أصول الفقه - ج ١٠

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٠

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-83-6
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٩٤

التخصيص أو في مقداره مرحلة ، وكون ذلك العموم الأزماني مخرجاً للحكم المذكور عن اللغوية الناشئة عن كونه معرّى هو ومتعلّقه عن العموم الأزماني ، وأنّه آني يحصل امتثاله بالوفاء به آناً ما مرحلة أُخرى ، ولا تلازم بين المرحلتين ، فارتفاع تلك اللغوية بذلك العموم لا يوجب صحّة الرجوع إليه في مقام الشكّ المزبور بعد ما عرفت أنّه لا يصحّ الرجوع في مقام الشكّ المزبور ، لما عرفت من توقّف التمسّك بذلك العموم على إحراز نفس الحكم الذي هو بمنزلة الموضوع لذلك العموم الأزماني.

لا يقال : إنّكم قد ذكرتم أن ذلك العموم الأزماني لو كان راجعاً إلى متعلّق الوجوب لصحّ التمسّك به في مقام الشكّ في التخصيص وفي مقداره ، ومن الواضح أنّ أخذ ذلك العموم الأزماني في ناحية الوجوب نفسه يوجب كون متعلّقه واقعاً في كلّ واحد من تلك الأزمنة التي أخذت في ناحية الوجوب ، فإنّه إذا كان الحكم الذي هو الوجوب واقعاً في كلّ آنٍ من تلك الآنات ، يلزمه أن يكون الوفاء الذي هو متعلّق ذلك الوجوب واقعاً في كلّ واحد من تلك الآنات ، كما أنّه لو كان ذلك العموم الأزماني راجعاً ابتداءً إلى المتعلّق الذي هو الوفاء ، يكون الوجوب قهراً واقعاً في كلّ واحد من تلك الآنات.

وحينئذ نقول : إنّ العموم الأزماني لو كان راجعاً ابتداءً إلى الحكم الذي هو الوجوب ، كان لازم ذلك هو كون الوفاء أيضاً واقعاً في كلّ واحد من تلك الآنات ، والعموم الأزماني الواقع ابتداءً على الحكم وإن لم يمكن التمسّك [ به ] لما عرفت من توقّفه على إحراز موضوعه الذي هو الحكم ، إلاّ أنّ لازمه وهو عموم المتعلّق لكلّ واحد من تلك الآنات لمّا كان يمكن التمسّك به في مقام الشكّ ، كان ذلك كافياً في رفع الشكّ المزبور.

٣٦١

لأنّا نقول : إنّ هذا اللازم ـ وهو كون المتعلّق الذي هو الوفاء واقعاً في كلّ واحد من تلك الآنات ـ لمّا كان غير ابتدائي ، بل كان ناشئاً عن اعتبار الوجوب موجوداً في كلّ آن ، المعبّر عنه بكون العموم الأزماني واقعاً ابتداءً على الحكم ، كان تحقّق ذلك العموم الأزماني في ناحية المتعلّق بالنسبة إلى زمان الشكّ متوقّفاً على تحقّق ذلك الحكم فيه.

وبعبارة أُخرى : أنّ العموم القائل إنّ الوجوب موجود في كلّ آن ، لمّا لم يمكن التمسّك به في مقام الشكّ ، كان لازمه الذي هو عبارة عن كون الوفاء موجوداً في كلّ آن غير قابل للتمسّك به بعد فرض كونه ناشئاً عنه ومتولّداً منه ، لتوقّفه على ثبوت منشئه وملزومه في ذلك المقام ، نعم لو كان العموم الأزماني راجعاً ابتداءً إلى المتعلّق كان ذلك عموماً مستقلاً ، وكان يمكن التمسّك به في مقام الشكّ المذكور.

قوله : فإن كان الشكّ في أصل العموم الزماني فلا إشكال في أنّ الأصل يقتضي عدمه ـ إلى قوله ـ ففيما عدا اليوم الأوّل لا يجب الاكرام ، لأصالة البراءة عنه ، وذلك واضح (١).

الذي ينبغي هو التمسّك باطلاق المتعلّق في نفي تقييده بالعموم الأزماني وباطلاق الحكم أيضاً في نفي تقييده المزبور ، ومع فرض عدم إمكان التمسّك باطلاق الحكم لأنّ إرجاع العموم الأزماني إليه ليس من قبيل التقييد ، بل هو عنده قدس‌سره من قبيل الحكم على ذلك الحكم بأنّه موجود في كلّ زمان ، لابدّ من القول بأنّ المرجع حينئذ هو أصالة عدم جعل ذلك الحكم على الحكم ، وعلى أي حال لا تصل النوبة إلى أصالة البراءة.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٤٦.

٣٦٢

نعم ، لو لم يكن في البين أصالة الاطلاق ولا أصالة العدم ، كان المرجع هو استصحاب الحكم السابق ، أعني الحكم العام إن أمكن اجراؤه ، ولو ادّعي عدم جريان الاستصحاب المذكور من جهة كونه من قبيل الشكّ في المقتضي ، كان المرجع فيما عدا اليوم الأوّل هو البراءة لو كان الحكم وجوباً أو تحريماً ، ولو كان غيرهما من الأحكام التكليفية كالاباحة والاستحباب ، أو كان الحكم من الأحكام الوضعية ، كان المرجع هو غيرها من الأُصول الجارية في مورد الشكّ ، كلٌ بحسبه.

قوله : وإن كان الشكّ في مصبّ العموم الزماني بعد العلم به فلا إشكال أيضاً في أنّ الأصل اللفظي يقتضي عدم كون المتعلّق مصب العموم الزماني ... الخ (١).

لا يخفى أنّه بناءً على ما ذكرناه من إمكان كون الحكم نفسه مصب العموم الزماني يقع التعارض بين إطلاقه وإطلاق متعلّقه ، لكن بناءً على ما ذكرناه من إمكان التمسّك بالعموم الزماني الواقع في ناحية الحكم لا يظهر للشكّ في كون العموم الأزماني راجعاً إلى الحكم أو إلى متعلّقه [ أثر ] ، إلاّعلى فرض سقوط العموم والرجوع إلى الاستصحاب ، فإنّه حينئذ يظهر الفرق بين كونه في جانب الحكم أو في جانب متعلّقه ، لإمكان استصحاب حكم العام على الأوّل دون الثاني على ما عرفت تفصيله (٢).

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٤٦ [ ستأتي حاشية أُخرى له قدس‌سره على هذا المتن في الصفحة : ٣٧٠ ].

(٢) راجع فوائد الأُصول ٤ : ٥٣٧ وما بعدها وراجع أيضاً الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٣٠٤ وما بعدها.

٣٦٣

وأمّا بناءً على ما أفاده قدس‌سره من عدم إمكان أخذ العموم الأزماني في ناحية الحكم ، وعدم إمكان التمسّك بالعموم الأزماني الواقع على الحكم ، فيظهر أثره في الشكّ في أنّ المرجع هو عموم العام أو استصحاب حكم المخصّص ، ولكن التردّد بين كون العموم الأزماني راجعاً إلى الحكم أو إلى متعلّقه لا يتأتّى في العموم الأزماني المتّصل ، لأنّه يتعيّن عنده قدس‌سره رجوعه إلى المتعلّق ، لأنّ المفروض عدم إمكان رجوعه إلى الحكم ، وكذا لو كان بالدليل اللفظي المنفصل ، فإنّه أيضاً يظهر الحال فيه في كون مصبه هو الحكم أو هو متعلّقه.

وإنّما الإشكال في الدليل العقلي المقصور على مجرّد لغوية الحكم الآني المتعلّق بالفعل المجرّد من الزمان ، لأنّ رفع اللغوية كما يحصل بالحكم على ذلك الحكم بأنّه موجود في جميع الأزمنة ، فكذلك يحصل بكون المتعلّق شاملاً لجميع الأفراد الطولية ، فلا يكون المقابل لأصالة الاطلاق في ناحية المتعلّق هو الاطلاق في ناحية [ الحكم ] ، لما عرفت من أنّ المفروض هو عدم إمكان كون ذلك الحكم الذي تضمّنه الدليل الأوّل مراداً به الحكم في جميع الأزمنة ، بل أقصى ما في البين أن يحكم الحاكم حكماً ثانياً على الحكم السابق ، بأن يجعله موجوداً في جميع الأزمنة ، فيكون مرجع الشكّ المزبور بعد فرض لغوية الآنية هو أنّ الآمر لمّا أمرنا بالوفاء بالعقود ، هل قيّد الوفاء بكونه في جميع الأزمنة ، أو أنّه بعد ذلك الحكم قد حكم على وجوب الوفاء بأنّه موجود في جميع الأزمنة ، والطرف الأوّل يكون مجرى الأصل اللفظي وهو إطلاق المتعلّق ، والطرف الثاني مجرى الأصل العملي وهو أصالة البراءة من الوجوب ثانياً ، أو أصالة عدم جعل الحكم الثاني ، لكن لمّا كان الاطلاق من الأدلّة الاجتهادية التي يكون مثبتها حجّة ، كان مقتضى إطلاق المتعلّق هو أنّ ارتفاع اللغوية إنّما كان بجعل الشارع الحكم

٣٦٤

الثاني.

لكن في جريان الأصل اللفظي هنا إشكال ، وهو أنّه سواء كان ارتفاع اللغوية بتقييد الوفاء بكونه في كلّ آن أو كان بالجعل الثاني ، لا يكون الوفاء باقياً على ما هو عليه من مجرّد الوجود ، بل في الواقع لابدّ أن يكون هو في جميع الآنات ، لأنّ كون وجوبه ثابتاً في جميع الأزمنة يوجب تحقّقه في جميع الأزمنة ، وإن لم يكن ذلك داخلاً تحت الدلالة اللفظية ، وحينئذ فلا يكون الشكّ شكّاً فيما هو المراد الواقعي من الوفاء من قوله : يجب الوفاء بالعقد ، بل إنّما يكون الشكّ في كيفية الدلالة اللفظية ، والأصل اللفظي إنّما يجري في مقام الشكّ في المراد الواقعي ، لا في المراد اللفظي الاستعمالي بعد فرض الفراغ عن الواقع ، فتأمّل فإنّ هذا الدليل العقلي يكون بمنزلة الدليل المتّصل ، وقد عرفت في الدليل المتّصل أنّه يتعيّن الرجوع عنده قدس‌سره إلى المتعلّق ، هذا.

مضافاً إلى أنّ مرتبة تعلّق العموم الأزماني لمّا كانت عنده قدس‌سره متأخّرة عن جعل الحكم ، فحينئذ نقول : إنّ الحكم في مرتبة جعله يكون لغواً ، ولا معنى لبقاء هذه اللغوية إلى أن يرفعها الحاكم بإيراد العموم الأزماني على الحكم بالجعل الثاني.

وبالجملة : أنّ الحكم في مرتبة جعله لمّا كان عدم تقييد متعلّقه موجباً للغويته ، لعدم إمكان تقييد نفس الحكم في تلك المرتبة ، كان إطلاق المتعلّق ساقطاً في تلك المرتبة ، ولا يبقى الحكم على ما هو عليه من اللغوية حتّى يرفعها الحاكم بإيراده العموم الأزماني على نفس ذلك الحكم.

والحاصل : أنّ هذا الدليل العقلي يوجب تقييد متعلّقه بالعموم الأزماني قبل الوصول إلى مرتبة حكمه على ذلك الحكم بالعموم الأزماني ، فلا تصل النوبة إلى

٣٦٥

المرتبة الثانية كي يحصل التعارض بين أصالة الاطلاق في ناحية المتعلّق وأصالة عدم جعل ذلك الحكم الثاني ، فصار الحاصل هو أنّه عند الدوران بين رجوع العموم الأزماني إلى ناحية المتعلّق ورجوعه إلى ناحية [ الحكم ] بالنحو الذي أفاده قدس‌سره من التأخّر الرتبي ، يتعيّن الرجوع إلى ناحية المتعلّق.

أمّا أوّلاً : فلأنّ مرتبة إطلاق المتعلّق وتقييده بالعموم الأزماني سابق على مرتبة إطلاق الحكم وتقييده ، فيكون تقييد المتعلّق سابقاً في الرتبة على إطلاق الحكم.

وثانياً : أنّ هذا الدليل العقلي يكون بمنزلة الدليل المتّصل ، ومع الدليل المتّصل يكون القيد راجعاً إلى المتعلّق كما أفاده قدس‌سره.

وثالثاً : أنّ إطلاق المتعلّق يكون ساقطاً قطعاً ، لتقيّده بالوجود في كلّ آن سواء أرجعنا القيد إليه أو جعلناه راجعاً إلى الحكم ، بأن حكمنا عليه ثانياً بأنّ ذلك الحكم موجود في كلّ آن ، وسقوط إطلاق المتعلّق وتقيّده بالوقوع في كلّ زمان وإن أوجب وقوع الحكم في كلّ زمان ، إلاّ أنّ ذلك لا يضرّ بما نحن بصدده من أنّه لو رجع القيد إلى المتعلّق يصحّ لنا التمسّك بعمومه في مقام الشكّ ، بخلاف ما لو أرجعناه ابتداء إلى الحكم كما شرحناه فيما تقدّم (١).

لا يقال : إنّ وجوب الوفاء إنّما يكون لغواً بعد فرض ثبوت الاطلاق في ناحية المتعلّق الذي هو الوفاء ، فإنّ الوفاء لو كان مقيّداً بالوقوع في كلّ آن لم يكن وجوبه لغواً ، فكون الوجوب المذكور لغواً إنّما يكون بعد فرض ثبوت الاطلاق في ناحية الوفاء وعدم تقييده بكلّ زمان ، وبذلك يندفع الإشكال الأوّل الراجع إلى أنّ الحكم العقلي بلزوم التقييد بكلّ زمان يكون سابقاً في الرتبة على مرتبة الحكم

__________________

(١) راجع الحاشية السابقة.

٣٦٦

على ذلك الوجوب بأنّه موجود في كلّ زمان ، فيكون ذلك الحكم العقلي موجباً لتقييد الوفاء بكلّ زمان قبل الوصول إلى مرتبة الحكم على الوجوب بالوجود في كلّ زمان ، كما أنّه يندفع الإشكال الثاني أيضاً الراجع إلى أنّ هذا الحكم العقلي بمنزلة الدليل المتّصل الذي يتعيّن فيه رجوع العموم إلى المتعلّق ، وكأنّ قوله : ومن جملة مقدّمات الحكمة في المقام إطلاق المتعلّق وعدم تقييده بالعموم الزماني ، فإنّه مع تقييد المتعلّق بذلك لا تصل النوبة إلى التمسّك بمقدّمات الخ (١) ، إشارة إلى ذلك ، فلاحظه وتأمّل فيه.

لأنّا نقول : إنّ الأمر في الوفاء الذي هو متعلّق الوجوب بعد فرض كون الاهمال في مقام الثبوت محالاً ، يدور بين كون المراد منه هو الوفاء في زمان مخصوص ، أو الوفاء في جميع الأزمنة ، أو الوفاء في زمان ما. ولا سبيل إلى الأوّل لأنّ المفروض عدم البيان عليه ، كما أنّه لا سبيل إلى الثالث لكونه موجباً للغوية ، فيتعيّن الثاني.

ولا معنى للقول بأنّ الشارع يجعل الوجوب وارداً على الوفاء المطلق الواقع في زمان ما ، ثمّ بعد ذلك يرى لغوية الحكم المذكور ، فدفعاً أو رفعاً للغوية التي لزمت حكمه المذكور يجعل حكماً آخر على الحكم المذكور ، بأن يوسّعه ويحكم عليه بأنّه موجود في كلّ زمان ، بل هو من أوّل الأمر يجعل حكمه وارداً على الوفاء المقيّد بوجوده في كلّ زمان.

فنحن من أجل لزوم لغوية الحكم نقول : لابدّ أن يكون حكمه هذا وارداً على الوفاء المقيّد بالوجود في كلّ زمان ، وقد اكتفى عن ذكر هذا القيد اعتماداً على حكم العقل به من جهة لزوم اللغوية بعد فرض أنّه لم يقيّده بزمان خاصّ ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٤٧.

٣٦٧

نظير اكتفائه بحكم العقل بلزوم العموم الشمولي في كلّ بيع في قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) بعد فرض أنّه لم ينصب قرينة على إرادة بيع مخصوص ، فيكون ذلك من قبيل القرينة العقلية على إرادة التعميم.

أو نقول : إنّه بعد فرض العلم بأنّه لم يرد الوفاء في زمان مخصوص لأنّه لم يبيّن ذلك الزمان المخصوص ، وبعد فرض أنّه لا يمكن أن يكون مورد الحكم هو الوفاء في زمان ما لأنّه لغو ، وأنّه لم يرد التقييد للوفاء بالوجود في جميع الأزمنة لأنّه نحو من التقييد ، يكون المحكوم عليه بالوجوب هو طبيعة الوفاء السارية في تمام الزمان ، على ما شرحه المرحوم الحاج آغا رضا قدس‌سره (٢). وعلى أي تكون النتيجة هي وجوب الوفاء الدائمي أو وجوب الوفاء في كلّ آن ، فلا يكون العموم الأزماني إلاّفي ناحية المتعلّق ، فلاحظ وتأمّل.

نعم ، يقع التردّد في ذلك العموم بين كونه دوامياً أو أفرادياً ، والظاهر الثاني لأنّ الأوّل يتوقّف على لحاظ أمر زائد على أصل تعلّق الوجوب بطبيعة الوفاء ومقتضى عدم البيان عدمه ، فلاحظ. وفيه تأمّل وتردّد.

ولا يخفى أنّ الدليل المنفصل الدالّ على العموم الأزماني ، بناءً على ما حقّقناه من إمكان كون نفس الحكم الذي تضمّنه الدليل الأوّل مقيّداً بالوقوع في كلّ زمان ، يكون قابلاً للرجوع إلى نفس ذلك الحكم الذي تكفّله الدليل الأوّل ، ويكون مقيّداً له بالوقوع في كلّ زمان ، ويكون الترديد حينئذ بين رفع الاطلاق في ناحية الحكم نفسه أو رفعه في ناحية متعلّقه ، ولكن لا يمنع من الأخذ بذلك

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٢) راجع حاشية فرائد الأُصول : ٤٢٩ ـ ٤٣١ وراجع أيضاً حاشية كتاب المكاسب : ٥٠٥.

٣٦٨

العموم الأزماني وإن لم نعرف رجوعه إلى الحكم أو المتعلّق ، لما حرّرناه من صحّة الرجوع إلى ذلك العموم على كلّ من التقديرين.

وأمّا بناءً على ما أفاده شيخنا قدس‌سره من عدم إمكان تقيّد الحكم في الدليل الأوّل بكونه موجوداً في كلّ آن فلا تكون المسألة عنده من الترديد بين الاطلاقين ، بل تكون من قبيل الترديد بين الاطلاق في ناحية المتعلّق وأصالة عدم الحكم على الحكم الأوّل بأنّه موجود في كلّ آن ، لأنّ ذلك العموم الأزماني المستفاد من الدليل الآخر لو كان مصبّه هو الحكم ، لم يكن من باب التقييد لذلك الحكم المستفاد من الدليل الأوّل بالوجود في كلّ زمان ، بل يكون من قبيل الحكم على الحكم المذكور بأنّه موجود في جميع الأزمنة.

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه ما توضيحه : ولا ريب في أنّ هذه القرينة أعني قرينة الحكمة ( يعني بذلك الدليل العقلي الحاكم بلغوية الحكم الآني ) ليس حالها حال سائر القرائن في كشفها عن أنّ المراد باللفظ على طبق القرينة ، ليكون العموم الأزماني على تقدير رجوعه إلى الحكم موجباً للتصرّف في المراد بالحكم المستفاد من الدليل الأوّل ، بل هي من قبيل الدليل العقلي على مطلب مستقل ، وهو أنّ وجوب الوفاء ثابت في كلّ آن وإلاّ لكان لغواً. ولا يخفى أنّ ذلك لا يكون دليلاً على أنّ المراد من وجوب الوفاء في قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(١) هو الوجوب دائماً ، بل أقصى ما فيه أن يكون موجباً لحكم جديد على ذلك الحكم الأوّل ، بأن ينظر إلى الوجوب المستفاد من قوله تعالى : ( أَوْفُوا ) ، ويحكم عليه بأنّه موجود في جميع الأزمنة ، انتهى.

ولأجل ذلك قلنا إنّه بناءً على مسلكه قدس‌سره لا يكون الترديد بين رجوع العموم

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

٣٦٩

الأزماني إلى المتعلّق أو رجوعه إلى حكمه من قبيل الترديد بين الاطلاقين ، أعني الاطلاق في ناحية المتعلّق والاطلاق في ناحية حكمه ، بل يكون ذلك عنده من قبيل الترديد بين الاطلاق في ناحية المتعلّق ( بناءً على رجوع العموم الأزماني إليه ) وأصالة العدم في ذلك الحكم الجديد ( بناءً على رجوعه إلى الحكم ) ، وحيث إنّ إطلاق المتعلّق من الأدلّة الاجتهادية التي يكون مثبتها حجّة ، يتعيّن بواسطة إطلاق المتعلّق كون ذلك العموم الأزماني حكماً جديداً على ذلك الحكم السابق ، ويكون العموم الأزماني راجعاً إلى ناحية الحكم.

قوله : وإن كان الشكّ في مصبّ العموم الزماني بعد العلم به ، فلا إشكال أيضاً في أنّ الأصل اللفظي يقتضي عدم كون المتعلّق مصب العموم الزماني ... الخ (١).

لمّا كان رجوع العموم الأزماني إلى الحكم متفرّعاً عنده قدس‌سره عن أصل الحكم فكان إطلاق الحكم أو عدم تقييده بالعموم الأزماني متأخّراً رتبةً عن إطلاق متعلّقه ، فالذي ينبغي هو كون التقييد بذلك العام الأزماني راجعاً إلى إطلاق المتعلّق ، لكونه هو السابق في الرتبة ، فيقيّده العام الأزماني قبل الوصول إلى رتبة الحكم وأنّه هل هو محكوم عليه بالعموم الأزماني أو لا ، ولو سلّم فلا أقلّ من كون وجود ذلك العموم الأزماني بالنسبة إلى إطلاق المتعلّق من قبيل وجود ما يحتمل التقييد لاطلاقه ، فيسقط إطلاقه ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ذلك إنّما [ هو ] فيما لو كان العام الأزماني متّصلاً دون ما لو كان منفصلاً (٢).

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٤٦ [ تقدّمت حاشية أُخرى له قدس‌سره على هذا المتن في الصفحة : ٣٦٣ ].

(٢) وأمّا دعوى كون المرجع في ناحية الحكم هو أصالة عدم الحكم عليه بالدوام ، وهذا

٣٧٠

هذا على سبيل الإجمال ، وسيأتي إن شاء الله تفصيله (١) ، كما أنّه سيأتي (٢) إن شاء الله أنّه بناءً على ما أفاده الشيخ قدس‌سره وقرّبناه من أنّه لا فرق في العموم الأزماني بين كونه لاحقاً للحكم أو للمتعلّق في إمكان التمسّك ، كما أنّه لا فرق فيما أُخذ بعنوان الدوام والاستمرار بين كونه لاحقاً للحكم أو كونه لاحقاً للمتعلّق في عدم إمكان التمسّك به ، نعم فيما ظاهره أنّه بنحو العام الأزماني مثل « كلّ يوم » لو أخذناه متعلّقاً بالحكم ، بناءً على ما نقلناه (٣) عن شيخنا قدس‌سره من أنّه لا معنى لوجود الحكم في كلّ آن أو يوم إلاّدوامه واستمراره ، يظهر الأثر في مثل « كلّ يوم »

__________________

الأصل محكوم بأصالة الاطلاق في ناحية المتعلّق ، لكونه من الأدلّة الاجتهادية التي يترتّب عليها لازمها ، وهو كون ذلك العموم الموجود باليد حكماً على الحكم.

مدفوعة : بأنّ ذلك كلّه فرع بقاء الاطلاق في ناحية المتعلّق ، ومن الواضح أنّ وجود ما دلّ على العموم الأزماني موجب لسقوط ذلك الاطلاق عن الحجّية إن لم يكن موجباً لتقييده ، هذا.

مضافاً إلى أنّ فرض المسألة هو وجود العموم الأزماني ، لكنّه مردّد بين الرجوع إلى المتعلّق والرجوع إلى الحكم ، وعلى أيٍّ يكون المتعلّق موجوداً في كلّ زمان ، أمّا على رجوع ذلك العموم الأزماني إلى المتعلّق فواضح ، وأمّا على رجوعه إلى الحكم فلملازمة ذلك لوجود المتعلّق في كلّ زمان ، وحينئذ تكون المسألة من باب العلم بتقيّد المتعلّق ، وإنّما يكون الشكّ في كيفية إرادته ، وفي مثله لا تجري أصالة الاطلاق فلاحظ ، بل هو أردأ من موارد الشكّ في كيفية الارادة بعد العلم بالمراد ، لأنّ الجمع بين إرجاع العموم الأزماني إلى الحكم مع إبقاء المتعلّق على إطلاقه القاضي بأنّ الوفاء مطلق غير مقيّد واقعاً بالوجود في كلّ زمان تناقضٌ ظاهر ، فلاحظ وتدبّر [ منه قدس‌سره ].

(١) أشار قدس‌سره إلى ذلك في الصفحة : ٤٠٧ ـ ٤٠٨ إشارة عابرة.

(٢) راجع الإلحاق والتكميل الذي يذكره قدس‌سره في الصفحة : ٤٢٩ وما بعدها.

(٣) راجع ما نقله قدس‌سره عن تحريراته عن شيخه قدس‌سره في الصفحة : ٣٣٥ وما بعدها.

٣٧١

المأخوذ في قولنا : أكرم العلماء في كلّ يوم ، بين كون مصبّه هو الاكرام وكون مصبّه هو الوجوب ، فإنّه على الأوّل يبقى على ما هو ظاهر فيه من كون العموم شمولياً ، بخلاف ما لو قلنا إنّ مصبّه هو الوجوب ، فإنّه حينئذ ينقلب إلى معنى دوام الوجوب واستمراره. لكن يمكن القول حينئذ بأنّ ظهور هذه الكلمة في العموم الشمولي القاضي بتكثّر ما هو المظروف لها حسب تعدّدها ، يمنع من احتمال كونها راجعة إلى نفس الوجوب القاضي برفع اليد عن مقتضاها من تعدّد ما هو المظروف لها وتكثّره بتكثّرها ، كلّ ذلك مع تسليم ما أُفيد من أنّه لا معنى للتكثّر في الوجوب ولو بحسب ما يتعلّق به ، فتأمّل.

قوله : لأنّ مفاد قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ليس وجوب الوفاء به تكليفاً ، وحرمة التصرّف فيما انتقل عن المتعاقدين ... الخ (١).

يمكن أن يقال : إنّ مفاده الأمر بالوفاء بابقاء العقد بحاله وعدم فسخه ، وذلك ـ أعني المنع التكليفي من الفسخ ـ موجب لعدم نفوذه ، لكون المنع الشرعي المولوي من الفسخ موجباً لسلب السلطنة عليه شرعاً ، فلا يتوقّف الالتزام بكون الأمر بالوفاء تكليفياً مولوياً على الالتزام بتعلّقه بالمنع من التصرّفات فيما انتقل عنه ، ليكون التمسّك باطلاقه إلى ما بعد الفسخ تمسّكاً به في الشبهة المصداقية.

ولو بنينا على ما أفاده قدس‌سره من رجوع العموم الأزماني إلى نفس الحكم التكليفي أو الحكم الوضعي ، لسقط التمسّك بعموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) إلاّفيما يكون من قبيل احتمال التخصيص الأفرادي ، وانحصر الرجوع في موارد الشكّ في التخصيص الأزماني أو في المقدار الزائد إلى استصحاب حكم العام في الأوّل

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٤٩.

٣٧٢

واستصحاب حكم الخاصّ في الثاني ، كما أفاده بقوله : ففي باب الوضعيات لو شكّ في تخصيص العموم الزماني أو في مقداره لا مجال للرجوع إلى العموم ، بل لابدّ من الرجوع إلى استصحاب حكم العام في الأوّل واستصحاب حكم الخاصّ في الثاني (١).

ثمّ على مسلك الشيخ قدس‌سره (٢) من كون المدار على كون العموم الزماني تقطيعياً أو كونه دوامياً ، لابدّ من الالتزام بكونه في مثل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) على نحو التقطيع والعموم الشمولي أو المجموعي ، لا الدوام والاستمرار ، وإلاّ لسقط التمسّك بالعموم في موارد الشكّ في التخصيص الزائد بمثل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) في باب البيع لخروج زمان المجلس والثلاثة في بيع الحيوان عن ذلك العموم الأزماني ، فلاحظ وتأمّل.

والذي يظهر من الشيخ قدس‌سره هو الثاني أعني الدوام والاستمرار ، كما أنّ الذي يظهر من شيخنا قدس‌سره هو كون العموم الأزماني فوق الحكم ، وأنّه لا يصلح للتمسّك به في مقام الشكّ ، وحينئذ يتوجّه النقض عليهما قدس‌سرهما بخيار المجلس والحيوان ، فإنّه لا ريب في التمسّك بعموم الآية في مقام الشكّ في اللزوم في باب البيع من غير جهة المجلس والحيوان.

ويمكن الجواب عن ذلك ، أمّا من ناحية شيخنا قدس‌سره فلأنّ أقصى ما أفاده هو سقوط العموم الأزماني المأخوذ في ناحية الحكم عن التمسّك به في مقام الشكّ وذلك لا ينافي التمسّك بالعموم الأفرادي إذا كان الشكّ في اللزوم من ناحية أُخرى غير مسألة الفورية والتراخي.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٤٩.

(٢) كما تقدّم في الصفحة : ٢٩٩ وما بعدها.

٣٧٣

وأمّا من ناحية الشيخ قدس‌سره فلأنّه وإن قال إنّ هذا الفرد من البيع ـ أعني البيع المشتمل على الغبن ـ بعد أن قام دليل الغبن على أنّه غير لازم ، وأنّ القدر المتيقّن هو أوّل أزمنة الامكان ، يكون ذلك موجباً لخروج البيع المذكور عن العموم الأفرادي من قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، ومع خروجه عن العموم المذكور لا يمكن الحكم بعوده ثانياً بعد أوّل أزمنة الامكان ، لكن هذا فيما إذا لم يكن في البين دليل يدلّ على عوده ، والمفروض أنّ نفس دليل خيار المجلس وخيار الحيوان قاضٍ بلزومه بعد انقضاء المجلس وانقضاء الثلاثة ، ومقتضى ذلك هو أنّه فيما عدا المجلس والثلاثة باقٍ تحت عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) فلاحظ وتأمّل في ذلك.

وسيأتي إن شاء الله التعرّض لذلك في آخر هذا التنبيه (١) عند التعرّض لما أفاده المرحوم السيّد في حاشيته على المكاسب ، ومن جملة ذلك هو أنّ مثل قوله عليه‌السلام : « إذا افترقا وجب البيع » (٢) لا دلالة فيه على رجوع البيع إلى عموم الوفاء بالعقود ، بل أقصى ما في ذلك هو كون العقد بعد المجلس لازماً ، وحينئذ يكون المرجع عند الشكّ في لزوم البيع من بعض الجهات كما لو شكّ في خيار بائع الحيوان ، هو هذه الجملة أعني « إذا افترقا وجب البيع » ، لا عموم الآية الشريفة ، وهو خلاف ما جرى عليه الشيخ قدس‌سره.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ المنظور إليه في كلام الشيخ قدس‌سره هو أنّ المانع ليس هو الوحدة ، بل إنّ المانع هو التبعية الناشئة من أخذ العموم الأزماني ظرفاً للحكم ، وحينئذ يتمّ ما أفاده الأُستاذ قدس‌سره في تفسير مطلب الشيخ ، ولا يرد عليه النقض بخيار

__________________

(١) في الصفحة : ٤٢٩ وما بعدها.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ٦ / أبواب الخيار ب ١ ح ٤.

٣٧٤

المجلس ، وقد تقدّم في حاشية ص ١٩٨ (١) نقل عبائر الشيخ قدس‌سره في المكاسب ، فراجع ما ذكرناه هناك في شرح المراد منه ، وراجع أيضاً ما أشرنا إليه ممّا سيأتي في ملحق هذا التنبيه وتأمّل.

ولكن الذي يظهر من الشيخ قدس‌سره هو الالتزام بالإشكال ، وأنّ التمسّك بعموم الآية في حقّ بائع الحيوان موقوف على عدم ثبوت خيار المجلس ، قال قدس‌سره في تلك المسألة : لعموم قوله عليه‌السلام : « إذا افترقا وجب البيع » خرج المشتري وبقي البائع ، بل لعموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) بالنسبة إلى ما ليس فيه خيار المجلس بالأصل أو بالاشتراط ، ويثبت الباقي بعدم القول بالفصل (٢).

وهناك طريقة أُخرى للتمسّك بالاطلاق بعد العلم بالخروج في يوم السبت أوضحها المرحوم الحاج آغا رضا الهمداني قدس‌سره (٣) في حاشيته على قول الشيخ قدس‌سره : ولا فرق في استفادة الاستمرار من اللفظ كالمثال المتقدّم ( يعني قوله : أكرم العلماء دائماً ) ، أو من الاطلاق كقوله : تواضع للناس ، بناءً على استفادة الاستمرار منه ، فإنّه إذا خرج منه التواضع في بعض الأزمنة على وجه لا يفهم من التخصيص ملاحظة المتكلّم كلّ زمان فرداً مستقلاً لمتعلّق الحكم ، استصحب حكمه بعد الخروج (٤).

ومحصّل هذه الطريقة : هو التمسّك بإطلاق نفس المتعلّق الذي هو

__________________

(١) وهي الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٢٩٥ وما بعدها. راجع الصفحة : ٣٠٠ ومابعدها.

(٢) كتاب المكاسب ٥ : ٨٦.

(٣) حاشية فرائد الأُصول : ٤٢٩ ـ ٤٣١.

(٤) فرائد الأُصول ٣ : ٢٧٥.

٣٧٥

التواضع في مثاله قدس‌سره ، أو الوفاء في الآية الشريفة ، فإنّه بعد فرض أنّ المتكلّم لم يأخذ الزمان ظرفاً للفعل في لسان الدليل ، كي نتكلّم عنه أنّه لاحظ القطعات أو لاحظه زماناً واحداً مستمرّاً مستطيلاً ، بل لم يتكفّل الدليل إلاّتعليق الوجوب بالوفاء ، فأوّل درجة يحكم بها إطلاق المتعلّق هو الاكتفاء بأوّل وجود من الوفاء في أيّ زمان كان ، كما أنّ هذا شأنه في أفراد الوفاء العرضية ، لكن هذا المقدار من التعميم البدلي من حيث الأفراد الطولية التي يفرّدها الزمان غير مراد قطعاً ، لكون وجوبه لغواً ، فتنزيهاً للحكم المذكور عن اللغوية نحكم بسقوط هذا الاحتمال ، وحينئذ يدور الأمر بين كون المراد هو الوفاء في زمان خاصّ كسنة من حين العقد ، وبين إرادة مطلق الوفاء الذي يلزمه الاستمرار والدوام ، والاحتمال الأوّل ساقط لكونه محتاجاً إلى البيان ، فيتعيّن الاحتمال الثاني.

ثمّ لابدّ من بيان الفرق بين كون المراد هو الوفاء المطلق الموجود في تمام الأزمنة المعبّر عنه بالوفاء الدائم الذي هو أمر وحداني ، وبين كون المراد هو مطلق الوفاء الذي عرفت أنّه بعد القطع بعدم إرادة فردٍ ما منه لكونه موجباً للغوية الحكم يكون عبارة عن تعليق الوجوب بمطلق الوفاء ، الذي يكون لازمه الدوام والاستمرار ، وآنات الوفاء على الأوّل أجزاء المكلّف به وعلى الثاني أفراده.

والمراد بالاطلاق في المقام هو الثاني دون الأوّل ، لأنّ الأوّل عبارة أُخرى عن التقييد الذي عرفت أنّه يحتاج إلى بيان ، فهو على حدّ سواء مع تقييد الوفاء بسنة مثلاً ، إذ لا فرق بين أن يقيّد الوفاء بسنة أو يقيّده بتمام الزمان من أوّل العقد إلى آخر الدهر ، وإذا كان المتعيّن هو الثاني كان قابلاً للتمسّك به فيما عدا ما ثبت خروجه.

قلت : وفيه : أنّ الأوّل وإن كان راجعاً إلى التقييد ، إلاّ أنّه لمّا كان غير محتاج

٣٧٦

إلى البيان ، وكان مقابله وهو التقييد بزمان خاصّ كسنة مثلاً هو المحتاج إلى البيان كان عدم البيان كافياً في الحكم بإرادته ، كما هو الشأن في كلّ ما يكون فيه أحد النحوين محتاجاً إلى البيان وكان النحو الآخر غير محتاج إلى البيان.

ثمّ إنّه لو أُغضي النظر عن ذلك وقلنا بأنّ المراد هو الثاني ، لم يكن ذلك إلاّ عبارة عن استنتاج العموم في الأفراد الطولية للوفاء من الاطلاق المذكور ، سواء كان على نحو الشمول أو المجموعية ، فيخرج حينئذ ممّا هو محلّ الكلام ، لكنّه قدس‌سره مع تسميته له بالعموم السرياني بحسب الأزمان قال : إنّه غير مستلزم كون الأحوال أو قطعات الزمان أفراداً مستقلّة للعموم الناشئ من الاطلاق ، لأنّ معروض الحكم هو صرف طبيعة التواضع ، فتواضعه دائماً مصداق واحد ، لكن أبعاض ما هو مسمّى باسم الطبيعة محكوم بحكمها ـ إلى أن قال : ـ والحاصل : أنّ الاستمرار الذي يفهم من إطلاق مثل « أكرم كلّ عالم » هو أنّ كلّ عالم يجب إكرامه مطلقاً لا بشرط شيء ، لا إكرامه المشروط بالاطلاق ، وبينهما فرق بيّن ، فإنّ أجزاء الإكرام المستمرّ ممّا هو مسمّى باسم هذه الطبيعة على الأوّل جزئي للواجب ، وعلى الثاني من أجزائه (١) انتهى ملخّصاً.

ولعلّ مراده من نفي لحاظ القطعات مستقلاً هو نفي أخذها على نحو العموم الشمولي ، فلا ينافي كون كلّ منها فرداً من الواجب من جهة كونها على نحو العموم المجموعي ، أو من [ جهة ] كون المطلوب هو صرف الطبيعة وكلّ من القطعات فرد منها ، غايته أنّه لا يكفي في مقام الامتثال ، لأنّ إطلاقه اقتضى الدوام والاستمرار.

وعلى كلّ حال ، لا مشاحّة في الاصطلاح ، ولا مناقشة في التعبير ، وأنّ ما

__________________

(١) حاشية فرائد الأُصول : ٤٣٠.

٣٧٧

أفاده من الوجه الثاني قابل للتمسّك به في مقام الشكّ بعد خروج ما خرج ، كما أنّ الأوّل غير قابل له ، والشيخ قدس‌سره ينزّل الاطلاق على الأوّل ، وهو قدس‌سره ينزّله على الثاني ولا ريب في أنّ عدم البيان قرينة على إرادة ما لا يحتاج إلى بيان ، فالعمدة هي أنّ أيّهما المحتاج إلى البيان ، ولا شكّ في عدم احتياج الثاني إليه ، وإنّما الإشكال في الأوّل ، والظاهر أنّه كذلك ، أعني أنّه يكفي في أخذ الاطلاق قيداً عدم التقييد بقيد خاصّ ، لكنّه إنّما يتمّ فيما لو دار الأمر بينهما ، بأن دار الأمر فيما نحن فيه بين التقييد بسنة والتقييد بالدوام الذي هو عبارة عن التقييد بالاطلاق ، ولم يكن في البين شقّ ثالث ، وهو صرف الطبيعة القاضي بالسريان والاستمرار.

والذي أظن أنّ تعلّق الوجوب بصرف الطبيعة لا يقتضي السريان ، وإنّما ذلك في النواهي ، وأمّا باب الأوامر فلا يكون تعلّقها بالطبيعة إلاّقاضياً بمطلوبية صرف الوجود المنطبق على أوّل وجود ، وهو المعبّر عنه بالعموم البدلي ، وبعد امتناع إرادته في المقام يتعيّن حمل الاطلاق وعدم البيان على عدم إرادة التقييد بما يحتاج إلى البيان كسنة ونحوها من حين العقد ، ومن الواضح انحصار المراد ـ بعد ثبوت عدم إرادة صرف الوجود وبعد عدم إرادة المقيّد بزمان خاصّ ـ بما يكون دائمياً ، غايته أنّه مراد بما أنّه مصداق لصرف الطبيعة ، لا بما أنّه مقيّد بالدوام ، ولعلّ هذا هو مراده من النحو الثاني ، لكنّه على هذا لا يتعيّن الدوام ، بل يمكن اختيار الوفاء بمدّة طويلة مثل سنة في قبال اختيار الدوام ، لأنّه ليس من قبيل الوفاء آناً ما لتلزم اللغوية ، ولا من قبيل التقييد بتلك المدّة الخاصّة ليقال إنّ التقييد بها محتاج إلى البيان ، مع أنّه من مصاديق صرف الطبيعة ، فلا مانع من الاكتفاء به ، ويؤيّد ذلك أنّه جعله جزئياً وفرداً من الواجب ، إذ مع كونه فرداً ينبغي الاكتفاء به ، ولكنّه غير ممكن ، وإلاّ عاد محذور اللغوية ، وحيث إنّه لم يمكن الاكتفاء به دلّ

٣٧٨

ذلك على أنّ المراد هو العموم الشمولي أو المجموعي أو هو الدوام والاستمرار ، ولا ثالث في البين ، وحيث إنّ العموم الشمولي أو المجموعي يتوقّف على لحاظ القطعات مجتمعة أو متفرّقة ، والمفروض أنّ المتكلّم لم يلاحظ قطعات الوفاء بحسب تقطيع الزمان كان المتعيّن هو الثاني ، لأنّ الدوام لا يتوقّف على أزيد من لحاظ طبيعة الوفاء الواحد المالئ للزمان الواحد ، وهذا يمكن إحرازه بعد انسداد احتمال مطلوبية صرف الوجود ومطلوبية الوفاء في زمان مخصوص ، فلاحظ وتأمّل.

وينبغي مراجعة ما أفاده المرحوم الحاج آغا رضا قدس‌سره في كتاب البيع (١) ، ولعلّ فيه بعض المنافاة لما ذكره في حاشية الرسائل.

قال المرحوم الأصفهاني في حاشيته : إنّ للعام الذي لوحظ الزمان الواحد ظرفاً لاستمرار حكمه ـ إلى قوله ـ ومقتضى إطلاقه أنّ هذا الحكم ثابت لهذا الفرد كسائر الأفراد في هذا الزمان المستمرّ ، من دون تخصّصه بوجود خصوصية محدّدة ولا بعدمها (٢).

لا يخفى أنّ مثل قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) لا تعرّض فيه للزمان ، فمن أين جاء هذا المعنى وهو أنّ كلّ فرد من أفراد العقود يثبت له هذا الحكم ـ أعني وجوب الوفاء ـ في الزمان المستمرّ ، كي نتكلّم على إطلاقه وأنّه لم يتخصّص بخصوصية خاصّة من وجود أو عدم.

نعم ، إنّ الوفاء زماني لابدّ أن يكون واقعاً في زمانٍ ما ، فوجوبه على هذا النحو من الاطلاق القاضي بأنّ المطلوب هو وفاءٌ ما في زمانٍ ما يكون لغواً ، فلابدّ

__________________

(١) راجع حاشية كتاب المكاسب : ٥٠٤ ـ ٥٠٧.

(٢) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٢١٩ ـ ٢٢٠.

٣٧٩

من استكشاف أنّ المطلوب هو الوفاء في كلّ آن ، أو الوفاء المستمرّ ، أو أنّ وجوبه موجود في كلّ آن ، أو أنّ وجوبه مستمر من أخذ العموم الأزماني مقطّعاً أو دواماً في الحكم أو في المتعلّق. ومن الواضح أنّ هذا أمر آخر لا دخل له بالاطلاق المفيد للدوام والاستمرار ، ولو سلمت القضية من هذه اللغوية كما في مثل أكرم كلّ عالم ، لم يكن الاطلاق فيها قاضياً إلاّبوجوب طبيعة الإكرام غير مقيّدة بنحو خاصّ من الاكرام ، ولا بمكان خاصّ ولا بزمان خاصّ ، فلا تكون نتيجة هذا الاطلاق إلاّ العموم البدلي من هذه النواحي الثلاثة ، وقضية ذلك هو الاكتفاء بإكرام العالم في أيّ زمان شاءه المكلّف ، فلا يكون نتيجته إلاّ الايجاب الجزئي ، فلو ثبت أنّ زيداً لا يجب إكرامه أو يحرم إكرامه في يوم السبت ، لم يكن ذلك منافياً لما تضمّنته القضية الأُولى من وجوب إكرامه في زمان ما ، فلا يكون في البين دخول ولا خروج لو تمسّكنا بعموم قوله : يجب إكرام كلّ عالم ، في حقّ زيد بالنسبة إلى غير يوم السبت كي يترتّب عليه قوله : فإن أُريد التمسّك بحيثية عمومه فالأمر كما مرّ ، حيث إنّ الواحد لا يعقل أن يكون خارجاً وداخلاً ، بل خروج الواحد إذا ثبت فبالملازمة العقلية يقال بخروجه بقول مطلق ، ولا يعقل الشكّ في شمول هذا الحكم المجعول له أصلاً (١).

نعم ، لو تمّ ما أفاده بقوله : ومقتضى إطلاقه أنّ هذا الحكم ثابت لهذا الفرد كسائر الأفراد في هذا الزمان المستمرّ من دون تخصّصه بوجود خصوصية محدّدة ولا بعدمها ، انتهى لكان حاصل الاطلاق هو كون مركز الحكم هو الدوام والاستمرار في عمود الزمان ، وحينئذ يكون زيد المذكور في يوم السبت خارجاً عن العموم قطعاً ، لا أنّه داخل في غير يوم السبت وخارج في يوم السبت كي يلزم

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٢٢٠.

٣٨٠