك الوجوب مقيّداً بوقوعه في جميع الآنات ، كما أنّه لم يكن الاكرام مقيّداً بذلك ، كان لازم ذلك حصول الامتثال بالاكرام في آن من الآنات ، فلو حكم على ذلك الوجوب بأنّه باقٍ لا ينسخ ، لم يكن ذلك موجباً لعدم تحقّق الامتثال وسقوط الأمر بالاكرام آناً ما ، بل يكون ذلك الوجوب ساقطاً بذلك ، وإن صحّ أن يقال : إنّ ذلك الوجوب المعرّى هو ومتعلّقه عن العموم الأزماني باقٍ لا ينسخ.

وحينئذ فلو كان الامتثال وسقوط الوجوب بالوفاء آناً ما موجباً لكون ذلك الوجوب المتعلّق بالوفاء [ لغواً ] كانت لغويته باقية حتّى مع التصريح بأنّه باقٍ لم

٣٤٩

ينسخ ، وحينئذ فلابدّ في الإخراج عن اللغوية من الالتزام بأنّ الوجوب نفسه مقيّد بكونه في جميع الأزمنة ، أو الالتزام بأنّ متعلّقه وهو الوفاء مقيّد بذلك.

وإذا انتهت النوبة إلى كون الوقوع في جميع الأزمنة معتبراً في نفس الوجوب أو في متعلّقه ، صحّ لنا التمسّك بالعموم الأزماني في مقام الشكّ ، أمّا على تقدير كون المتعلّق هو المقيّد بذلك فواضح ، وأمّا على تقدير كون الوجوب نفسه معتبراً فيه ذلك القيد أعني الوقوع في جميع الآنات ، فلما عرفت من الرجوع إلى ذلك العموم الأزماني المعتبر في ناحية الوجوب ، بعد فرض إثبات أصل الوجوب بالدليل المتكفّل لجعل الوجوب في الجملة الذي هو القضية المهملة على ما مرّ عليك توضيحه ، فراجع وتأمّل (١).

الجهة الرابعة : أنّك بعد أن عرفت أنّ الحكم بحسب ذاته وطبعه يبقى بعد تحقّق حدوثه ، وأنّه لا يرتفع إلاّبرافع يرفعه وناسخ ينسخه حتّى لو كانت مصلحته قصيرة الأمد ، لأنّ ارتفاعه عند انتهاء أمد مصلحته لا يكون إلاّبرفعه بالنسخ ، غايته أنّ ذلك يكون لازماً على الحكيم ، تعرف أنّ جهة البقاء لا تحتاج إلى جعل مستقل ، بل يكون مجرّد جعل حدوثه كافياً في بقائه ، وإنّما المحتاج إلى جعل آخر زائد على أصل الحدوث ، هو الرافع والناسخ لو كان قصير الأمد لقصر مصلحته.

نعم ، لو كان المراد من الحكم عليه بالبقاء هو عدم سقوطه بمجرّد الامتثال ولو في آنٍ ما ، لكان ذلك محتاجاً إلى جعل آخر ، بمعنى أن يجعل لنا وجوباً ثانياً في الآن الثاني والثالث وهكذا ، ومجرّد الحكم على ذلك الوجوب بالبقاء لا يكون

__________________

(١) ينبغي في هذه المباحث مراجعة ما أفاده شيخنا قدس‌سره في بعض مباحث التعادل والتراجيح ص ٢٧٥ [ منه قدس‌سره. راجع فوائد الأُصول ٤ : ٧٣٨ ـ ٧٤٠ ].

٣٥٠

متكفّلاً لطرد ذلك الاحتمال ، لأنّ نفي ذلك الاحتمال لا يتحقّق إلاّبما عرفت من جعل وجوب ثانٍ وثالث وهكذا ، أو بأخذ العموم الأزماني متعلّقاً من أوّل الأمر بالوجوب ، بأن يكون المجعول أوّلاً هو الوجوب في كلّ آن ، كي يكون شاملاً للآن الثاني الذي هو بعد آن الامتثال الأوّل ، ومجرّد الحكم على ذلك الوجوب بالبقاء في قبال أصل الحدوث لا يكفي فيه ، كما يشاهد ذلك في مثل ما لو قال : أكرم العلماء وبعد ذلك حكم على ذلك الوجوب بالبقاء ، فإنّ الحكم على ذلك الوجوب بالبقاء لا ينافي سقوطه بالامتثال في الآن الأوّل ، لأنّ الحكم على الوجوب بالبقاء إنّما هو حكم عليه حسبما يقتضيه طبعه ، فإنّ الوجوب المذكور لمّا كان بحسب طبعه [ يقتضي ] السقوط بالامتثال في الأوّل ، لم يكن الحكم عليه بالبقاء مخرجاً له عمّا يقتضيه طبعه.

والحاصل : أنّ الوجوب المحكوم عليه بالبقاء هو نفس ذلك الوجوب على ما هو عليه من سقوطه بالامتثال في الآن الأوّل ، ولا يكون الحكم عليه بالبقاء مغيّراً له عمّا يقتضيه طبعه ، إلاّ أن نرجع الحكم عليه بالبقاء إلى كون ذلك باقياً في كلّ آن حتّى بعد الامتثال في الآن الأوّل ، وهو عبارة أُخرى عن كون الوجوب موجوداً في كلّ آن ، فيعود المحذور السابق من أنّ وجود الوجوب في كلّ آن لا يكون متأخّراً عن أصل جعل الوجوب ، بل يمكن ابتداءً أن يجعل الوجوب في كلّ آن.

الجهة الخامسة : أنّا لو سلّمنا ذلك كلّه ، بحيث سلّمنا كفاية الحكم على الوجوب بالبقاء في نفي احتمال سقوطه بالامتثال آناً ما ، فهو لا يكون مانعاً عن التمسّك به فيما لو احتمل الخروج من الوسط أو من الآخر ، فإنّه إنّما يكون مانعاً عن التمسّك بالعموم المذكور ـ الذي هو الحكم على ذلك الوجوب بالبقاء ـ في

٣٥١

خصوص الشكّ في مقدار المخصّص ، وفي خصوص ما لو احتمل التخصيص من الأوّل ، أمّا لو كان احتمال التخصيص من الوسط أو من الآخر ، فلا مانع من التمسّك بقولنا إنّ الوجوب باقٍ ، في نفي التخصيص من الوسط أو من الآخر لفرض تحقّق الحكم فيما قبله الموجب لاحراز الحكم ، فيدخل تحت قولنا الوجوب باقٍ حتّى في هذا الزمان ، الذي هو الوسط أو الآخر.

وحاصل هذه الجهات : أنّ الوجوب المتعلّق بالوفاء بالعقد بعد فرض عدم أخذ العموم الأزماني لا فيه ولا في متعلّقه ، يكون لازمه لغوية ذلك الوجوب لسقوطه بالامتثال آناً ما ، نظير سقوط وجوب إكرام العالم باكرامه في آن من الآنات ، وحيث كان ذلك ـ أعني السقوط بالامتثال آناً ما ـ في مثل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) موجباً للغوية ذلك الوجوب ، كان مقتضى الحكمة هو طرد ذلك المعنى الموجب للغوية أعني السقوط بمجرّد الامتثال آناً ما ، ولا ريب في أنّ الحكم ببقاء ذلك الوجوب في قبال احتمال نسخه أو في قبال احتمال انتهاء أمد مصلحته الراجع إلى احتمال نسخه ، لا يطرد ذلك المعنى ، بل لابدّ في طرد ذلك المعنى من الحكم على الوجوب المذكور بأنّه باقٍ ولو بعد تحقّق امتثاله آناً ما ، فيكون محصّله هو الحكم على ذلك الوجوب بالبقاء في كلّ آن حتّى الآنات التي هي بعد الآن الأوّل الذي وقع فيه الوفاء ، ويكون ذلك عبارة أُخرى عن الحكم على ذلك الوجوب بأنّه موجود في كلّ آن ، بمعنى أنّ هناك وجوباً ثانياً موجوداً في الآن الثاني غير الوجوب الموجود في الآن الأوّل ، المفروض سقوطه بالامتثال في الأوّل ، وهكذا في باقي الآنات ، فيكون هناك وجوبات متعدّدة بحسب تعدّد الآنات ، ويكون كلّ واحد وجوباً مستقلاً له إطاعة مستقلّة ، وذلك هو عين ما تقدّم من أخذ العموم الأزماني المعبّر عنه بكلّ آن في ناحية الوجوب ، الذي عرفت أنّه لا مانع من أخذه

٣٥٢

فيه ابتداءً عند جعله ، وأنّه ليس أمراً آخر هو فوق الحكم ، إلى غير ذلك من الإشكالات التي قدّمناها في المباحث السابقة.

ثمّ لو تنزّلنا وقلنا إنّ الحكم على ذلك الوجوب بالبقاء كافٍ في طرد احتمال سقوطه بالوفاء آناً ما ، من دون أن نجعل الوجوب واقعاً ومتحقّقاً في كلّ زمان ، لم يكن هناك مانع من التمسّك بالبقاء المذكور في مقام الشكّ في التخصيص بخروج الوسط أو بخروج الآخر. نعم ، لا يمكن التمسّك بالحكم بالبقاء في خصوص ما لو احتملنا الخروج من الأوّل ، أو الخروج فيما بعد ما دلّ عليه المخصّص.

وبالجملة : أنّ الحكم على الوجوب بالبقاء بهذا المعنى يكون حاله حال استصحاب نفس ذلك الوجوب في كونه مرجعاً عند الشكّ في سقوطه بالامتثال ، وعند الشكّ في الخروج من الوسط والآخر ، دون الشكّ في الخروج من الأوّل والخروج في الآن الثاني لما ثبت خروجه أعني الشكّ في مقدار المخصّص.

وفي التقريرات المطبوعة في صيدا في مبحث الخاتمة فيما يتعلّق باعتبار اتّحاد القضيتين ، أفاد أنّ مسألة دوران الأمر في الخيار بين الفورية وغيرها ، أنّ الشكّ في ذلك من قبيل الشكّ في المقتضي ، فليراجع (١).

لكن [ في ] كون ذلك من قبيل الشكّ في المقتضي تأمّل ، لما عرفت من أنّ الحكم وإن كان قصير المصلحة لكنّه لا يرتفع إلاّ إذا رفعه الناسخ ، إلاّ أن يكون مرجع الشكّ إلى الشكّ في كون الحكم الخاصّ محدوداً ، وذلك عبارة أُخرى عن احتمال كون الزمان الخاصّ قيداً ، فتأمّل.

وحاصل البحث : أنّ إرجاع العموم الأزماني في ناحية الحكم إلى الحكم

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٨٤ ـ ١٨٥.

٣٥٣

عليه بالبقاء ، وإن سلم من إشكال إمكان أخذه في ناحية الحكم لتأخّر جهة البقاء عن جهة الحدوث ، لكنّه يتوجّه عليه إشكالات :

الأوّل : أنّ الحكم على وجوب الوفاء بالعقد بأنّه باقٍ لا ينافي إمكان التمسّك به عند الشكّ في التخصيص من الوسط أو الآخر ، لتحقّق الحكم فيما قبل زمان الشكّ ، فيحكم عليه بأنّه باقٍ في زمان الشكّ أيضاً. نعم ، لا يمكن التمسّك بالحكم على الوجوب بالبقاء فيما كان احتمال التخصيص من الأوّل أو كان الشكّ في مقدار التخصيص.

الثاني : أنّ الحكم على الوجوب بالبقاء إن كان في مقابل احتمال نسخه فهذا لا يحتاج إلى الحكم المذكور ، بل يكفي فيه مجرّد جعل الحكم ، فإنّه بطبعه يبقى إلاّ أن يجعل له ناسخ ينسخه ، وإن كان في مقابل احتمال انتهاء أمد مصلحته فلا يخفى أنّه عند كون مصلحة الحكم قصيرة يلزم الحكيم أحد أمرين ، إمّا جعله من الأوّل محدوداً بمقدار أمد مصلحته ، أو جعله غير محدود ولكن يلزمه أن ينسخه ويرفعه عند انتهاء أمد مصلحته ، ولو فرض محالاً أنّه لم يرفعه لكان مقتضى طبع الحكم هو البقاء ، وحينئذ تكون الطريقة الثانية راجعة إلى النسخ والأُولى راجعة إلى جعل الحكم محدوداً من أوّل الأمر ، وطرد كلّ من هذين الاحتمالين لا يحتاج إلى جعل البقاء ، بل يكفي فيه جعله غير محدود مع عدم جعل نسخه.

الثالث : أنّ الحكم على الوجوب بأنّه يبقى ، في مقابل كونه محدوداً من أوّل الأمر ، وفي مقابل النسخ ، لا يكون محقّقاً لما نحن بصدده من رفع اللغوية الناشئة من تحقّق امتثال قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) بالوفاء بالعقد آناً ما ، وسقوط الوجوب بذلك كما هو مقتضى تجرّد الوجوب والوفاء عن العموم

٣٥٤

الأزماني ، ومجرّد الحكم على الوجوب المذكور بأنّه باقٍ غير محدود ولا منسوخ ، لا يرفع سقوطه بالامتثال آناً ما ، كما لو حكمنا على وجوب إكرام العلماء بأنّه باقٍ غير محدود بأمد مصلحته ولا منسوخ بناسخ لا يكون منافياً لسقوطه بإكرام العالم آناً ما ، فإنّ الحكم على الوجوب المذكور بالبقاء بالمعنى المزبور لا يكون موجباً للتصرّف فيه ، والخروج به عمّا يقتضيه تجرّده وتجرّد متعلّقه عن العموم الأزماني ، إلاّ أن يكون معنى البقاء هو وجود وجوب ثانٍ في الزمان الثاني بعد سقوط الوجوب الأوّل في الزمان الأوّل بالاتيان بمتعلّقه فيه ، وذلك عبارة أُخرى عن كون الوجوب موجوداً في كلّ آن ، الراجع إلى جعل وجوبات متعدّدة حسب تعدّد الآنات يكون لكلّ منها إطاعة وعصيان خاصّ به ، فيعود حينئذ المحذور السابق في العموم الأزماني المأخوذ في ناحية الحكم ، من عدم تأخّره عن الحكم ، وعدم كونه فوقه ، وإمكان جعله في ضمن جعل أصل الوجوب ، إلى غير ذلك من الإشكالات التي قدّمناها في المباحث السابقة ، هذا.

ولكن ينبغي التأمّل في هذا المبحث من ناحية أُخرى شرحناها في آخر مباحث العموم والخصوص (١) في المبحث المتعرّض لكون النسخ من قبيل الرفع أو الدفع ، وأنّه عند الدوران بين النسخ والتخصيص ما هو المقدّم ، فإنّ ما جرينا عليه في هذه المقامات وإن كان كلّه مبنياً على كون النسخ رفعاً ، إلاّ أنّ فيه إشكالاً أشرنا إليه في ذلك المبحث ، وهو أنّ الحكم في مقام الثبوت إمّا أن يكون محدوداً لكون مصلحته كذلك ، وإمّا أن لا يكون محدوداً لكون مصلحته أيضاً كذلك ، ولا يتصوّر فيه الإهمال من هذه الجهة بعد أن فرضنا إمكان أخذ العموم الأزماني في ناحيته ، وعلى كلّ من هاتين الصورتين لا مورد للنسخ ، وحينئذ ينحصر مورده

__________________

(١) راجع المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٨٩.

٣٥٥

بالصورة الأُولى فيما لو كانت هناك مصلحة تقتضي إظهار كون الحكم غير محدود ، وعند انتهاء أمد مصلحته ينشأ نسخه ، وحينئذ لا يكون النسخ إلاّمن قبيل الدفع. ويشكل الأمر حينئذ في استصحاب الحكم في مقام الشكّ في نسخه لكونه من قبيل الشكّ في المقتضي ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه وإن كان كذلك بالدقّة ، إلاّ أنّه لمّا كان النسخ بحسب النظر العرفي رافعاً للحكم كان الاستصحاب جارياً فيه ، وفيه تأمّل.

نعم ، لو سلّمنا ما أفاده الأُستاذ قدس‌سره من عدم إمكان أخذ العموم الأزماني ثبوتاً في ناحية الحكم ، وأنّه إنّما يثبت العموم الأزماني من ناحية الحكمة أو دليل آخر ، كان الإهمال فيه من هذه الناحية في مقام الثبوت ممكناً ، لعدم إمكان كلّ من الإطلاق والتقييد في ذلك المقام ، وحينئذ فالحاكم يجعل الحكم بذاته ، وهو بطبعه يقتضي البقاء ، ولو كانت مصلحته محدودة يلزمه نسخه عند انتهاء أمد مصلحته ويكون نسخه حينئذ رفعاً ، وإن كان بالقياس إلى الدليل الدالّ على دوام ذلك الحكم واستمراره ممّا أثبتنا به العموم الأزماني من قبيل التخصيص الأزماني ، فراجع وتأمّل.

ملخّص ما أفاده المرحوم الحاج الشيخ عبد الكريم اليزدي في غرره هو أنّه إن لاحظ المتكلّم آنات الزمان وقطعاته وربطها بالفعل الواجب وجب التمسّك بالعموم في موارد الشكّ ، وكذلك الحال لو ربطها بالنسبة بين الوجوب والفعل الواجب ، فإنّه حينئذ يكون بمنزلة قضايا متعدّدة ، فكأنّه قال : يجب في يوم الجمعة إكرام كلّ عالم ، ويجب في يوم السبت إكرام كلّ عالم ، وهكذا.

وحينئذ فلو خرج زيد يوم الجمعة تمسّكنا له في يوم السبت بعموم قوله : يجب في يوم السبت إكرام كلّ عالم ، أمّا إذا لم يكن في البين لحاظ الآنات

٣٥٦

والقطعات ، بل لم يكن في البين إلاّقوله : أكرم كلّ عالم ، وقلنا إنّ مقتضى الإطلاق أنّ هذا الحكم غير مقيّد بزمان خاصّ ، فلازمه الاستمرار من أوّل وجود الفرد إلى آخره ، فإذا خرج زيد يوم الجمعة وشككنا في حكم زيد المذكور في يوم السبت ، دار الأمر بين تخصيص العام بالنسبة إلى زيد ، أو التصرّف في ظهور الاطلاق الذي يقتضي استمرار الحكم ، ولو فرضنا أنّ الثاني متعيّن من جهة أنّ ظهوره إطلاقي يرفع اليد عنه في مقابل الظهور الوضعي ، فلا يجوز أن يقيّد موضوع الحكم بما عدا ذلك الزمان الخارج ليقال بثبوت الحكم لذلك الموضوع دائماً ، لأنّ ذلك فرع انعقاد ظهورات بالنسبة إلى الأزمان حتّى تحفظ فيما لم يعلم بالخروج والمفروض خلافه ، بل اللازم على فرض القول بدخول الفرد في الجملة ، القول بعدم دلالة القضية على زمان الحكم ، فافهم (١).

قلت : لا يخفى أنّ ما أفاده أوّلاً من التمسّك بعموم قوله : يجب في يوم السبت إكرام كلّ عالم ، محصّله إرجاع التمسّك إلى العموم الأفرادي ، ولكنّه لا يتمّ إلاّ بعد التمسّك بالعموم الأزماني بأن يقال : إنّ يوم السبت يوم من الأيّام ، وكلّ يوم يجب فيه إكرام كلّ عالم ، فهذا اليوم يجب فيه إكرام كلّ عالم ، ثمّ بعد ذلك نتمسّك بعموم إكرام كلّ عالم في يوم السبت على وجوب إكرام زيد فيه.

وأمّا ما أفاده أخيراً في صورة أخذ الزمان قطعة واحدة ، فلا يخفى أنّه قدس‌سره بعد أن التزم بعدم التخصيص وبقاء زيد داخلاً تحت العموم ، وأقصى ما صنعنا هو تقييد الاطلاق الدالّ على دوامه بما عدا يوم الجمعة ، فيبقى حاله في باقي الأيّام التي ثبت فيها وجوب إكرامه في الجملة على حاله من الاطلاق القاضي بالدوام ،

__________________

(١) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٥٦٨ ـ ٥٧٣.

٣٥٧

لكنّه قال قبل ذلك : ومقتضى هذا الاطلاق أنّ هذا الحكم غير مقيّد بزمان خاصّ ، فلازمه الاستمرار من أوّل وجود الفرد إلى آخره ، فإذا انقطع الاستمرار بخروج فرد في يوم الجمعة مثلاً فليس لهذا العام المفروض دلالة على دخول يوم السبت ، إذ لو كان داخلاً لم يكن هذا الحكم استمراراً للحكم السابق (١).

وظاهر العبارة أنّه يرى أنّ لازم دخول الفرد هو استمرار الحكم فيه ، فلو ثبت عدم استمراره كان ذلك ملازماً لعدم دخوله في العام الأفرادي.

وفيه : أنّ الاستمرار إنّما هو فرع الدخول ، وبعد فرض كونه مشمولاً للعام الذي مقتضاه وجوب إكرامه في الجملة ، لا يكون خروجه في يوم الجمعة منافياً لوجوب إكرامه في الجملة ، فإذا ثبت وجوب إكرامه ولو مع ثبوت عدم وجوبه يوم الجمعة ، كان مقتضى الاطلاق هو دوامه فيما بعد الجمعة ، اللهمّ إلاّ أن يدّعى ما أفاده الشيخ قدس‌سره من أنّ الدوام فرع شمول العموم الأفرادي له ، ومع فرض خروجه عنه ولو في الجملة لم يبق محل لما يدلّ على الدوام ، أو أنّه لا محصّل للدوام في المقام وإن كان بحكم الاطلاق إلاّعبارة أُخرى عن أنّ كلّ عالم يدوم فيه وجوب الاكرام ، فمع خروجه في يوم الجمعة لابدّ من القول بأنّه خارج عن هذه الكبرى ، وقد تقدّم التفصيل في شرح ما أفاده (٢) ، فراجع وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الاطلاق يمكن منع دلالته على الدوام ، بل يمكن القول بأنّ مقتضاه الاكتفاء بالاكرام ولو في بعض الآنات ، فإنّ كونه دائمياً محتاج إلى البيان لكونه نحواً من التقييد ، أمّا كون نفس الوجوب دائمياً فلا إطلاق يقتضيه ، نعم

__________________

(١) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٥٧١.

(٢) في الصفحة : ٢٩٩ وما بعدها.

٣٥٨

ربما كان الوجوب في بعض الآنات لغواً كما في مثل وجوب الوفاء بالعقد ، ومقتضى الحكمة هو كون الوجوب دائمياً ، وحينئذ يمكن أن يكون من قبيل القسم الثاني المنحل إلى قضايا في كلّ يوم ، الذي أفاد أنّه يكون المرجع فيه العموم الأفرادي في كلّ قضية في كلّ يوم ، فتأمّل.

قوله : والحاصل أنّ محلّ الكلام إنّما هو فيما إذا كان عام أفرادي يستتبع عموماً زمانياً ، فالعموم الزماني إنّما يكون في طول العموم الأفرادي ومتأخّر عنه رتبة ، سواء كان مصبّ العموم الزماني نفس الحكم الشرعي أو متعلّقه ... الخ (١).

لم يتّضح الوجه في هذه الطولية فيما لو كان العموم الأزماني مأخوذاً في ناحية المتعلّق ، الذي هو الاكرام في مثل أكرم العلماء في كلّ آن ، فإنّ الفعل وهو الإكرام كما يتعلّق بالمفعول به وهو العلماء الذي هو العموم الأفرادي ، فكذلك يتعلّق بالظرف وهو قولنا : كلّ آن ، وليس تعلّقه بالمفعول به مقدّماً رتبة على تعلّقه بظرف الزمان ، هذا مضافاً إلى أنّ هذه الطولية فيما لو أُخذ الزمان ظرفاً للمتعلّق لا أثر لها ، إذ لا يترتّب أثر فيما نحن بصدده على كون تعلّق الاكرام بظرف متأخّراً رتبة على تعلّقه بالعموم الأفرادي الذي هو المفعول به أو كونه في عرضه.

نعم ، فيما لو كان ذلك العموم الأزماني متعلّقاً بنفس الحكم ، يكون ذلك العموم الأزماني في طول العموم الأفرادي ، لأنّ متعلّق العموم الأزماني لمّا كان هو الحكم نفسه ، وكان مرتبة ذلك العموم الأزماني متأخّرة عن مرتبة أصل الحكم ، كان لازم ذلك قهراً كون العموم الأزماني واقعاً في طول العموم الأفرادي.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٤٠.

٣٥٩

قوله : لأنّ الدليل إنّما كان متكفّلاً لعموم أزمنة وجود الحكم ، فلا يتكفّل أصل وجود الحكم ، والشكّ في التخصيص الزماني يستتبع الشكّ في وجود الحكم ، فلا يصحّ التمسّك بعموم ما دلّ على العموم الزماني ـ إلى قوله ـ فلو شكّ في وجوب الوفاء بعقد من العقود في زمان فلا يمكن التمسّك بعموم ما دلّ على استمرار وجوب الوفاء في كلّ زمان ... الخ (١).

لا يقال : إنّ هذا العموم الأزماني الذي اعتبرناه بحسب دليل الحكمة وارداً على الحكم الذي هو وجوب الوفاء ، لو لم يكن قابلاً للتمسّك به في مقام الشكّ في وجوب الوفاء من جهة الشكّ في التخصيص أو الشكّ في مقدار المخصّص فأيّ فائدة فيه؟ إذ أنّه حينئذ لا يكون مخرجاً لذلك الحكم الذي هو جوب الوفاء عن اللغوية.

لأنّا نقول : يكفي في فائدة ذلك العموم الأزماني كونه نافياً لاحتمال سقوط ذلك الوجوب بالوفاء بالعقد آناً ما ، فيكون ذلك العموم الأزماني في قبال ذلك الاحتمال أعني احتمال كون الوجوب المذكور آنيّاً ، فإنّ ذلك الاحتمال هو عبارة أُخرى عن كون الحكم المذكور لغواً لا فائدة [ فيه ] فالعموم الأزماني المعتبر في ناحية الحكم يكون مخرجاً لذلك الحكم عن هذه اللغوية الناشئة عن كون الوجوب آنياً ، الموجب لتحقّقه بالوفاء بالعقد آناً ما ، ومن الواضح أنّ إخراج الحكم عن اللغوية بهذا المقدار لا يوجب الرجوع إلى ذلك العموم فيما لو شكّ في التخصيص أو مقداره ، بل يكون ذلك الشكّ باقياً بحاله مع فرض ذلك العموم وخروج الحكم به عن اللغوية المذكورة.

والحاصل : أنّ عدم إمكان التمسّك بهذا العموم في مقام الشكّ في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٤٠ ـ ٥٤٢.

٣٦٠