أصول الفقه - ج ١٠

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٠

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-83-6
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٩٤

الواقعي الذي حدث فيه الإسلام.

وإن شئت قلت : إنّ التردّد في زمان الإسلام بين كونه هو الساعة الأُولى وكونه هو الساعة الثانية في حدّ نفسه لا يضرّ في جرّ عدم الموت إليه ، ولا يكون بينه وبين زمان اليقين بعدم الموت فاصل زماني ، لأنّ وقوع الإسلام في الساعة الثانية في حدّ نفسه لا يوجب كون الساعة الأُولى فاصلة ، لإمكان كون الساعة الأُولى هي زمان شكّ أيضاً بالنسبة إلى حدوث الموت ، كما إذا فرضنا أنّ الموت لم يكن معلوم الحدوث أصلاً وأردنا أن نستصحب عدمه إلى ما بعد الإسلام ، وكان زمان الإسلام مردّداً بين الساعة الأُولى والثانية ، وإنّما جاءت الشبهة من ناحية أنّ تحقّق الإسلام في الساعة الثانية يوجب كون الموت سابقاً عليه وكونه واقعاً في الساعة الأُولى ، وبهذه الواسطة لا يكون زمان الشكّ في الموت الذي هو زمان تحقّق الإسلام متّصلاً بزمان اليقين بعدم الموت ، وحينئذ فتنتهي المسألة إلى أنّا نحتمل أنّ الموت الذي تعلّق به يقيننا فعلاً كان سابقاً على الإسلام ، فيكون يقيننا بعدم الموت منتقضاً في الواقع بحدوث الموت المفروض كونه متيقّناً لنا فعلاً ، وهذا جارٍ في كلّ مستصحب حصل اليقين بوجوده وشكّ في مبدأ حدوثه.

وحاصل الشبهة : أنّا لا يمكننا أن نجرّ عدم الموت ممّا قبل الساعة الأُولى إلى ما بعد زمان الإسلام ، لأنّا نحتمل أنّ الإسلام كان هو آخر الحادثين ، وعلى تقدير كونه هو الحادث الأخير يكون الموت واقعاً فيما قبله من الزمان ، ويكون ذلك الزمان فاصلاً بين زمان اليقين بعدم الموت وبين زمان الشكّ فيه.

ولا يخفى ما فيه ، لأنّا فعلاً بالوجدان شاكّون في بقاء عدم الموت من أوّل الآن الأوّل إلى الآن الواقعي الذي وقع فيه الإسلام ، لأنّا نحتمل تأخّر الموت عن الإسلام ، فنحن الآن إذا نظرنا إلى كلّ آن من تلك الآنات إلى ما هو الزمان الواقعي

٢٠١

للإسلام ، نكون شاكّين في وقوع الموت فيه ، ولا يضرّ في ذلك احتمال كون الإسلام هو آخر الحادثين الملازم لكون الموت سابقاً عليه وواقعاً في الآنات التي هي قبله ، لأنّ ذلك الشكّ والاحتمال إنّما هو في ناحية نفس الإسلام باعتبار جريان الاستصحاب فيه بعين التقريب الذي أجريناه في عدم الموت.

وبالجملة : لو فرضنا أنّ لنا أصلاً تعبّدياً أو عقلائياً مؤدّاه هو البناء على عدم التقدّم ، وشككنا في تقدّم كلّ من الموت والإسلام على طرفه ، وأردنا أن نقول الأصل عدم تقدّم الموت على الإسلام ، فإنّ هذا الأصل لا يمنع من جريانه احتمال كون الإسلام متأخّراً عنه ، لأنّ هذا الاحتمال إنّما هو موجب لجريان الأصل المذكور في ناحيته ، لا أنّه يكون موجباً لعدم جريانه في طرفه الذي هو الموت.

وهكذا الحال فيما نحن فيه ، فإنّا لمّا احتملنا تأخّر الموت عن الإسلام ، كان كلّ واحد من الآنات السابقة على الإسلام ممّا يشكّ فيه في تحقّق الموت ، وتلك الآنات متّصلة بزمان اليقين بعدم الموت ، وحينئذ نحكم بجرّ ذلك المتيقّن إلى زمان الإسلام ، ونحكم ببقاء عدم الموت إلى زمان الإسلام ، وبذلك يتحقّق عندنا ما هو موضوع الإرث وهو عدم الموت في زمان الإسلام ، أمّا كون الإسلام ممّا يحتمل أن يكون هو الحادث الأخير ، بحيث يكون الموت سابقاً عليه ، ويكون موجباً لاحتمال انتقاض اليقين بعدم الموت في تلك الآنات ، فذلك لا يضرّ بالاتّصال الوجداني الذي كان بين شكّنا ويقيننا ، لأنّا في هذه المرحلة لا ننظر إلاّ إلى نفس عدم الموت إلى زمان الإسلام على ما هو عليه ، وأنّ ذلك الاحتمال إنّما يكون مولّداً لنفس هذه العملية في استصحاب عدم الإسلام إلى ما بعد الموت.

نعم ، لو لم يكن لنا إلاّ استصحاب واحد عدمي نجريه دفعة في الآنين

٢٠٢

اللذين علمنا بوقوع أحد الحادثين في أحدهما والآخر في الآخر ، لتمّ ما ذكر من الشبهة ، لكن فرض الكلام أنّ لكلّ حادث من هذين الحادثين أصلاً برأسه.

وتقريب الشبهة بنحو أوضح وأخصر : هو أن نفرض لنا ثلاثة آنات لا فاصل بينها ، ففي الآن الأوّل كان اليقين بعدم كلّ منهما ، وفي الآن الثاني كان قد تحقّق أحد الحادثين ، وفي الآن الثالث بلا فاصل تحقّق الحادث الآخر ، ونحن إذا أردنا أن نجرّ عدم الموت إلى الآن الواقعي الذي وقع فيه الإسلام ، نحتمل أنّه قد كان في الآن الثالث ، فيكون الآن الثاني فاصلاً بين آن اليقين بعدم الموت وآن الشكّ فيه.

وفيه أوّلاً : أنّ الفصل بالآن الثاني لا يكون مضرّاً إلاّمن جهة الملازمة بين تأخّر الإسلام إلى الآن الثالث وبين وقوع الموت في الآن الثاني ، فلا يكون المانع في الحقيقة هو مجرّد كون الآن الثاني فاصلاً حتّى لو كان الآن الثاني ممّا يشكّ في وقوع الموت فيه ، بل المانع في الحقيقة هو احتمال كون الموت المتيقّن الوقوع واقعاً في الآن الثاني ، ومن الواضح أنّ هذا جارٍ في كلّ مستصحب علم بوقوعه وشكّ في مبدأ حدوثه ، وحينئذ يتأتّى هذا الإشكال فيما لو أُضيف الحادث وهو الموت إلى نفس الزمان لا إلى الحادث الآخر ، وقد اعترف قدس‌سره بعدم جريان الإشكال فيه.

وثانياً : بالحل ، وهو أن يقال : إنّ ذلك الاحتمال لا يمنع من الاستصحاب بالنظر إلى نفس عدم الموت وجرّه من الآن الأوّل إلى الآن الواقعي الذي وقع فيه الإسلام ، لأنّا فعلاً شاكّون في تحقّق الموت من الآن الأوّل إلى ذلك الآن الواقعي الذي وقع فيه الإسلام ، وبذلك نحرز عدم الموت في الآن الذي وقع فيه الإسلام ، لأنّا في حال استصحاب عدم الموت إلى آن الإسلام لا ننظر إلى الإسلام مفروض

٢٠٣

الوقوع في الآن الثاني تارةً وفي الآن الثالث أُخرى ، لأنّ النظر إليه بهذين الحالين يوجب خروج المورد عن الشكّ في تحقّق الموت ، بل يكون الموت على الأوّل مقطوع العدم وعلى الثاني مقطوع الوجود ، بل لابدّ لنا في حال إجرائنا الاستصحاب في ناحية عدم الموت في زمان الإسلام من النظر إلى نفس الزمان الواقعي الذي وقع فيه الإسلام على ما هو عليه من التردّد ، غير ناظرين إلى كلّ واحد من شقّي الترديد ، لأنّ هذا الترديد هو الذي يكون مولّداً لنا للشكّ في تحقّق الموت في زمانه الواقعي ، ومن الواضح أنّه لا معنى لأخذ كلّ من طرفي الشكّ في مجرى الاستصحاب.

ومن تقرير الشبهة وجوابها في هذه الصورة يتّضح تقريرها وجوابها فيما لو احتملنا المقارنة بينهما ، فإنّه أيضاً تتأتّى فيه الشبهة المذكورة ، بأن يقال : إنّا نحتمل كون الإسلام متأخّراً عن الموت ، ومع هذا الاحتمال لا يكون من قبيل إحراز الاتّصال ، ويقال أيضاً في جوابها : إنّ هذا الاحتمال لا يمنع من جريان الاستصحاب بعد فرض الشكّ في تحقّق الموت في الآن الذي وقع فيه الإسلام على ما هو عليه من التردّد بين الآنين.

وربما يقرّر الإشكال في المقام بنحو آخر غير شبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، ومرجع ذلك إلى دعوى أنّ العرف لا يعدّ الشكّ في المقام من قبيل الشكّ في بقاء العدم ، للعلم بانتقاض العدم في كلّ من الموت والإسلام ، بل لا يعدّ العرف هذا الشكّ إلاّشكّاً في التقدّم والتأخّر.

وفيه : أنّ العرف إنّما لا يرونه شكّاً في البقاء من جهة لحاظ حال يوم الاثنين الذي يحصل القطع فيه بانتقاض كلّ من العدمين ، ولكنّهم لو نظروا إلى الموت بالقياس إلى زمان الإسلام لكان من قبيل الشكّ في البقاء [ وليس مثل ] ما نحن فيه

٢٠٤

من هذه الجهة إلاّكمثل من كان على وضوء من الصبح ثمّ صلّى ثمّ أحدث ، ثمّ شكّ في بقاء وضوئه إلى حين صلاته ، فهو في حالته الفعلية قاطع بانتقاض وضوئه ، لكنّه بالقياس إلى حالته عند الصلاة يشكّ في بقاء وضوئه ، فيستصحبه إلى حين الصلاة.

وبالجملة : أنّ المقام في حال يوم الاثنين وإن كان من قبيل الشكّ في التقدّم والتأخّر ، لكنّه بالقياس إلى حاله من يوم السبت إلى اليوم الواقعي للإسلام شاكّ في بقاء عدم الموت ، وحينئذ يكون ذلك الشكّ في التقدّم والتأخّر مانحاً للشكّ في بقاء عدم الموت إلى حين الإسلام. وهكذا من طرف العكس ، فالعرف لو سألناهم عن الحالة من يوم الشكّ إلى اليوم الواقعي الذي وقع فيه الإسلام ، لقالوا : إنّ الشكّ فيه من قبيل الشكّ في البقاء ، ومركز استصحابنا هو هذه الجهة من الشكّ التي هي وليدة الشكّ في التقدّم والتأخّر.

وقد يقرّب هذا الوجه العرفي بنحو آخر لا يخلو عن دقّة ، وذلك بأن يقال : إنّ الشكّ في اقتران الإسلام مثلاً بعدم الموت ، تارةً يكون منشؤه وسببه ممحّضاً في امتداد عدم الموت واستمراره إليه ، بحيث إنّا باستصحاب عدم الموت إليه نكون قد زدنا على ما علمناه من بقاء عدم الموت الذي كان معلوماً لدينا أنّه مستمر إلى يوم السبت ، فباستصحاب العدم المذكور الذي هو عبارة عن استصحاب الحياة إلى الزمان المعيّن الذي وقع فيه الإسلام الذي هو يوم الاثنين مثلاً ، نكون قد زدنا في حياة الأب وعدم موته ، وحكمنا بامتداده زائداً على يوم السبت بيومين.

وأُخرى يكون السبب والمنشأ في شكّنا في اقتران الإسلام بعدم الموت وحياة الأب ممحّضاً في الشكّ في تقدّم الإسلام وقصر خط بقاء عدمه ، بأن علمنا

٢٠٥

بموت الأب في يوم الاثنين مثلاً ، وحصل الشكّ لنا في إسلام الابن وأنّه هل كان متقدّماً على يوم الاثنين فقد قصر خط بقاء عدمه ، أو أنّه لم يقع إلاّبعد يوم الاثنين فقد طال خط بقاء عدمه.

وفي هذه الصورة لا محصّل للحكم ببقاء عدم الموت إلى زمان الإسلام ، إذ لا شكّ لنا في خط عدم الموت وفي امتداده وعدم امتداده ، وإنّما كان الشكّ في قصر خط عدم الإسلام وامتداده المعبّر عنه بأنّه هل وقع قبل زمان الموت الذي هو يوم الاثنين أو بعده ، بخلاف الصورة الأُولى فإنّها هي مورد الاستصحاب لعدم الموت والشكّ في طول خطّه وقصره المعبّر عنه بالشكّ في امتداد عدم الموت ، أمّا لو كان كلّ منهما مجهول التاريخ فقد اجتمع فيه السببان للشكّ المذكور ، والعرف لا يرون المسألة من قبيل الشكّ في الامتداد ، فإنّهم لا يرونها من قبيل الشكّ في امتداد الحياة وعدم الموت ، بل يرونها من قبيل الشكّ في تقدّم الإسلام على الموت وعدم تقدّمه ، هذا ملخّص ما أفاده الأُستاذ العراقي قدس‌سره في درسه على ما حرّرته عنه ، وإن كان نفس ما حرّرته عنه غير خال عن الإجمال ، إلاّ أنّ شرحه وإيضاحه هو هذا الذي حرّرناه الآن.

وأنت بهذا الشرح والإيضاح تقدر على الجواب عنه ، فإنّا عندما يكون الحادثان مجهولي التاريخ نأخذ الإسلام بوجوده الواقعي في ذلك الزمان الواقعي ، وننسب إليه [ عدم ] الموت ونراه هل امتدّ إلى ذلك الزمان الواقعي الذي وقع فيه الإسلام ، بحيث إنّ خطّ الحياة وعدم الموت قد طال واستمرّ إلى ذلك الزمان الواقعي للإسلام ، أو أنّه قد قصر عنه ولم يستمرّ إليه. نعم إنّ نظرنا إلى الإسلام في هذه المرحلة من النسبة ـ أعني نسبة الموت إليه ـ خال من الشكّ في قصر خط عدمه ، وإن كان هو في الواقع كذلك ، إلاّ أنّا في نسبة الموت إليه لا ننظره إلاّ

٢٠٦

مستقرّاً في زمانه الواقعي ثابتاً فيه ، ويتوجّه شكّنا في هذه المرحلة إلى محض قصر خط الحياة وطوله الذي هو عبارة أُخرى عن الشكّ في تقدّمه على ذلك الزمان الواقعي للإسلام وتأخّره عنه ، وهكذا الحال في نسبة [ عدم ] الإسلام إلى الموت.

والحاصل : أنّ الشكّ في كلّ ما هو مجهول التاريخ بالقياس إلى طرفه لا يكون إلاّشكّاً في طول خط عدمه وقصره بالقياس إلى الآخر ، وإذا كان كلّ منهما مجهول التاريخ يكون خط [ عدم ] كلّ منهما بالقياس إلى الآخر مردّداً بين الطول والقصر المعبّر عنه بالامتداد والاستمرار إلى وجود الآخر ، ولازم ذلك جريان استصحاب العدم في كلّ منهما إلى الزمان الواقعي للآخر. ولا محصّل لأخذ الشكّ في طول خط أحدهما وقصره ملاحظاً في الآخر ، بل كلّ منهما يكون الشكّ فيه ملحوظاً بحدّ نفسه إلى طرفه.

وإن شئت فقل : إنّ الشكّ في امتداد [ عدم ] كلّ منهما إلى الزمان الذي وقع فيه الآخر هو عبارة أُخرى عن الشكّ في تقدّمه عليه وتأخّره عنه ، فإنّ الشكّ في امتداد الحياة وعدم الموت إلى الزمان الذي وقع فيه الإسلام إنّما يكون ناشئاً أو مقارناً للشكّ في تقدّم الموت على الإسلام ، لا أنّه عين الشكّ في تقدّم الموت ، ونحن في حال استصحابنا الحياة وعدم الموت إلى حين الإسلام لا ننظر إلاّ إلى نفس الحياة وعدم الموت ، وهل هي ممتدّة إلى الإسلام أو غير ممتدّة ، ونظرنا في هذه المرحلة إلى الإسلام ليست نظرة شكّ في امتداد [ عدمه ] أو تقدّمه وتأخّره ، بل لا ننظر إليه إلاّكونه متحقّقاً وموجوداً في زمانه الواقعي لا يزول عنه ولا يحول ، كما أنّ نظرنا في حال استصحاب عدم الإسلام إلى حين الموت يكون على العكس من هذا النظر ، ولا يعقل أن نكون في حال نظرنا إلى الحياة وأنّها هل هي

٢٠٧

ممتدّة إلى الإسلام ناظرين إلى الإسلام ، وأنّه هل هو ممتد العدم إلى حين الموت.

ولا يخفى أنّ هذه الشبهة نقلها عنه السيّد ( سلّمه الله تعالى ) في الحقائق (١) في مسألة الحادثين اللذين يراد استصحاب عدم أحدهما في زمان الآخر ، وقال في ص ٥٠٧ : وهذه الشبهة في غاية المتانة ، وكفى بها مانعاً من جريانه في المقام لإثبات عدم أحد الحادثين إلى زمان حدوث الآخر إجمالاً (٢) ثمّ نقلها عنه في الحادثين المترافعين اللذين يراد استصحاب كلّ منهما مثل الحدث والوضوء ، وضعّفها بقوله : وفيه أنّ مرجع الشكّ في الامتداد إلى احتمال كلّ الخ (٣) ، كما أنّه نقلها عنه في المستمسك في تعاقب مثل الحدث والوضوء ، وضعّفها بقوله : وفيه أنّه لا ريب في حصول الشكّ في امتداد الخ (٤). والظاهر أنّها إنّما تتأتّى في الحادثين المراد استصحاب عدم كلّ منهما ، مثل موت المورّث وإسلام الوارث ، ولا تجري في مثل الوضوء والحدث ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الأُستاذ العراقي قدس‌سره قد تعرّض في مقالته (٥) للشبهة في مثل موت المورّث وإسلام الوارث ، وقرّرها بنحو آخر نقلناه عنه في هذه الأوراق الآتية رقم ١٥ (٦) فلاحظ.

__________________

(١) حقائق الأُصول ٢ : ٥٠٦.

(٢) حقائق الأُصول ٢ : ٥٠٧.

(٣) حقائق الأُصول ٢ : ٥١١.

(٤) مستمسك العروة الوثقى ٢ : ٤٩٩.

(٥) مقالات الأُصول ٢ : ٤٢١ ـ ٤٢٢.

(٦) [ لم نعثر على هذا الذي أشار قدس‌سره إليه ، ولعلّه كان ضمن السقط في عبارته الآتية في الصفحة : ٢٣٢ فلاحظ ].

٢٠٨

قوله : وبين الحادثين اللذين لا يمكن اجتماعهما في الوجود كالحدث والوضوء والنجاسة والطهارة ... الخ (١).

جعل هذين المثالين من توارد جريان أصالة العدم لا يخلو عن تأمّل ، فإنّه وإن أمكن إجراء عدم الوضوء إلى ما بعد الحدث ، وإجراء عدم الحدث إلى ما بعد الوضوء ، إلاّ أنّه سيأتي (٢) إن شاء الله تعالى أنّه لا يترتّب أثر على هذا الأصل إلاّ على الأصل المثبت ، وأنّ الأصل في مثل ذلك ينحصر بالاستصحاب الوجودي لكلّ من الوضوء ـ أعني الطهارة ـ والحدث.

قوله : وذلك في كلّ مقام كان الشكّ في بقاء أحد الحادثين في زمان حدوث الآخر ، لا الشكّ في حدوث أحدهما في زمان حدوث الآخر الخ. وكذا قوله في آخر هذه المسألة : فإنّ الشكّ في تلك المسألة ( يعني مسألة إسلام الوارث وموت المورّث ) إنّما كان في الحدوث وفي مسألة الوضوء والحدث إنّما يكون في البقاء ... الخ (٣).

ليس مراده بذلك هو الفرق بين المسألتين بمجرّد أنّ تلك المسألة ـ يعني إسلام الوارث وموت المورّث ـ كان الشكّ فيها في الحدوث ، وهذه المسألة ـ يعني مسألة الطهارة والحدث ـ كان الشكّ فيها في البقاء ، وذلك لما هو واضح من إمكان عقد تلك المسألة للشكّ في البقاء ، بأن يكون المشكوك هو بقاء كفر الوارث وحياة المورّث ، كإمكان عقد هذه المسألة للشكّ في الحدوث ، بأن يكون المشكوك هو حدوث الوضوء بعد تحقّق الحدث ، أو حدوث الحدث بعد تحقّق

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٢١.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٢٥.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٥٢٢ ـ ٥٢٤ ، ٥٢٥.

٢٠٩

الوضوء.

بل المراد هو أنّ الشكّ في هذه المسألة ممحّض للشكّ في بقاء كلّ من الحادثين بعد فرض حدوثه ، وتلك المسألة لم يكن الشكّ فيها في بقاء أحد الحادثين ، بل كان إمّا للشكّ في بقاء الأمر السابق أو عدم حدوث الأمر اللاحق منهما ، نعم التعبير بقوله في هذه المسألة : كان الشكّ في بقاء أحد الحادثين في زمان حدوث الآخر ، لا يخلو من خلل ، فإنّ الشكّ في بقاء الطهارة من الحدث لم يكن واقعاً في زمان حدوث الحدث ، وهكذا من ناحية العكس ، والأمر في ذلك سهل بعد وضوح المراد.

والأولى في الفرق بين المسألتين هو ما أفاده قدس‌سره فيما حرّرته عنه : من أنّ محصّل تلك المسألة هو كون مجرى الأصل أحد جزأي الموضوع المركّب ، أعني إسلام الوارث وعدم موت المورّث ، أو موت المورّث وعدم إسلام الوارث ، فيكون كلّ واحد من الحادثين فيها جزءاً من الموضوع المركّب ولو باعتبار عدمه ، بخلاف هذه المسألة فإنّ كلّ واحد من الحادثين فيها يكون رافعاً للآخر ، فإنّ كلاً من الحدث والوضوء لو كان هو المتأخّر لكان رافعاً للآخر المتقدّم عليه ، وهكذا الحال في مسألة الطهارة والنجاسة.

وحاصل الفرق بين المسائل الثلاث : أنّ المسألة الأُولى ـ وهي مسألة إسلام الوارث وموت المورّث ـ يكون المستصحب فيها جزءاً من موضوع الأثر الشرعي. والمسألة الثانية يكون كلّ من المستصحبين موضوعاً مستقلاً للحكم الشرعي لكن يكون كلّ من الحادثين رافعاً لأثر الحادث الآخر. والمسألة الثالثة ـ وهي مسألة الكرّية والملاقاة ـ يكون أحدهما وهو الكرّية رافعاً لأثر الآخر وهو الملاقاة دون العكس ، مع كون كلّ منهما موضوعاً مستقلاً للحكم الشرعي

٢١٠

كالمسألة الثانية.

ويمكن أن يقال : إنّ مسألة الكرّية والملاقاة لا تخرج عن أمثلة إسلام الوارث وموت المورّث ، فإنّ بقاء الكرّية يكون مانعاً من ترتّب الأثر على الملاقاة كما أنّ بقاء كفر الوارث يكون مانعاً من ترتّب الأثر على موت المورّث ، وحينئذ ينحصر الفرق بينهما بترتّب الأثر على كلّ من الأصلين ، فيجري في كلّ منهما أو في خصوص أحد الطرفين ، فيجري فيه دون الطرف الآخر ، أو أنّه لا أثر للأصل في كلّ من الطرفين فلا يجري في كلّ منهما ، والمدّعى هو أنّه في مسألة الكرّية والملاقاة لا يترتّب الأثر على شيء من الأصلين ، فلا يجري في كلّ من الطرفين بخلاف مسائل إسلام الوارث وموت المورّث.

قوله : فيستصحب بقاء الوضوء إلى زمان الشكّ وبقاء الحدث أيضاً إلى زمان الشكّ ، فلو كان زمان الشكّ في تقدّم الحدث على الوضوء وتأخّره عنه هو أوّل الزوال ، فاستصحاب بقاء الوضوء إلى الزوال يعارض استصحاب بقاء الحدث إليه (١).

قد يتوهّم الإشكال عليه بأنّه لا معنى لاستصحاب الحدث إلاّ استصحاب عدم الوضوء بعده ، والمفروض أنّ الوضوء فيما نحن فيه معلوم التاريخ ، وقد تقدّم أنّ أصالة العدم لا تجري فيما هو معلوم التاريخ.

والجواب عن هذا التوهّم واضح ، أمّا أوّلاً : فللمنع عن كون معنى استصحاب الحدث هو استصحاب عدم الوضوء بعده ، بل إنّ استصحاب الحدث استصحاب وجودي مستقل ، لا يرجع إلى استصحاب عدم وقوع الوضوء بعده.

وأمّا ثانياً : فلأنّا لو سلّمنا كون استصحاب الحدث هو عبارة أُخرى عن

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٢٤.

٢١١

استصحاب عدم الوضوء بعده ، إلاّ أنّه ليس هو عبارة عن استصحاب عدم ذلك الوضوء الذي كان قد تيقّن بتحقّقه أوّل النهار ، بل هو عبارة عن استصحاب عدم الوضوء الكلّي بعد الحدث ، فإنّ الأمر فيما هو المفروض وإن كان انحصار الوضوء المحتمل بالوضوء الذي كان قد وقع أوّل النهار ، إذ لا يحتمل المكلّف أنّه توضّأ وضوءاً آخر غير ذلك الوضوء ، إلاّ أنّ ذلك الانحصار الاتّفاقي فيما نحن فيه لا يوجب أن يكون المراد من استصحاب الحدث الراجع إلى استصحاب عدم الوضوء هو استصحاب عدم ذلك الوضوء الواقع أوّل النهار ، بل أقصى ما فيه هو أن يكون المراد من استصحاب الحدث استصحاب عدم تحقّق كلّي الوضوء بعد ذلك الحدث ، لا استصحاب عدم وقوع خصوص ذلك الوضوء الواقع أوّل النهار.

قوله : ودعوى عدم اتّصال زمان الشكّ في بقاء الوضوء والحدث بزمان اليقين قد عرفت ضعفها ... الخ (١).

ظاهره أنّ شبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين جارية فيما لو كان أحد الحادثين معلوم التاريخ كالوضوء وكان الآخر وهو الحدث مجهول التاريخ ، فإنّها تجري فيما هو مجهول التاريخ وإن لم تكن جارية فيما هو معلوم التاريخ ، وقد صرّح بذلك المرحوم السيّد قدس‌سره في العروة ، فإنّه قال : وإن علم الأمرين وشكّ في المتأخّر منهما ، بنى على أنّه محدث إذا جهل تاريخهما أو جهل تاريخ الوضوء ، وأمّا إذا جهل تاريخ الحدث وعلم تاريخ الوضوء بنى على بقائه ، ولا يجري استصحاب الحدث حينئذ حتّى يعارضه ، لعدم اتّصال الشكّ باليقين به حتّى يحكم ببقائه ، والأمر في صورة جهلهما أو جهل تاريخ الوضوء وإن كان

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٢٤.

٢١٢

كذلك ، إلاّ أنّ مقتضى شرطية الوضوء وجوب إحرازه ، ولكن الأحوط الوضوء في هذه الصورة أيضاً (١) فإنّه يعلم من قوله : إذا جهل تاريخ الحدث وعلم تاريخ الوضوء بنى على بقائه ، ولا يجري استصحاب الحدث حينئذ حتّى يعارضه لعدم اتّصال ( زمان ) الشكّ باليقين الخ ، أنّ شبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين جارية فيما هو مجهول التاريخ ، وإن كان طرفه الآخر معلوم التاريخ.

وبالجملة : أنّ ظاهر هذه الكلمات أنّ هذه الشبهة جارية في كلّ ما هو مجهول التاريخ ، سواء كان طرفه الآخر مجهول التاريخ أيضاً أو كان طرفه الآخر [ معلوم ] التاريخ ، لكن يتوجّه عليه حينئذ أنّه في صورة كون الحدث معلوم التاريخ والوضوء مجهول التاريخ ينبغي الحكم عليه بأنّه محدث ، فيلزمه الوضوء من باب أنّه محدث لا من باب لزوم إحراز الشرط ، وحينئذ فالحكم بلزوم الوضوء من باب لزوم إحراز الشرط ينحصر بما لو كان كلّ منهما مجهول التاريخ ، فإنّه لا يمكن الحكم عليه بأنّه محدث ، كما لا يمكن الحكم عليه بأنّه متطهّر ، لعدم جريان الاستصحاب في كلّ من هذين الحادثين حينئذ ، ففيما لو كان الحدث مانعاً كما في مسّ كتابة القرآن ، ينبغي الحكم بجوازه استناداً إلى أصالة البراءة ، وفيما كان الوضوء شرطاً يلزمه الاحتياط بالوضوء إحرازاً للشرط ، كما في الإقدام على الصلاة مثلاً. أمّا لو كان الوضوء معلوم التاريخ فإنّه محكوم بأنّه محرز للطهارة ، لجريان استصحاب الوضوء وعدم جريان استصحاب الحدث ، وكذلك ما لو كان الحدث معلوم التاريخ فإنّه محكوم بأنّه محدث ، لجريان استصحاب الحدث وعدم جريان استصحاب الوضوء ، وليس هذا الأخير من باب لزوم إحراز

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٤٤٥ ـ ٤٤٧ / مسألة (٣٧) من شرائط الوضوء.

٢١٣

الشرط ، ولأجل ذلك علّق بعض أجلّة العصر (١) على قوله : والأمر في صورة جهلهما أو جهل تاريخ الوضوء وإن كان كذلك الخ ما نصّه : في صورة الجهل بتاريخ الوضوء لا مانع من استصحاب الحدث.

وبالجملة : أنّ الذي يظهر من هذه الكلمات هو جريان هذه الشبهة في صورة استصحاب الحادث المجهول التاريخ ، وإن كان الحادث الآخر معلوم التاريخ ، لكن الذي يظهر من الكفاية هو اختصاصها بصورة كونهما معاً مجهولي التاريخ ، فإنّه قال : كما انقدح أنّه لا مورد للاستصحاب أيضاً فيما إذا تعاقب حالتان متضادّتان كالطهارة والنجاسة ، وشكّ في ثبوتهما وانتفائهما للشكّ في المقدّم والمؤخّر منهما ، وذلك لعدم إحراز الحالة السابقة المتيقّنة المتّصلة بزمان الشكّ في ثبوتهما وتردّدها بين الحالتين ، وأنّه ليس من تعارض الاستصحابين ، فافهم (٢).

فإنّ قوله : لعدم إحراز الحالة السابقة المتيقّنة المتّصلة بزمان الشكّ الخ ، يعطي أنّ هذه الشبهة مختصّة بما كان كلّ من الحادثين مجهول التاريخ ، حيث إنّه حينئذ لا تكون حالته السابقة المتيقّنة المتّصلة بزمان الشكّ محرزة ، بخلاف ما لو كان أحدهما معلوم التاريخ فإنّ حالته السابقة تكون حينئذ معلومة.

وأمّا ما أفاده قبل هذا في الحادثين الذي يراد استصحاب العدم في كلّ منهما بقوله : وإمّا يكون مترتّباً على عدمه الذي هو مفاد ليس التامّة في زمان الآخر ، فاستصحاب العدم في مجهول التاريخ منهما كان جارياً ، لاتّصال زمان

__________________

(١) وهو السيّد أبو الحسن الأصفهاني رحمه‌الله. راجع المصدر المتقدّم.

(٢) كفاية الأُصول : ٤٢١ ـ ٤٢٢.

٢١٤

شكّه بزمان يقينه ، دون معلومه لانتفاء الشكّ فيه في زمانٍ الخ (١) فليس هو في مقام لحاظ أحد الحادثين بالقياس إلى الحادث الآخر ، بل إنّما هو بلحاظ أحد الحادثين بالقياس إلى زمان الآخر.

وكيف كان ، فالذي يظهر من جميع هذه الكلمات أنّ شبهة عدم الاتّصال فيما نحن فيه لا تجري في استصحاب ما هو معلوم التاريخ ، وإنّما تجري في خصوص استصحاب ما هو مجهول التاريخ ، إمّا مطلقاً وإن كان طرفه الآخر معلوم التاريخ كما يظهر من العروة ، أو في خصوص ما لو كان الطرف الآخر مجهول التاريخ ، كما ربما يظهر من الكفاية هنا.

لكنّه قال في الكفاية في التنبيه الثاني من تنبيهات مسألة اجتماع الأمر والنهي : ومن هنا انقدح أنّه ليس منه ترك الوضوء من الاناءين ، فإنّ حرمة الوضوء من الماء النجس ليس إلاّتشريعياً ، ولا تشريع فيما لو توضّأ منهما احتياطاً ، فلا حرمة في البين غلب جانبها ، فعدم جواز الوضوء منهما ولو كذلك ، بل إراقتهما كما في النصّ (٢) ، ليس إلاّمن جهة التعبّد ، أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحكم الاستصحاب ، للقطع بحصول النجاسة حال ملاقاة المتوضّئ من الاناء الثانية ، إمّا بملاقاتها أو بملاقاة الأُولى وعدم استعمال مطهّر بعده ، ولو طهّر بالثانية مواضع الملاقاة بالأُولى. نعم لو طهرت على تقدير نجاستها بمجرّد ملاقاتها بلا حاجة إلى التعدّد وانفصال الغسالة ، لا يعلم تفصيلاً بنجاستها ، وإن علم بنجاستها حين ملاقاة الأُولى أو الثانية إجمالاً ، فلا مجال لاستصحابها ، بل كانت قاعدة

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٢١.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ١٥١ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ٢ ، ١٤.

٢١٥

الطهارة محكّمة (١).

فإنّ ظاهره أنّه في الصورة الأُولى تكون النجاسة معلومة التاريخ ، ولا يعارضها استصحاب الطهارة المجهولة التاريخ لكي يرجع بعد التعارض إلى القاعدة كما في الصورة الثانية ، فلاحظ وتأمّل.

والظاهر أنّ الشبهة في كلّ من المقامين ـ أعني الحادثين المراد استصحاب العدم فيهما ، والحادثين المراد استصحاب البقاء فيهما ـ بجميع تقاريرها لا تختصّ بمجهولي التاريخ ، بل هي جارية في كلّ ما هو مجهول التاريخ وإن كان مقابله معلوم التاريخ ، فلاحظ وتتبّع (٢)

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٧٩ ( مع اختلاف يسير ).

(٢) ينبغي مراجعة الكفاية ] : ١٧٩ ] في آخر التنبيه الثاني من تنبيهات مسألة اجتماع الأمر والنهي في مسألة الوضوء من الاناءين المشتبهين ، فإنّ ظاهره هناك هو عدم جريان استصحاب ما هو مجهول التاريخ في قبال ما هو معلوم التاريخ.

وممّا ينبغي الالتفات إليه هو أنّ السيّد قدس‌سره لم يتعرّض لشبهة عدم اتّصال زمان الشكّ باليقين سوى مسألة الحدث والوضوء ، ولم يشر إليها في أغلب موارد الشكّ في التقدّم والتأخّر ، مثل موت المورّث وإسلام الوارث وغير ذلك من موارد الشكّ في المقدّم والمتأخّر ، فراجع أواخر كتاب القضاء من العروة بل مسألة الوضوء من الاناءين المشتبهين بالنجاسة ، ومسألة الكرّ والملاقاة ، وغير ذلك من موارد الشكّ في التقدّم والتأخّر.

ألمّ في الكفاية بمسألة جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي بالانتقاض.

في ص ١٠ من طبعة بغداد في الأمر الخامس من مباحث القطع.

وص ٣٠ من طبعة بغداد الأمر الأوّل من الوجوه العقلية التي أُقيمت على حجّية الخبر الواحد.

٢١٦

وكيف كان فالذي ينبغي هو تحرير الشبهة في خصوص مجهولي التاريخ. ومنه يعرف الكلام في الفرض الآخر ، فنقول بعونه تعالى : إنّ الذي يظهر من قوله في الكفاية في تقريرها هو أنّا إذا لاحظنا حالتنا الفعلية ، فنرى أنّا في حالة شكّ في الطهارة والحدث ، فإذا أردنا أن نستصحب الحدث مثلاً ، كان علينا أن نوصل حالتنا هذه بحالة سابقة على حالتنا هذه ، ولابدّ أن تكون تلك الحالة السابقة حالة يقين بالحدث لنجرّ اليقين من تلك الحالة إلى حالتنا هذه ، والمفروض أنّ حالتنا السابقة لا نعلم بها ما هي ، لأنّ المفروض أنّه قد تحقّق لنا في السابق حدث ووضوء ، ولا نعلم المتأخّر منهما لنستقرّ عليه ونقول إنّ حالتنا السابقة كانت على مقتضاه.

وإن شئت فقل : إنّ ما تقدّم من الزمانين اللذين وقع الحدث في أحدهما والوضوء في الآخر حيث إنّا لم نعلم منهما ما وقع فيه الحدث مثلاً ، فلم يكن الأوّل منهما زمان يقين بالحدث لاحتمال كونه زمان الوضوء. مضافاً إلى أنّه لو كان آن الحدث هو الآن الأوّل فقد ارتفع بوقوع الوضوء بعده ، كما أنّ الآن الثاني لم يكن زمان يقين بالحدث ، لاحتمال كون الحدث قد وقع في الأوّل ، ليكون الآن الثاني آن وضوء لا آن حدث ، لارتفاع الحدث حينئذ في الآن الثاني لكونه قد وقع الوضوء فيه ، فإنّ أيّ واحد من ذينك الآنين ننظر إليه نرى أنفسنا فيه في حال شكّ في الطهارة والحدث ، فبأي زمان نوصل زماننا هذا الذي نحن فيه الآن حتّى نقول إنّ ذلك الزمان زمان قطع بالحدث مثلاً لنجرّه إلى زماننا الذي نحن فيه فعلاً ، هذا

__________________

وص ٣٥ من طبعة بغداد المقدّمة الرابعة من مقدّمات دليل الانسداد.

وص ١٠٢ من طبعة بغداد في تعارض الاستصحابين من خاتمة الاستصحاب. وتعرّض له الشيخ قدس‌سره في المبحث المذكور [ فراجع فرائد الأُصول ٣ : ٤١٠. منه قدس‌سره ].

٢١٧

هو الذي أمكنني استحصاله من تلك العبارة الوجيزة حسب فهمي القاصر ومقتضاه هو إنكار أصل اليقين السابق ، لا إنكار اتّصاله بالشكّ اللاحق.

ولا يخفى الجواب عنه أوّلاً : بأنّه منقوض باستصحاب الحدث القطعي المردّد بين الزمانين المقابل بالاحتمال البدوي بوقوع الوضوء بعده. وثانياً : بالحل وهو أنّا قد علمنا أنّه قد صدر منّا حدث سابق ، ونحن الآن نعلم بأنّا قد كنّا في أثناء صدور ذلك الحدث غير متطهّرين ، فنحن الآن نوصل حالتنا هذه التي هي حالة شكّ بتلك الحالة السابقة على ما هي عليه من أي زمان وقعت فيه ، لعدم علمنا فعلاً بارتفاع تلك الحالة السابقة التي نحن الآن عالمون بها حينما قد صدر منّا الحدث فيما مضى من تلك الأزمنة.

نعم ، يمكن أن تكمل الشبهة بجملة أُخرى بأن يقال : إنّ تلك الحالة التي نحن الآن عالمون بها وهي حالة صدور الحدث منّا ، لا نعلم باتّصال حالتنا الشكّية الفعلية بها ، لأنّ ما علمناه من صدور الوضوء منّا يمكن أن يكون قد وقع بين حالتنا هذه التي هي الشكّية ، وبين حالتنا القطعية السابقة وهي حالة صدور الحدث ، فإنّه على تقدير كون ذلك الوضوء المعلوم واقعاً بعد تلك الحالة السابقة ، تكون تلك الحالة السابقة التي هي حالة الحدث قد انفصلت عن حالتنا هذه الشكّية بيقين بالوضوء ، فلا يحرز اتّصال شكّنا بيقيننا ، ولا يحرز أنّ المقام من قبيل نقض اليقين بالشكّ ، لاحتمال كونه من قبيل نقض اليقين باليقين.

ولا يخفى أنّ هذا لو تمّ لكان جارياً في الحدث المعلوم التاريخ وكان الوضوء مجهول التاريخ ، فإنّه حينئذ يقال : إنّا وإن كنّا فعلاً شاكّين في الحدث وكنّا سابقاً في أوّل الزوال مثلاً متيقّنين به ، لأنّه قد صدر منّا الحدث أوّل الزوال ، لكن لمّا كنّا عالمين بأنّا قد صدر منّا الوضوء وكان وضوؤنا معلوماً ، ولم نعلم بأنّه متقدّم

٢١٨

على الزوال أو متأخّر عنه ، وعلى تقدير كونه متأخّراً عنه يكون قد انتقض يقيننا بالحدث باليقين بالوضوء ، فلم يكن ذلك من قبيل إحراز الاتّصال ، ولم يكن من قبيل إحراز أنّ رفع اليد عن اليقين السابق بهذا الشكّ الحاصل لنا فعلاً رفع لليقين بالشكّ ، لاحتمال كون يقيننا السابق مرتفعاً باليقين. وهكذا الحال في كلّ علم إجمالي يكون على خلاف الحالة السابقة في كلّ واحد من الأطراف ، فإنّه تتأتّى فيه الشبهة المذكورة ، ولا أظنّه قدس‌سره يلتزم بذلك.

والجواب عن هذه الشبهة منحصر بجملة واحدة ، وهي أنّ احتمال انطباق ما هو المعلوم بالاجمال على هذا الفرد لا يخرجه عن كونه مشكوكاً وجداناً ، فإنّ وضوءنا السابق المعلوم المردّد بين كونه قبل الحدث أو بعده لو كان منطبقاً في الواقع على الوضوء الواقع بعد الحدث ، لا يكون موجباً لخروج ذلك الوضوء عن كونه مشكوكاً فيه ، فإنّ صفة المعلومية وإن قلنا بأنّها تسري إلى الواقع ولا تكون مقصورة على الوجود الذهني ، إلاّ أنّ خروج الواقع عن كونه مشكوكاً إلى كونه معلوماً يتوقّف على إحراز شرط السراية وهو الانطباق ، فما لم نحرز الانطباق على الوضوء الواقع بعد الحدث لا يكون ذلك الوضوء متّصفاً في الواقع بأنّه معلوم ، كما أنّه لا يتّصف بذلك عندنا فعلاً.

ولو سلّمنا السراية القهرية ، وقلنا إنّ هذا الانطباق الواقعي يوجب الاتّصاف واقعاً بأنّه معلوم ، وكنّا الآن شاكّين في كون الوضوء هل هو معلوم لدينا أو لا ، لم يكن ذلك موجباً لسقوط الاستصحاب ، لأنّ المدار فيه على الشكّ والعلم الفعليين الموجبين لترتّب العمل ، ومن الواضح أنّا فعلاً وإن كنّا شاكّين في كون الوضوء المذكور معلوماً ، إلاّ أنّا بذلك لا نخرج عن كوننا شاكّين بعد يقين سابق ، ويترتّب علينا آثار الشكّ الفعلي واليقين السابق فتأمّل ، فإنّ احتمال المعلومية إنّما

٢١٩

يضرّ لو كان قد ثبت لنا دليل يقول لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن انقضه بيقين آخر فإنّه حينئذ يكون من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، وبعض روايات الباب وإن تضمّنت ذلك ، إلاّ أنّ الظاهر أنّه ليس المراد به حكماً مستقلاً في قبال الحكم الأوّل.

وبعين هذا أجاب في الكفاية (١) في خاتمة الاستصحاب عن شبهة لزوم التناقض بين الصدر والذيل لو قلنا بالشمول لأطراف العلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف ، هذا ، مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال : إنّ المراد باليقين الناقض لليقين السابق هو اليقين الذي يكون محرّكاً على العمل ، بحيث إنّه لا يشمل اليقين الواقعي المشكوك تحقّقه في المورد. وإن شئت فقل : إنّ مناسبة الحكم والموضوع تعطي كون المراد من اليقين الثاني هو اليقين المعلوم اليقينية ، وحينئذ فيكون الشكّ بخلافه وهو ما لم يكن معلوم اليقينية ، فيشمل ما يحتمل كونه متيقّناً ، فتأمّل.

وقد توجّه الشبهة بتقريب آخر : وهو أنّه بعد الفراغ عن أنّ الحدث لم يكن متيقّناً في شيء من الزمانين ـ أعني الآن الأوّل قبل الزوال والآن الثاني بعده ـ لما تقدّم في التقريب السابق ، فلم يبق عندنا إلاّ أن نقول : إنّ الحدث قد وقع في أحد الآنين ونشكّ في ارتفاعه ، ولكن لمّا كان الاستصحاب هو الجرّ بحسب أجزاء الزمان ، لا يمكننا أن نجرّ الحدث في الأجزاء الزمانية ، لما عرفت من أنّه في الجزء الأوّل غير متيقّن ، كما أنّه في الجزء الثاني أيضاً غير متيقّن ، فلم يبق عندنا إلاّ أن نجرّ الحدث المذكور في الزمان الواقعي المردّد بين الآنين المذكورين ، ولكن إلى متى؟ لا يمكننا أن نجرّه من ذلك الآن الكلّي المردّد بين الآنين إلى زماننا الذي

__________________

(١) لاحظ كفاية الأُصول : ٤٣٢.

٢٢٠