أصول الفقه - ج ١٠

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٠

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-83-6
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٩٤

فقالت هي : قد انقضت عدّتي ، أو أنشأ الطلاق فقالت هي : أنا في هذا الحال حائض ، فلا يرد النقض بهما على من يدّعي الرجوع إلى أصالة الصحّة ، لأنّ ذلك إنّما يقول به فيما لم يكن مورداً لكون العدّة أو الحيض إليها. أمّا مستنده قدس‌سره في المنع من جريان أصالة الصحّة في أمثال المقام ، فحاصله هو أنّ أصالة الصحّة إنّما تجري في الفعل المشترك بينهما ، لأنّ دعوى فساده من أحدهما منافية لاشتراكه فيه. ومثله ما لو كان الفعل من أحدهما ولكنّه ـ أعني الفاعل ـ يدّعي فساده ، فإنّه محكوم بصحّة عمله ، بخلاف ما لو لم يكن في البين إلاّفعل واحد صادر من أحدهما ، فادّعى الآخر بطلانه وادّعى الفاعل صحّته. ولعلّ ما أفاده السيّد قدس‌سره في قضاء العروة فيما تقدّم نقله عنه راجع إلى هذا التفصيل ، وقد تعرّضنا لذلك مفصّلاً في مبحث أصالة الصحّة ، فراجع (١).

وعلى كلّ حال ، إنّ هذا ـ أعني عدم جريان أصالة الصحّة ـ لو تمّ لكان موجباً لسقوط أصالة الصحّة في المقام في كلّ من الصور الثلاث ، وحينئذ لا يبقى ما يحكم على الأُصول في المقام إلاّما دلّ على كون العدّة إليها ، وجريانه إنّما يتّضح في الصورة الثانية ، وهي ما لو علم تاريخ الرجعة ووقع النزاع في تاريخ الانقضاء ، دون الصورة الأُولى وهي ما لو علم تاريخ الانقضاء ووقع النزاع في تاريخ الرجعة ، لما عرفت من أنّ الشكّ فيها لم يتعلّق بانقضاء العدّة ، وإنّما كان الشكّ فيها في ناحية الرجعة ، وذلك ممّا لا يدخل في الشكّ في انقضاء العدّة ، وذلك هو الذي أشار إليه السيّد قدس‌سره في الوسيلة فيما تقدّم نقله (٢) أعني قوله : فإن تعيّن زمان الانقضاء وادّعى الزوج أنّ رجوعه كان قبله فوقع في محلّه ، وادّعت

__________________

(١) المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب الصفحة : ٤٥٨ وما بعدها.

(٢) في الصفحة : ٢٥٥.

٢٦١

هي وقوعه بعده فوقع في غير محلّه ، فالأقرب أنّ القول قوله بيمينه.

وإنّما حكم فيها بأنّ القول قول الزوج اعتماداً على أصالة الصحّة في الرجوع ، أمّا لو قلنا بعدم جريان أصالة الصحّة في أمثال ذلك ، إمّا لما ذكرناه من الركنية ، أو لما ذكره السيّد قدس‌سره في قضاء العروة ، أو لما أفاده في الجواهر ، فلا ينبغي الريب في كون القول قولها حينئذ ، لاستصحاب عدم الرجوع إلى ما بعد انقضاء العدّة ، فهي قد انقضت عدّتها بالوجدان ، ولم يتحقّق الرجوع منه في عدّتها بالأصل ، فيحكم ببينونتها منه إلاّ إذا أقام البيّنة على تحقّق الرجوع منه في عدّتها.

وأمّا لو كان كلّ منهما مجهول التاريخ ، فإنّ الشكّ فيها يكون جامعاً للجهتين أعني جهة انقضاء العدّة قبل الرجوع ، وهذه الجهة راجعة إليها ، وجهة الرجعة وأنّها هل وقعت بعد الانقضاء أو قبله ، وهذه الجهة غير راجعة إليها ، لكن المقابلة بين الجهتين من قبيل مقابلة الاقتضاء مع عدم الاقتضاء ، ويكون المحكّم هو ما تقتضيه الجهة الأُولى من الرجوع إليها ، ولولا ذلك لكانت المسألة من باب التداعي ، كما أفاده في الجواهر بعد فرض سقوط أصالة الصحّة ، فإن استصحاب عدم الرجوع في العدّة قاضٍ بكون القول قول الزوجة ، لما عرفت من كفاية خروجها من العدّة بالوجدان وعدم رجوع منه فيها بالأصل في تحقّق بينونتها منه ، ولا تحتاج في ذلك إلى إثبات أنّ رجوعه كان بعد انقضاء عدّتها كي يقال إنّ استصحاب عدم رجوعه في العدّة يكون مثبتاً ، وأمّا من ناحية الزوج فإنّ استصحاب بقائها في العدّة إلى ما بعد الرجوع قاضٍ بكون القول قول الزوج فيكون كلّ منهما مدّعياً منكراً ، فلاحظ.

ولبعض سادة أجلّة العصر ( سلّمه الله تعالى ) حاشية خطّية على هامش

٢٦٢

الجواهر في هذا المقام على قوله : واتّفاقهما على تعيين زمانها (١) ، هذا لفظها : لا يخفى أنّه إذا اتّفقا على زمان الانقضاء واختلفا في زمان الرجوع ، فالأخذ بقول الزوجة ليس أخذاً بقولها في العدّة ، وإنّما هو أخذ بقولها في الرجوع الذي لا دليل على الرجوع إليها فيه ، وأمّا ما ذكره من أنّه لو لم نقل بقبول قولها في هذه الصورة يكونان متداعيين ، ففيه : أنّ دعواها وقوع الرجوع بعد العدّة ليس موضوع أثر ، وإنّما تسمع بملاحظة لازمها من عدم الرجوع في أثناء العدّة ، واللازم المذكور مرجعه إلى النفي والإنكار ، فتكون الزوجة بملاحظته منكرة ، فيكونان من المدّعي والمنكر ، انتهى.

قلت : أمّا ما أُفيد في صدر هذه الحاشية فهو القوي المتين ، وقد عرفت أنّه هو المراد من الدعوى التي أشار إليها صاحب الجواهر قدس‌سره بقوله : ودعوى الخ ، وهو الذي اعتمد عليه سيّد الوسيلة فيما عرفت من كلامه.

ولا يخفى أنّ الصورة التي أفاد في الجواهر أنّها لو لم يقبل قولها فيها تكون من التداعي إنّما هي صورة عدم الاتّفاق بينهما على زمان الرجعة وزمان الانقضاء ، وهي التي عبّرنا عنها بصورة الجهل بالتاريخ في كلّ منهما ، وكما أنّ قول الزوجة فيها يكون على وفق الأصل ـ أعني أصالة عدم الرجوع إلى انقضاء العدّة ـ فكذلك يكون قول الزوج فيها على وفق الأصل ، أعني أصالة بقاء العدّة إلى ما بعد الرجوع القاضي بكون الرجوع في العدّة ، فالرجوع محرز بالوجدان وكونه في العدّة بالأصل ، بناءً على أنّ الأثر مترتّب على الاجتماع في الزمان. نعم لو كان الأثر مترتّباً على كون الرجوع متّصفاً بكونه في العدّة ، لكان الأصل مثبتاً من ناحيته دونه من ناحيتها ، وحينئذ تخرج المسألة عن التداعي ، ويكونان من باب كون الزوجة

__________________

(١) تقدّم نقل تمام العبارة في الصفحة : ٢٥٩.

٢٦٣

منكرة.

ثمّ لا يخفى أنّه في الصورة الأُولى وإن لم يكن قولها مقبولاً من ناحية العدّة إلاّ أنّها يكون القول قولها من ناحية أصالة عدم الرجوع إلى انقضاء العدّة ، القاضي كما عرفت بالحكم ببينونتها ، فتكون هي المنكرة ، ويكون الزوج مدّعياً ، إلاّ أن نقول بأصالة الصحّة ، فيكون [ القول ] قول الزوج حينئذ ، لكن لازم ذلك كون القول قوله أيضاً في الصورة الأخيرة ـ أعني صورة الجهل بالتاريخين ـ فإنّا وإن قلنا بأنّه لا أصل فيها من ناحية الزوج لكونه بالنسبة إليه مثبتاً ، وأنّ الأصل إنّما يجري في ناحية الزوجة فقط ، وهو أصالة عدم الرجوع إلى انقضاء العدّة ، إلاّ أنّ أصالة الصحّة التي هي من ناحية الزوج حاكمة على الأصل المذكور في ناحية الزوجة.

وممّا ينبغي الالتفات إليه هو أنّ الكلام في هذه الأُصول الجارية في مجهول التاريخ إنّما هو مع قطع النظر عن شبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، وإلاّ فمع فرض كون ذلك مانعاً في مجهول التاريخ كما استقرّ عليه نظر المحشّي سلّمه الله ، فالذي ينبغي هو إسقاط هذه الأُصول بالمرّة ، وانحصار المرجع في المقام بأصالة الصحّة ، أو بأنّ القول قولها في انقضاء العدّة إلاّفي الصورة الأخيرة ، فإنّ الأُصول فيها وإن كانت ساقطة لعدم اتّصال زمان [ الشكّ ] بزمان اليقين ، إلاّ أنّه سلّمه الله يمكنه أن يجعل القول قولها ، لا من جهة كون قولها متّبعاً فحسب ، بل من جهة أصالة عدم الرجوع في العدّة بمفاد ليس التامّة ، فإنّه عنده جارٍ وإن كان الأثر مترتّباً على مفاد ليس الناقصة ، وكأنّه لأجل ذلك بنى في الصورة الثالثة على كونها منكرة حتّى لو أغضينا النظر عن اتّباع قولها في العدّة ، كما احتمله هو حينما ذاكرته في وجه ما أفاده في الحاشية. وفيه تأمّل ، لأنّ أصالة عدم الرجوع في العدّة

٢٦٤

الذي أسقطناه بالمعارضة ، أو لعدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، هو هذا الأصل الذي رجعنا إليه أعني مفاد ليس التامّة ، فلاحظ وتأمّل.

وعلى هذا الحساب يتخرج النزاع في دعوى الزوجة فساد الطلاق بدعوى كونه مصادفاً لحيضها ، فإنّهما لو اتّفقا على أنّها حائض من أوّل الشهر إلى عاشره لكن الزوج يدّعي وقوع الطلاق قبل ذلك ، أو أنّه يدّعي وقوعه بعده ، والزوجة تدّعي وقوعه في أثناء العشرة ، فلا يكون قولها في الحيض متّبعاً في هذه الصورة ، إذ ليس النزاع منها في نفس الحيض ، وإنّما النزاع في الطلاق.

ولو كان الزوج في هذه الصورة يدّعي تقدّم الطلاق على الحيض ، فالذي ينبغي هو الرجوع إلى أصالة الصحّة في الطلاق ، ولو قلنا بعدم جريانها فيه لما أفاده في الجواهر كانت المسألة من التداعي ، لأنّ أصالة عدم وقوع الطلاق قبل الحيض لا تثبت ما تدّعيه الزوجة من وقوعه في أيّام الحيض ، فإنّ ما يدّعيه وإن كان على خلاف الأصل فيكون مدّعياً ، إلاّ أنّ قول الزوجة ليس على وفق الأصل لتكون منكرة ، وحينئذ يكون كلّ منهما مدّعياً ، لعدم كون قوله على وفق الأصل.

أمّا لو كان الزوج يدّعي تأخّر الطلاق عن الأيّام المذكورة ، فالظاهر أنّه كذلك ـ أعني أنّه من باب التداعي بعد سقوط أصالة الصحّة ـ فإنّ الزوجة وإن خالفت الأصل في دعواها وقوع الطلاق في الأيّام المذكورة ، إلاّ أنّ هذا الأصل لا ينفع الزوج ، إذ لا يثبت به وقوع هذا الطلاق في أيّام الطهر إلاّباللازم.

نعم ، لو قلنا بحجّية أصالة العدم بمفاد ليس التامّة في مورد مفاد ليس الناقصة لكان القول قول الزوج ، لكفاية استصحاب عدم الطلاق في أيّام الحيض في إثبات عدم وقوع هذا الطلاق في أيّام الحيض ، وذلك كافٍ في الحكم بعدم فساده فتأمّل.

٢٦٥

ولو كان الأمر بالعكس ، بأن اتّفقا على وقوع الطلاق في أوّل الشهر مثلاً ، فادّعت الزوجة أنّها حائض في ذلك اليوم ، وادّعى الزوج أنّ حيضها قد انقضى قبله أو أنّه ابتدأ بعده ، كان القول قولها ، لأنّ النزاع حينئذ في نفس الحيض إمّا في انتهائه أو في ابتدائه ، وقولها حجّة في ذلك ، ويكون قولها حاكماً على استصحاب حيضها إلى حين الطلاق أو استصحاب طهرها إلى ما بعد الطلاق ، كما أنّه يكون حاكماً على أصالة الصحّة في الطلاق لو قلنا بجريانها فيه.

والظاهر أنّ الحكم كذلك ـ أعني حجّية قولها ـ في الصورة الثالثة ، وهي ما لو لم يكن بينهما اتّفاق على تاريخ أحد الأمرين من الطلاق والحيض ، على حذو ما ذكرناه في صورة النزاع في الرجوع وانقضاء العدّة عند كونهما مجهولي التاريخ ، فلاحظ وتأمّل والله العالم.

تنبيه : قال السيّد قدس‌سره في العروة في مسألة ٧ : الماء المشكوك كرّيته مع عدم العلم بحالته السابقة في حكم القليل على الأحوط ، وإن كان الأقوى عدم تنجّسه بالملاقاة الخ (١). والظاهر منه البناء على كون القلّة شرطاً في الانفعال ، لا أنّ الكرّية مانعة من الانفعال ، لكنّه قال في مسألة ٨ في صورة كون الماء القليل مسبوقاً بالكرّية مع العلم بوقوع النجاسة فيه : وإن علم تاريخ القلّة حكم بنجاسته (٢) هذا مبني على إجرائه أصالة عدم الملاقاة في حال الكرّية وهي قاضية بالنجاسة ، كما أجرى أصالة عدم الملاقاة في حال القلّة ، ولكن لو لم يكن قائلاً بجريان الأصل المذكور ، كان الحكم بالنجاسة منافياً لمذهبه من عدم الأخذ بكون الملاقاة مقتضية والكرّية مانعة ، فإنّ مقتضى ذلك هو الحكم بالطهارة في هذه الصورة ،

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٨٣ / الماء الراكد.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٨٤ / الماء الراكد.

٢٦٦

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه يقول بكون الملاقاة مع القلّة مقتضية للتنجيس كما أفتى به في مسألة ٢ من أنّه إذا شكّ في أنّ له مادّة أم لا وكان قليلاً ينجس بالملاقاة (١).

وحينئذ ففيما نحن فيه نقول : إنّ هذا الموجود من الماء القليل قد علم بكونه لاقته النجاسة ، ولم يعلم أنّه حين ملاقاتها له كان معتصماً بالجزء الذي فقده بأن كانت الملاقاة قبل انفقاد ما فقد منه ، يعني حينما كان كرّاً ، أو أنّه لم يكن معتصماً ، بأن كانت الملاقاة بعد انفقاد ما فقد منه ، يعني كانت الملاقاة بعد صيرورته قليلاً ، وحينئذ نقول : إنّ هذا الماء الموجود قد لاقته النجاسة قطعاً ، إمّا وحده أو بضميمة ذلك المقدار الذي انفقد منه ، وحينئذ تكون الملاقاة للقليل التي هي مقتضية للتنجيس محرزة ، مع فرض عدم إحراز المانع وهو اجتماع هذا القليل الموجود مع ما فقد منه ، فيكون محكوماً بالنجاسة.

نعم ، إنّه قدس‌سره بعد إسقاطه كون نفس الملاقاة مقتضية للتنجيس يطالَب بالدليل على كون الملاقاة للماء القليل مقتضية للتنجيس ، وأنّ اتّصال ذلك القليل بالمادّة العاصمة كما في المسألة السابقة ـ أعني مسألة القليل المحتمل كونه جارياً ومتّصلاً بالمادّة ـ مانع من ذلك ، أو أنّ المجموع من هذا الماء القليل وما قد فقد منه مانع من ذلك.

وبعبارة أُخرى : لا دليل على لزوم الأخذ بمثل هذا المقتضي مع الشكّ في المانع منه ، وأنّ أقصى ما يمكن هو الأخذ بكون نفس الملاقاة مقتضية للتنجيس وأنّ الكرّية مانعة ، من جهة ما أفاده شيخنا قدس‌سره (٢) من أنّ تعليق الحكم الترخيصي على عنوان وجودي يوجب التوقّف حتّى يحرز ذلك العنوان الوجودي ، ولعلّ

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٧٦ / الماء الجاري.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٢٩ ـ ٥٣٠.

٢٦٧

نظر الماتن قدس‌سره في ذلك إلى ما ينقل عنه (١) من جواز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية من ناحية المخصّص المنفصل ، بأن يكون لنا عموم ولو كان متصيّداً من الموارد الخاصّة يدلّ على انفعال الماء القليل ، خرج منه ما كان متّصلاً بالمادّة ، وبقي الباقي تحت ذلك العام ، فعند الشكّ في أنّ هذا القليل المفروض كونه ملاقياً للنجاسة هل هو جارٍ متّصل بالمادّة أو هل كان حين ملاقاته للنجاسة متّصلاً بما يكون معه كرّاً ، يكون المرجع هو عموم العام ، فتأمّل. أو يكون نظره في ذلك إلى أصالة عدم اتّصاله بالمادّة ، نظير أصالة عدم القرشية ، ولكن لِمَ لا تجري في مسألة ٧ أصالة عدم كونه كرّاً ، إلاّ أن يقال : إنّها لا تجري في المسألة السابعة لأنّ الكرّية ليست صفة زائدة على الذات ، بخلاف الاتّصال بالمادّة ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ إنّا لو سلّمنا جريان أصالة عدم الكرّية بمفاد ليس التامّة في مسألة ٧ ، فلا ينبغي الريب في عدم جريانها في صورة العلم بحدوث القلّة والملاقاة مع العلم بتاريخ القلّة فيما هو مسبوق بالكرّية ، فلا يتمّ قوله في المسألة ٨ : وإن علم تاريخ القلّة حكم بنجاسته. إذ لا ريب في سقوط أصالة عدم الكرّية ولو بمفاد ليس التامّة في الصورة المزبورة ، لأنّ هذا الماء قد طرأته الكرّية قطعاً ، وانقطع فيه عدم الكرّية ، ولو ذلك العدم التامّ الذي هو قبل وجوده بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

والخلاصة : هي أنّ حكمه بالنجاسة في مسألة ٢ بقوله : إذا شكّ في أنّ له مادّة أم لا وكان قليلاً ينجس بالملاقاة (٢) إن كان هو قاعدة المقتضي التي يقول بها الشيخ وشيخنا قدس‌سرهما فلِمَ لا يجريها في مسألة ٧ وذلك قوله : وإن كان الأقوى عدم

__________________

(١) راجع العروة الوثقى ٦ : ٣٤ ـ ٣٥ / مسألة ١٥ من كتاب الربا ، حيث ذكر قدس‌سره جوازالتمسّك بالعموم.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٨٤ / الماء الراكد.

٢٦٨

تنجّسه بالملاقاة (١) وهكذا الحال فيما لو كان المدرك هو التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية. وإن كان المدرك هو الركون إلى أصالة عدم الاتّصال بالمادّة بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، لأنّ هذا الماء قبل وجوده لم يكن متّصلاً بالمادّة ، فما هو الوجه في حكمه بالنجاسة في الصورة المزبورة من مسألة ٨ ، حيث إنّ هذا الماء وإن كان قبل وجوده لم يكن متّصفاً بالكرّية ، إلاّ أنّه بعد وجوده قد اتّصف بها ، وإنّما الشكّ في الملاقاة وأنّها هل كانت قبل نقصانه عن الكرّية أو بعد نقصانه ، فلم يبق إلاّدعوى قاعدة [ المقتضي ] الصغيرة التي حاصلها أنّه بعد إحراز قلّة الماء وملاقاته للنجاسة يحكم بنجاسته إلاّ أن يحرز اتّصاله بالمادّة ، وهذه القاعدة وإن لم يكن لها مورد في المسألة السابعة ، إلاّ أنّ الصورة المذكورة في المسألة الثانية من مواردها ، حيث قد أحرزنا فيها قلّة الماء فعلاً وأنّه قد لاقته النجاسة ، غايته أنّا نحتمل أنّه عند ملاقاتها له كان كرّاً ، هذا.

ولكن يمكن القول بأنّا لو سلّمنا قاعدة المقتضي الصغيرة فإنّما نسلّم جريانها في خصوص المسألة ٢ ، أمّا جريانها في الصورة المزبورة ففيه تأمّل ، لأنّا وإن أحرزنا أنّ هذا الماء قليل فعلاً ، إلاّ أنّا لم نحرز ملاقاته للنجاسة ، إذ لعلّ الملاقاة كانت حينما [ كان ] كرّاً ، فلم نحرز حينئذ ملاقاة النجاسة للقليل مع الشكّ في اعتصامه كي يكون مورداً لقاعدة المقتضي الصغيرة.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا الماء القليل الموجود قد لاقته النجاسة ، غايته أنّا نحتمل أنّها إنّما لاقته حينما كان منضمّاً إلى تلك المقادير التي أخذت منه التي كان انضمامها إليه عاصماً له ، فلا يكون حاله إلاّكحال القليل الذي كان متّصلاً بالمادّة ثمّ انفصل عنها ولاقته النجاسة ، وشككنا في المقدّم من الانفصال والملاقاة ، في

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٧٦ / الماء الجاري.

٢٦٩

كون المرجع عند العلم بتاريخ الانفصال والشكّ في تاريخ الملاقاة هو هذه القاعدة الصغيرة ، وفيه تأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّه قدس‌سره لم يتعرّض في المسألة الثانية لشبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، بل لم أعثر له على ذكر هذه الشبهة في أغلب ما عثرت عليه ممّا حرّره من مسائل الحادثين ، حتّى في القضاء الملحق بالعروة من مسائل النزاع في تقدّم إسلام الوارث على موت المورّث أو موت المتوارثين ، وغير ذلك ممّا حرّره هناك من مسائل الشكّ في التقدّم والتأخّر ، ولم أجد في كلماته قدس‌سره ذكراً لشبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين إلاّفيما عرفت (١) من مسائل الحدث والوضوء ، فما هو السرّ في ذلك.

ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على شبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، ينبغي القول بسقوط الاستصحاب فيما هو مجهول التاريخ في تمام الصور الست ، أعني صور الكرّ المسبوق بالقلّة ، وصور القليل المسبوق بالكرّية ، الذي حصل العلم فيه بالملاقاة والتبدّل من القلّة إلى الكرّية أو من الكرّية إلى القلّة ، وبعد سقوط الاستصحاب في تمام الصور المذكورة نبقى نحن والملاقاة وعدم إحراز الكرّية حينها ، فعلى القول بكون الملاقاة مقتضية [ للانفعال ] ينبغي الحكم بالنجاسة في جميع هذه الصور ، وعلى القول بكون الملاقاة شرطاً في الانفعال كما هو مسلك السيّد قدس‌سره في مسألة ٧ ينبغي الحكم بالطهارة في جميعها ، فلا وجه لحكمه بالنجاسة فيما لو كانت الملاقاة معلومة التاريخ والكرّية مجهولة التاريخ ، لأنّه بناءً على هذه الشبهة ينبغي أن لا يكون استصحاب عدم الكرّية إلى حين الملاقاة جارياً ، لكونه مجهول التاريخ ، وإن كان المقابل للملاقاة وهو حدوث الكرّية

__________________

(١) في الصفحة : ٢١٢.

٢٧٠

معلوم التاريخ ، فهما في ذلك نظير ما لو كان الوضوء معلوم التاريخ ، وكان الحدث مجهول التاريخ ، الذي حكم فيه (١) بعدم جريان الاستصحاب في الحدث لكونه مجهول التاريخ.

وكما يرد عليه الإشكال في الصورة المزبورة ـ أعني ما لو كانت الملاقاة معلومة التاريخ والكرّية مجهولة التاريخ ـ فكذلك يرد عليه الإشكال فيما حكم فيه أيضاً بالنجاسة فيما لو كان مسبوقاً بالكرّية وكانت القلّة معلومة التاريخ والملاقاة مجهولة التاريخ (٢) ، اللهمّ إلاّ أن يجاب عنه في هذه الصورة بما عرفت من قاعدة المقتضي الصغيرة ونحوها ، هذا.

ولكن قد عرفت أنّه في جميع ما عثرت عليه من نظره في هذه المسائل هو عدم التعرّض لشبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين في جميع ما عثرت عليه ممّا تعرّض له من مسائل الشكّ في التقدّم والتأخّر في أُخريات قضائه وفي أصل العروة ، فلاحظ.

ثمّ يبقى الإشكال فيما أفاده في العروة في المسألة ٨ من أنّه لو كان مسبوقاً بالقلّة وطرأته الكرّية والملاقاة وكانا مجهولي التاريخ يكون حكمه الطهارة.

وفيه : ما عرفت من أنّ مقتضى ذلك هو الحكم بالنجاسة لجريان استصحاب القلّة إلى حين الملاقاة القاضي بالنجاسة كما لو كانت الملاقاة معلومة التاريخ ، ولا تجري أصالة عدم الملاقاة إلى ما بعد الكرّية كي تعارضه ، لعدم الأثر عليه إلاّبالاثبات ، وملازمة عدم الملاقاة إلى ما بعد الكرّية لحدوث الملاقاة بعد

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٤٤٥ ـ ٤٤٦ / م ٣٧ من شرائطالوضوء.

(٢) كما تقدّم في الصفحة : ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

٢٧١

الكرّية ، هذا.

وقد عرفت توجيه ما أفتى به في الصورة المزبورة بالرجوع إلى أصالة عدم الملاقاة في حال القلّة ، النافي لموضوع النجاسة وهو الملاقاة في حال القلّة ، فيتعارضان ويكون المرجع بعد تعارضهما هو قاعدة الطهارة.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ موضوع النجاسة هو الملاقاة المقيّدة بكونها في حال القلّة ، والمنفي بالأصل هو نفس الملاقاة ، غايته أنّ نفيها يكون في حال القلّة ، والمطلوب إنّما هو نفي الملاقاة التي تكون في حال القلّة ، أعني بذلك أنّ موضوع النجاسة هو الملاقاة المقيّدة بكونها في حال القلّة ، وليس لنا أصل ينفي هذا المقيّد ، وأمّا كون الملاقاة منفية في حال القلّة فلا يكون نافعاً بنفسه إلاّباعتبار لازمه ، لأنّ كون الملاقاة منفية في حال القلّة ملازم لكون الملاقاة المقيّدة بكونها في حال القلّة منفية.

والحاصل : أنّ القلّة إن أخذناها ظرفاً للملاقاة فلا أصل ينفي الملاقاة المظروفة للقلّة ، وإن أخذناها ظرفاً للنفي بأن نفينا في حال القلّة الملاقاة ، لم يكن ذلك نفياً لموضوع النجاسة الذي هو الملاقاة في حال القلّة إلاّبلازمه ، فتأمّل.

تكميل : لا يخفى أنّ الماء المشكوك الكرّية بناءً على أنّ حكمه حكم القليل إلى أن تحرز كرّيته لو غسل فيه ثوب نجس يحكم بنجاستهما ، أمّا بناءً على أنّه لا يجري عليه حكم القليل ، فلو غسل فيه ثوب نجس جرى في الثوب استصحاب النجاسة وفي الماء استصحاب الطهارة.

وربما يقال : إنّه يحكم بطهارتهما. فإن كان مدرك ذلك هو تعارض الاستصحابين من جهة أنّهما وإن لم تترتّب المخالفة القطعية على إجرائهما معاً ، إلاّ أنّهما لمّا كانا إحرازيين لم يمكن إجراؤهما مع العلم الاجمالي بكون أحدهما

٢٧٢

مخالفاً للواقع ، لأنّهما في الواقع إمّا طاهران معاً أو أنّهما نجسان معاً ، فكون أحدهما طاهراً والآخر نجساً ممّا يعلم إجمالاً بأنّه خلاف الواقع ، فجوابه أنّ ذلك ـ أعني سقوط الأُصول الاحرازية في مثل ذلك ـ إنّما يكون فيما لو كانا على خلاف ما هو القدر المشترك بينهما ، بحيث إنّهما يرجعان إلى جامع بينهما كما حقّق في محلّه (١) من الفرق بين استصحاب نجاسة كلّ من الاناءين المعلوم عروض الطهارة على أحدهما وبين أمثال هذه الفروع من موارد التلازم.

وإن كان المدرك في ذلك هو حكومة استصحاب طهارة الماء على استصحاب نجاسة الثوب المغسول فيه ، ففيه ـ مضافاً إلى أنّ مجرّد طهارة الماء لا يكفي في طهارة المغسول فيه ما لم يكن محرز الكرّية ، فلا يكون ذلك إلاّمن قبيل المائع الذي يشكّ في كونه ماء مطلقاً أو مضافاً وقد غسل فيه النجس ، فالحكم ببقاء طهارة ذلك المائع لا يتولّد منه الحكم بطهارة ما غسل فيه إلاّمع إحراز كونه مطلقاً ـ أنّ ذلك إنّما يكون فيما إذا لم يكن الشكّ في طهارة الماء ناشئاً عن غسل ذلك النجس فيه ، أمّا لو كان الشكّ في طهارته ناشئاً عن غسله فيه ، فهذه الحكومة لا مورد لها ، لأنّ هذه الطهارة متولّدة عن الشكّ في بقائها ، الناشئ عن غسل ذلك الثوب فيه ، فلا يعقل أن تكون مزيلة للشكّ في بقاء نجاسة الثوب التي هي متأخّرة رتبة عن الشكّ في بقائها.

وبعبارة أوضح : أنّ زوال نجاسة هذا الثوب متوقّفة على غسله في ماء محكوم عليه في حدّ نفسه بالطهارة مع قطع النظر عن غسله فيه ، وهذه الطهارة للماء فيما نحن فيه ناشئة عن الشكّ الناشئ عن غسله فيه. وإن شئت فقل : إنّ الطهارة للماء التي نريد أن نجعلها مزيلة لنجاسة الثوب إن كانت هي الطهارة

__________________

(١) راجع المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب ، الصفحة : ٥٤٣ وما بعدها.

٢٧٣

الوجدانية اللاحقة له قبل غسله فيه ، فتلك لا نعلم ببقائها عند الغسل ، لاحتمال زوالها بمجرّد الغسل ، وإلاّ لم نكن محتاجين إلى استصحابها ، وإن كانت هي الطهارة الاستصحابية ، ففيه أنّ ذلك عبارة عن الحكم بأن تلك الطهارة الواقعية السابقة باقية إلى ما بعد الغسل ، وحينئذ يكون الحكم بها متأخّراً عن وقوع الغسل ، فكيف يعقل أن تكون هذه الطهارة المتأخّرة منقّحة لكون الثوب قد غسل بماء طاهر.

تنبيه : قوله : هو أنّه يعتبر في العاصمية وعدم تأثير الملاقاة سبق الكرّية ولو آناً ما الخ (١).

ظاهره اعتبار السبق الزماني ، وقد حقّقنا عن شيخنا قدس‌سره في حواشي آخر الكتاب ص ٢٦٠ (٢) أنّ المدار على التقدّم الرتبي ، فراجع.

استطراد (٣) : ممّا يمكن أن يكون من قبيل هذا المبحث ـ أعني العلم بتحقّق الحادثين مع الشكّ في التقدّم والتأخّر ـ ما لو علم بتحقّق الذبح على هذا الحيوان وموته والشكّ في أنّ موته كان قبل الذبح ليكون ميتة ، أو كان بالذبح ليكون مذكّى ، فيقال : إنّ استصحاب حياته إلى حين الذبح الذي يترتّب عليه التذكية معارض باستصحاب عدم الذبح إلى ما بعد الموت الذي يترتّب عليه كونه ميتة ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٢٨.

(٢) وهي الحاشية الآتية في المجلّد الحادي عشر ، الصفحة : ٥٧٥ وما بعدها.

(٣) هذا الاستطراد ذكرناه في التعليق على الجزء الأوّل في حاشية ص ١٣٩ فراجعه هناك فإنّه أوضح ممّا هنا [ منه قدس‌سره. راجع الحاشية المذكورة في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة ٢٠٣ وما بعدها و « تكميل أو استطراد » المذكور ضمنها في الصفحة : ٢١٣ ].

٢٧٤

فبعد التعارض يكون المرجع هو قاعدة الطهارة وحلّ الأكل. وكذلك الحال في السمك الذي تحقّق فيه الموت والاخراج من الماء ، لو شكّ في أنّ موته كان قبل الإخراج فيكون ميتة ، أو أنّه كان بعد الاخراج فيكون مذكّى.

وقد يقال : إنّ هذا التعارض مبني على كون التذكية معنى مركّباً من الذبح والحياة ، أمّا بناءً على كونها أمراً بسيطاً حاصلاً من اجتماع الشرائط وهو الذبح مع الحياة ، فلا يجري فيه إلاّ استصحاب عدم التذكية ، ولا يجري فيه استصحاب الحياة إلى حين طروّ التذكية لكونه مثبتاً ، وفيه تأمّل.

وينبغي مراجعة مباحث التذكية ، وأنّ أصالة عدم التذكية هل يشمل مثل ما نحن فيه ممّا علم فيه الذبح والموت وشكّ في المقدّم منهما ، أو أنّه مختصّ بخصوص ما لو شكّ في أصل الذبح على نحو الشبهة البدوية.

وقد يقال أيضاً : إنّ التذكية هي أن يكون زهوق روح الحيوان بالذبح على وجه يكون موته مستنداً إليها ، فلا ينفع فيه استصحاب الحياة إلى حين الذبح ، ولعلّ في كلمات الجواهر في المسألة الثالثة من خاتمة الذباحة إيماءً إلى ذلك فراجع (١) ، وكذلك كلماتهم في اعتبار استقرار الحياة. بل في رواية حمران ، قال : « سألته عن الذبح ، فقال عليه‌السلام : إن تردى في جب أو وهدة من الأرض فلا تأكل ولا تطعم ، فإنّك لا تدري التردّي قتله أو الذبح » (٢) وإن قال صاحب الجواهر : لم نجد العامل به ممّن يعتدّ بقوله (٣) ، ومراده بذلك ما تضمّنه صحيح زرارة : « وإن ذبحت فأجدت الذبح فوقعت في النار أو في الماء أو من فوق بيتك إذا كنت قد أجدت

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٦ : ١٩٠ ـ ١٩١.

(٢) وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٦ / أبواب الذبائح ب ١٣ ح ٢ ( مع اختلاف يسير ).

(٣) جواهر الكلام ٣٦ : ١٥٠.

٢٧٥

الذبح فكل » (١) فإن عدم العمل به في المورد المذكور ـ وهو ما لو تأخّر عن الذبح ـ سبب آخر يحتمل استناد الموت إليه ، وذلك لا ينافي ما ربما يستفاد منه أنّه لو وقع عليه الذبح ولم يعلم أنّه كان ميتاً حين الذبح يكون ميتة ، فتأمّل.

لكن ذلك ـ أعني دعوى اعتبار كون زهوق الروح مستنداً إلى الذبح ـ لا يتأتّى في تذكية [ السمك ] التي هي مجرّد أخذه من الماء حيّاً ، على وجه التزموا بجواز أكله حيّاً وبجواز أخذ القطعة منه بعد الأخذ وإن عاد إلى الماء ومات فيه ، وحينئذ يمكن الاعتماد على استصحاب حياته إلى حين الأخذ ، وبذلك ترتفع الشبهة في دهن السمك المجلوب من أُورپا ، ولا يجري استصحاب عدم أخذه إلى ما بعد الموت ، لكونه لا أثر له إلاّبلازمه وهو كون الأخذ بعد الموت.

ولكن صاحب الجواهر قدس‌سره منع من الركون إلى استصحاب الحياة إلى حين الأخذ ، فراجعه في مسألة السمكة في جوف سمكة أُخرى الذي هو مورد رواية السكوني (٢) والمرسلة (٣) على الحلّية ، فقد قال في الشرائع : وربما كانت الرواية أرجح استصحاباً لحال الحياة الخ (٤). وقال صاحب الجواهر : إنّه من الأُصول المثبتة المعارضة باستصحاب الحرمة ، وبأصالة عدم حصول التذكية المتوقّفة على شرط لا ينقّحه الأصل الخ (٥).

ولم أتوفّق لمعرفة الوجه في معارضة هذا الأصل باستصحاب الحرمة مع كونه موضوعياً منقّحاً للتذكية الرافعة للحرمة. مضافاً إلى أنّ هذه الحرمة غير متحقّقة ، إلاّ أن يدّعى حرمة أكل السمك وهو في الماء قبل أخذه منه ، ولا يخفى

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٦ / أبواب الذبائح ب ١٣ ح ١.

(٢ و ٣) وسائل الشيعة ٢٤ : ٨٦ / أبواب الذبائح ب ٣٦ ح ٢ ، ١.

(٤ و ٥) جواهر الكلام ٣٦ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ، شرائع الإسلام ٣ : ١٩٨.

٢٧٦

ما فيه.

وأمّا المعارضة بأصالة عدم التذكية الخ ، ففيه أنّ التذكية ليس إلاّ الأخذ حيّاً ، وأصالة بقاء الحياة إلى حين الأخذ منقّح له ، وليس في البين شرط غير الحياة حين الأخذ. نعم ربما كان ما ورد من علامة الذكي من السمك شاهداً على عدم الاعتناء بهذا الأصل ، فراجع هذه المباحث في كتاب الأطعمة. ويمكن الجواب عنه بأنّ جعل الأمارة المذكورة لا ينافي كون الأصل هو ما ذكرناه ، كما أنّ جعل الأمارة في اللحم على النار لا ينافي كون الأصل هو عدم التذكية.

ثمّ إنّ مقتضى الأصل المذكور جواز أخذ السمكة من المجوسي ، لكن المصنّف في صيد السمك قال : لا يحلّ أكل ما يوجد في يده حتّى يعلم ولو شرعاً أنّه مات بعد إخراجه من الماء (١).

ويمكن أن يقال : إنّ تقييد صيد المجوسي بالنظر إليه مشعر بعدم العناية بهذا الأصل ، فراجع مبحث ذكاة السمك ، كما تضمّنه قوله عليه‌السلام : « ما كنت لآكله حتّى أنظر إليه » (٢) وقوله : « فإن اعطوكه حيّاً فكله » (٣) ، إلاّ أن يحمل هذا الحكم على الاستحباب ونحو من التنزيه ، فتأمّل. أو يقال : إنّ يد الكافر أمارة على عدم التذكية وإن كان مقتضى الأصل هو التذكية.

ولعلّ دعوى كون هذا الأصل مثبتاً مبني على عدم الاكتفاء في تذكية السمك بالأخذ من الماء ، بل لابدّ فيه من اعتبار موته خارج الماء ، وذلك لا يثبت باستصحاب حياته إلى حين الأخذ.

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٦ : ١٦٨.

(٢) وسائل الشيعة ٢٤ : ٧٥ / أبواب الذبائح ب ٣٢ ح ١ ، ٢.

(٣) وسائل الشيعة ٢٤ : ٧٦ / أبواب الذبائح ب ٣٢ ح ٣ ( نقل بالمضمون ).

٢٧٧

وفيه أوّلاً : أنّه مناف لما تقدّم من جواز أكله حيّاً ، وجواز أكل ما قطع منه خارج الماء في حال حياته وإن عاد إلى الماء.

ويمكن الجواب عن النقض الأوّل بعدم الالتزام بحلّ أكله حيّاً. وعن النقض الثاني بأنّه يصدق على القطعة المبانة من الحي أنّها ميتة خارج الماء ، فالعمدة حينئذ هو الاعتراض :

ثانياً : بأنّه لا دليل على اعتبار القيد المزبور ، وإنّما أقصى ما عندنا في قبال الاكتفاء بالأخذ حيّاً هو اعتبار عدم رجوعه إلى الماء وموته فيه ، كما يدلّ عليه قوله : « مات فيما فيه حياته » (١) فيكون القيد المعتبر في الأخذ هو عدم موته في الماء ، وهذا القيد حاصل باستصحاب حياته وعدم موته في الماء إلى حين الأخذ منه ، حتّى أنّه لو أخذ منه ثمّ عاد إليه واحتمل أنّه مات في الماء ، أو أنّه انحسر عنه الماء في عوده إليه ومات في خارجه من ذات نفسه من دون أخذ ثمّ طرأه الأخذ ، لكان استصحاب حياته إلى حين الأخذ الثاني كافياً في حصول القيد المزبور ـ أعني عدم موته في الماء أو في خارجه إلى حين الأخذ الثاني ـ من دون فرق في ذلك بين القول بأنّ التذكية هي نفس الأخذ حيّاً وعدم موته في الماء أو في خارجه قبل الأخذ ، أو نقول : إنّ التذكية هي المسبّب عن ذلك الأخذ المذكور. أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّ الأصل وإن كان هو عدم المسبّب المذكور ، إلاّ أنّ استصحاب حياته إلى حين الأخذ يكون حاكماً على أصالة عدم ذلك المسبّب ، لكونه بالنسبة إلى أصالة عدم المسبّب من قبيل الأصل الموضوعي المنقّح لحصول السبب الذي ينشأ عنه ذلك المسبّب.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٤ : ٧٩ / أبواب الذبائح ب ٣٣ ح ٢ ، ٦ ( مع اختلاف يسير ).

٢٧٨

ومن ذلك تعرف أنّه لا مانع من أكل دهن السمك المجلوب من أُوروپا ما دام منشأ الإشكال فيه هو احتمال عدم التذكية مع إحراز كونه من المأكول ، إلاّ أن نقول : إنّ يد الكافر أمارة على عدم التذكية.

نعم ، لو كان في البين احتمال أنّه مأخوذ ممّا لا يحلّ أكله كالجري ، فإن كانت التذكية بمعنى السبب ، كفى في حلّ أكله الأصل المزبور أعني بقاء حياته إلى حين الأخذ من حيث الشكّ في التذكية ، ومن حيث الشكّ في كونه مأخوذاً ممّا لا يحلّ أكله كالجري يكون المرجع هو قاعدة الحلّ ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ أصالة بقاء الحياة إلى حين الأخذ لا تكفي في تحقّق التذكية بمعنى السبب ، بل لو شوهد أخذه حيّاً لم يكن ذلك كافياً في الحكم بتذكيته ، لعدم إحراز الشرط الآخر وهو القابلية ، وحينئذ لا تكون التذكية محرزة ولا عدمها محرزاً ، ويكون المرجع هو قاعدة الحل.

نعم ، لو قلنا إنّ التذكية عبارة عن المسبّب ، وهي موضوع حل الأكل لو أخذ حيّاً ، يكون المرجع هو أصالة عدمها حتّى لو أحرز بالمشاهدة أخذه حياً ، فضلاً عن استصحاب الحياة إلى حين الأخذ ، وحينئذ لا تكون قاعدة الحلّ جارية بعد فرض جريان أصالة عدم تحقّق ذلك المسبّب البسيط الذي يكون موضوعاً للحلّية ، ويكون حاله حال ما لو شكّ في قابلية الحيوان للتذكية الذبحية مع تحقّق الذبح بناءً على كون التذكية هي ذلك المعنى البسيط المسبّب عن الذبح ، في أنّ الجاري فيه أصالة عدم التذكية ، ولا يجري فيه قاعدة الحل إلاّعلى تقدير القول بأنّ التذكية اسم للسبب ، وحينئذ لا يكون وجودها ولا عدمها محرزاً ويكون المرجع هو قاعدة الحل.

٢٧٩

قوله : أمّا في صورة الجهل بتاريخهما ، فلأنّ أصالة عدم كلّ منهما في زمان الآخر لا تقتضي سبق الكرّية ، وكذا إذا علم بتاريخ الملاقاة ، فإنّ أصالة عدم الكرّية إلى زمان الملاقاة تقتضي عدم تحقّق موضوع الطهارة (١).

لا يخفى أنّه في صورة العلم بتاريخ الملاقاة والجهل بتاريخ الكرّية ، يكون استصحاب عدم الكرّية الذي هو عبارة عن استصحاب القلّة إلى ما بعد الملاقاة قاضياً بوقوع الملاقاة حال القلّة ، ويكون من قبيل إحراز أحد جزأي موضوع النجاسة وهو الملاقاة بالوجدان ، والآخر وهو كون الملاقي قليلاً بالأصل. وحينئذ يكون الماء محكوماً بالنجاسة من جهة الأصل المذكور ، لا من جهة عدم تحقّق موضوع الطهارة والرجوع إلى قاعدة المقتضي والمانع ، بل من جهة إحراز موضوع النجاسة وهو الملاقاة وكون الماء الملاقي للنجس قليلاً ، وليس ذلك من قبيل استصحاب الحياة إلى حين وقوع الضرب الذي هو أصل مثبت بالنسبة إلى تحقّق القتل ، فإنّ نسبة النجاسة إلى الماء بالملاقاة وإن كانت كنسبة المقتولية إلى الحيوان بوقوع الضرب عليه ، إلاّ أنّ الفرق بينهما هو أنّ النجاسة حكم شرعي موضوعها الملاقاة للماء القليل وقد تحقّق ، بخلاف القتل فإنّه لازم عادي لا يترتّب على وقوع الضرب على الحيوان الحي إلاّبالأصل المثبت ، فتأمّل.

ومن ذلك يظهر لك الحال في صورة الجهل بتاريخهما ، فإنّه بعد أن لم يجر فيها استصحاب عدم الملاقاة إلى ما بعد الكرّية ، ينفرد فيها استصحاب القلّة وعدم الكرّية إلى ما بعد الملاقاة ، وقد عرفت أنّه حاكم بالتنجيس لكونه منقّحاً لموضوعه.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٢٩.

٢٨٠