أصول الفقه - ج ١٠

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٠

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-83-6
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٩٤

قوله : وأمّا إذا علم بتاريخ الكرّية ، فأصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرّية لا تثبت تأخّر الملاقاة عن الكرّية ، ومع عدم إثبات ذلك لم يحرز موضوع الطهارة مع أنّه لابدّ منه ، فإنّ تعليق الحكم على أمر وجودي يقتضي إحراز وجوده في ترتّب الحكم عليه ، ومع الشكّ في وجوده يبنى على عدم الحكم ... الخ (١).

لا يخفى أنّ استصحاب عدم الملاقاة إلى ما بعد الكرّية لا يراد منه إلاّ إحراز الطهارة الواقعية ، وهي متوقّفة على كون هذه الملاقاة واقعة بعد الكرّية ، وأصالة عدم الملاقاة إلى ما بعد الكرّية لا تثبت ذلك ، وذلك واضح. كما أنّ استصحاب عدم وقوع الملاقاة في حال القلّة لا يكفي في الحكم بالطهارة ، لأنّه من قبيل ليس التامّة والمطلوب هو مفاد كان الناقصة ، فإنّ الحكم بالطهارة لا يمكن إلاّ إذا كانت هذه الملاقاة متصفة بأنّها لم تقع في حال القلّة ، إذ لابدّ من إحراز حال هذه الملاقاة وأنّها هل كانت في حال القلّة أو لم تكن واقعة في حال القلّة ، فهذه الجملة ـ أعني قوله : إنّ تعليق الحكم على أمر وجودي يقتضي إحراز وجوده الخ ـ إن كان المراد منها هو هذا الذي ذكرناه من أنّ استصحاب عدم الملاقاة إلى ما بعد الكرّية لا تثبت موضوع الطهارة ، وهو كون الملاقاة بعد الكرّية ، أو كونها غير واقعة في حال القلّة ، كما لا يبعد أن يكون ذلك هو المراد بها فيما تقدّم من قوله : وكلّ موضوع لابدّ وأن يكون مقدّماً على الحكم الخ ، فذلك مسلّم ، إلاّ أنّه لا يحسن أن يترتّب عليه قوله : ومع الشكّ في وجوده يبنى على عدم الحكم الخ ، فإنّ الشكّ في وجود الموضوع لا يوجب البناء على عدم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٢٩ ـ ٥٣٠.

٢٨١

الحكم ، بل إنّما أقصى ما فيه هو عدم تحقّق الحكم والتوقّف من هذه الناحية.

نعم ، هنا أمر آخر وهو مسألة المانعية التي يشرحها قدس‌سره في محلّها (١) من أنّ تعليق الحكم الترخيصي على أمر وجودي ، كالطهارة فيما نحن فيه المعلّقة على أمر وجودي وهو الكرّية ، يستفاد منه أنّ الحكم الترخيصي بالأعمّ من الترخيص الظاهري والواقعي يتوقّف على إحراز ذلك الأمر الوجودي ، فما لم يكن ذلك الأمر الوجودي ـ الذي هو الكرّية فيما نحن فيه ـ محرزاً يكون الحكم هو الاجتناب ، لأنّ ذلك التعليق يكون موجباً لانقلاب الأصل في المسألة من البراءة مثلاً أو قاعدة الطهارة فيما نحن فيه ، إلى الاحتياط. وهذا الانقلاب هو الذي أوجب عدم الرجوع في هذه المسألة ـ أعني مسألة العلم بتاريخ الكرّية والجهل بتاريخ الملاقاة ـ إلى قاعدة الطهارة. وكان ذلك الأصل هنا مساوقاً للأصل الناشئ عن الأخذ بالمقتضي الذي هو الملاقاة مع الشكّ في وجود المانع الذي هو الكرّية.

قوله : نعم ، لو كان الماء مسبوقاً بالكرّية ثمّ طرأ عليه القلّة ، فاستصحاب بقاء الكرّية إلى زمان الملاقاة يجري ويحكم عليه بالطهارة (٢).

هذا فيما إذا كانا مجهولي التاريخ أو كانت الملاقاة معلومة التاريخ ، أمّا لو كانت القلّة معلومة التاريخ فإنّ استصحاب عدم الملاقاة إلى ما بعد القلّة لا يجري ، إذ لا يثبت بها وقوع الملاقاة في حال القلّة ، وحينئذ نبقى نحن والملاقاة والشكّ في الكرّية عندها ، فإن قلنا بالمانعية كما هو مسلكه قدس‌سره كان الحكم حينئذ هو

__________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٣٠.

٢٨٢

التجنّب والنجاسة ، لعدم إحراز المانع من النجاسة ، وإن قلنا بأنّ القلّة شرط في تحقّق النجاسة ، كان المرجع في هذه الصورة هو قاعدة الطهارة ، كما مرّ عليك تفصيل ذلك كلّه.

٢٨٣

[ استصحاب حكم المخصّص ]

قوله : لا إشكال في أنّ الأصل في باب الزمان أن يكون ظرفاً لوجود الزماني ، إلاّ أن يقوم دليل بالخصوص على القيدية ... الخ (١).

كون الأصل كذلك يحتاج إلى تأمّل أو تتبّع ، ولعلّ الموارد مختلفة ، وإلاّ فإنّ الزماني بعد فرض كون وجوده في الزمان قهرياً ، لا يكون ذكره من دون مدخلية له فيما هو متعلّق الحكم أو في الحكم نفسه إلاّلغواً ، وعليه فيكون الأصل في ذكر الزمان هو القيدية ، نعم ربما كان الزمان دخيلاً في العلم لا في المعلوم ، مثل ما لو ثبت الخيار وكان القدر المتيقّن منه هو في أوّل أزمنة الامكان ، صحّ فيه الاستصحاب لكون الزمان غير مأخوذ في نفس المعلوم ، وإنّما كان هو ظرف معلوميته.

ولعلّ المراد من كون الأصل في الزمان هو الظرفية لا القيدية هو كون الأصل كذلك مع قطع النظر عن أخذه في لسان الدليل ، بمعنى أنّه مع قطع النظر عن أخذه في لسان الدليل لو بقينا نحن وكون ذلك الزماني واقعاً في الزمان قهراً ، يكون الأصل هو مجرّد الظرفية القهرية ، ولا يحكم بكونه له المدخلية فيما هو واقع فيه إلاّ بدليل يدلّ على ذلك ، ولو كان ذلك هو مجرّد أخذه في لسان الدليل. وعلى كلّ حال فالأمر سهل ، ولعلّ أن يأتي ما يوضّحه في طي المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٣٢.

٢٨٤

قوله : الأمر الثاني إذا علم من دليل الحكم أو من الخارج لحاظ الزمان قيداً في الحكم أو المتعلّق ، فتارةً يلاحظ الزمان على وجه الارتباطية أي يلاحظ قطعة من الزمان مجتمعة الآنات ... الخ (١).

لا يخفى مدخلية الأمر الأوّل في هذا التنبيه ، فإنّ أخذ الزمان قيداً في الخاصّ الخارج عن العموم يوجب منع جريان استصحاب حكم الخاصّ إلى ما بعد ذلك الزمان ، بخلاف أخذ الزمان ظرفاً فيه. أمّا ما تضمّنه هذا الأمر الثاني من كون العموم الأزماني عموماً مجموعياً ، أو كونه عموماً استغراقياً ، فلا دخل له على الظاهر في هذا التنبيه. أمّا الاستصحاب فواضح ، وأمّا التمسّك بالعام فكذلك أيضاً لصحّة التمسّك بالعموم الأزماني فيما عدا القدر المتيقّن خروجه ، سواء كان العموم الأزماني استغراقياً ، أو كان مجموعياً. كما صرّح به قدس‌سره فيما حرّره عنه المرحوم الشيخ موسى في حواشي خيار الغبن من المكاسب في أوّل ص ٨٨ (٢) ، وكما صرّح به في تحرير السيّد سلّمه الله ص ٤٣٩ وص ٤٤٠ (٣). أمّا الاستغراقي فواضح ، وأمّا المجموعي فكذلك ، فإنّه لو كان لنا عموم أزماني مجموعي ، وكان قد خرج بعض أفراد ذلك العام عن حكم العام في بعض الأزمان ، لا ينبغي الريب في الرجوع إلى عموم ذلك العام الأزماني فيما عدا ذلك الزمان المفروض خروج ذلك الفرد فيه ، كما صرّح به في تحرير السيّد سلّمه الله (٤) ، سواء كان ذلك الزمان من الأوّل ، أو كان من الآخر ، أو كان من الوسط. أمّا الأوّلان فواضح ، وأمّا الأخير

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٣٣.

(٢) منية الطالب ٣ : ١٦٤.

(٣) أجود التقريرات ٤ : ١٦٩.

(٤) أجود التقريرات ٤ : ١٧٠.

٢٨٥

فكذلك ، لإمكان بقاء المجموعية بالنسبة إلى ما عدا ذلك الوسط ، إذ ليست المجموعية إلاّعبارة عن الارتباطية بين الأجزاء التي لا ينافيها خروج الوسط ، كما يشاهد في صوم الثلاثة أيّام بدل الهدي بناءً على الارتباطية ، فإنّ خروج الليالي في الوسط لا ينافي اعتبار المجموعية بالنسبة إلى آنات النهارات الثلاثة.

نعم ، هناك أمر آخر يترتّب عليه عدم جواز التمسّك بالعموم الأزماني بعد خروج بعض الأفراد في بعض الأزمان عن ذلك العموم الأزماني ، وهو ما يأتي في الأُمور الآتية من أخذ العموم الأزماني دوامياً ، وكونه وارداً على الحكم ، لا أنّ الحكم واردٌ عليه.

ثمّ لا يخفى أنّ أخذ العموم الأزماني مجموعياً أو أخذه استغراقياً ، يتأتّى مع كون العموم الأفرادي استغراقياً أو كونه مجموعياً ، فتأمّل.

ومن جميع ما حرّرناه يتّضح لك أنّ كون العموم الأزماني مجموعياً أو كونه استغراقياً ، لا يتفرّع على أخذ الزمان قيداً في الخاصّ ، بل إنّما يترتّب المجموعية والاستغراقية في العموم الأزماني على ثبوت العموم الأزماني في الحكم العام ، فكان عليه أن يبدّل قوله : إذا علم من دليل الحكم أو من الخارج لحاظ الزمان قيداً في الحكم أو المتعلّق الخ ، بقوله : إذا ثبت العموم الأزماني فتارةً يكون على نحو الارتباطية والمجموعية ، وأُخرى يكون على نحو الاستقلالية والاستغراق.

قوله : وثالثة يستفاد من دليل الحكمة ومقدّمات الإطلاق ... الخ (١).

لا يخفى أنّه ليس المراد من دليل الحكمة هنا هو مقدّمات الإطلاق التي من جملتها أنّ المتكلّم في مقام البيان ولم يبيّن ، فإنّ ذلك إنّما يقال في مقابل احتمال التقييد ، سواء كان نفي احتمال التقييد منتجاً للعموم البدلي ، أو كان منتجاً للعموم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٣٥.

٢٨٦

الشمولي ، بل المراد من دليل الحكمة هنا هو نفي احتمال إرادة العموم البدلي من مثل قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) وقوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٢) ، بإرادة بيع مّا أو إرادة وجوب الوفاء آناً مّا ، فإنّه يوجب لغوية الحكم وذلك مناف للحكمة ، فلابدّ أن يريد حلّية جميع أفراد البيع ، ووجوب الوفاء بالعقد في جميع الآنات ، وأين هذا من مقدّمات الإطلاق. نعم يمكن أن يقال : إنّ لزوم اللغوية يدفع العموم البدلي ، ثمّ يدور الأمر بين كون وجوب الوفاء دائمياً ، أو كونه في زمان خاصّ مثل شهر وسنة ونحوهما ، وحيث إنّه لم يبيّن ذلك ، كشف عن كون المراد هو الدوام والاستمرار ، فتكون النتيجة حاصلة من دليل الحكمة الذي هو لزوم اللغوية ومن مقدّمات الإطلاق.

قوله : وأُخرى يستفاد العموم الزماني من دليل لفظي آخر ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة ، وحرام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حرام إلى يوم القيامة » (٣) ... الخ (٤).

عدّ هذه الجملة من أدلّة العموم الأزماني في ناحية الحكم أو في ناحية المتعلّق ، لا يخلو عن تأمّل وإشكال ، إذ ليست هي في مقام التشريع وتوسعة الحكم أو متعلّقه ، كما أنّها ليست حكماً شرعياً بعدم النسخ ، وإلاّ كانت قابلة للنسخ ، بل هي من الإخبار منه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ أحكامه لا تنسخ بعده ، إذ لا نبيّ بعده.

ولو سلّمنا أنّها حكمٌ شرعيٌ بعدم النسخ ، فليس مفادها الاستصحاب ، بل

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٢) المائدة ٥ : ١.

(٣) الكافي ١ : ٥٨ / باب البدع والرأي والمقاييس ح ١٩.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٥٣٤ ـ ٥٣٥.

٢٨٧

لا يكون مفادها إلاّ الحكم الشرعي الواقعي بأنّ أحكامه باقية بعده لا ناسخ لها. وهذه يكون مفادها وارداً على الحكم الشرعي حتّى ما يكون مقيّداً بالاستمرار والدوام أو بالوجود في كلّ زمان ، وهي غير نافعة إلاّفي مقام الشكّ في نسخ الحكم ، أمّا الشكّ في كيفية الحكم وأنّه دائمي أو آني ، أو أنّه موجود في كلّ آن أو غير موجود إلاّفي بعض الآنات فلا مورد لها فيه ، بل بناءً على كون مفادها التشريع والحكم الشرعي بعدم النسخ ، ينحصر مفادها في مقام الشكّ في نسخ الحكم ، ويكون مفادها مطابقاً لمفاد استصحاب عدم النسخ ، غير أنّ مفاده هو الحكم الظاهري بالبقاء ومفادها هو الحكم الواقعي بالبقاء.

ثمّ لا يخفى أنّ مفاد الصورة الأُولى وهي مثال أكرم العلماء في كلّ يوم أو دائماً ، لا يمكن أن يكون عند شيخنا قدس‌سره من التعميم في ناحية الحكم ، بل لابدّ أن يكون عنده من التعميم في ناحية المتعلّق ، لاستحالة النظر في حال جعل الحكم إلى الحكم عليه بالعموم الأزماني. وأمّا الصورة الثالثة وهي لزوم لغوية الحكم لو لم يكن مقيّداً بالعموم الأزماني ، فلمّا أمكن دفع اللغوية بأخذ العموم في ناحية المتعلّق ، لم يكن في البين ما يوجب أخذه في ناحية الحكم. ثمّ لو أغضينا النظر عن ذلك لم يكن ذلك دليلاً على كون هذا العموم أو الدوام فوق الحكم ليكون تشريعاً جديداً فوق تشريع أصل الحكم ، بل يمكن جعله كاشفاً عن سعة التشريع الأوّل ، فلا يكون حكماً جديداً فوق الحكم الأوّل كما يرومه شيخنا قدس‌سره ، إلاّ أن نقول باستحالة التوسعة في التشريع الأوّل ، وسيتّضح التأمّل فيه (١) ، وقد

__________________

(١) [ لعلّه قدس‌سره يريد بذلك ما ذكره في حاشيته المفصّلة الآتية في الصفحة : ٣١١ ومابعدها ].

٢٨٨

تعرّض شيخنا قدس‌سره في باب التعادل والتراجيح ص ٢٧٥ (١) للفرق بين العموم المستفاد من الطريقة الثانية والعموم المستفاد من الثالثة.

قوله : الأمر الرابع : مصبّ العموم الزماني تارةً يكون متعلّق الحكم ، وأُخرى يكون نفس الحكم ، بمعنى أنّه تارةً يلاحظ الزمان في ناحية متعلّق التكليف والفعل الصادر عن المكلّف ، كالوفاء والإكرام والشرب ونحو ذلك من متعلّقات التكاليف ... الخ (٢).

الظاهر أنّ مرجع هذا الأمر إلى أنّ الزمان المفروض كونه عاماً ، تارةً يكون متعلّقاً بالفعل الذي تعلّق به التكليف كالإكرام في قولنا : أكرم كلّ عالم ، وأُخرى يكون متعلّقاً بنفس الحكم الذي تعلّق بذلك الفعل ، ففي مثل قول الآمر : يجب إكرام كلّ عالم في كلّ آن ، تارةً نجعل قوله : كلّ آن ، الذي هو ظرف عام متعلّقاً بقوله إكرام ، وأُخرى نجعله متعلّقاً بقوله : يجب. فعلى الأوّل يكون مصبّ العموم الأزماني هو الفعل الذي تعلّق به التكليف ، وفي الثاني يكون مصبّ العموم المذكور هو نفس التكليف الذي هو الوجوب ، ومن الواضح أنّ ذلك بمجرّده لا يكون موجباً لكون العموم في الثاني فوق الحكم ، بل أقصى ما فيه أن يكون قيداً فيه ، فلا يكون العموم الأزماني في ذلك إلاّكسائر القيود من قبيل الاستطاعة والدلوك ، فإنّها على تقدير تعلّقها بالوجوب تكون قيداً له.

نعم ، لو أُخذ الوجوب موضوعاً في قضية حملية ، وجعل الزمان العام محمولاً عليه ، بأن نقول : الوجوب ثابت في كلّ آن ، لكان العموم الأزماني فوق الوجوب. كما أنّا لو جعلنا الاستطاعة أو الدلوك قيداً في الوجوب ، وجعلناه

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٣٩ ـ ٧٤٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٣٥.

٢٨٩

محمولاً عليه ، وقلنا : الوجوب ثابت في حال الاستطاعة أو عند الدلوك ، لكان فوق الوجوب.

ومنه يظهر التأمّل فيما أُفيد في الجهة الأُولى من الأمر الخامس ، من أنّه على تقدير كون مصبّ العموم الأزماني هو الوجوب ، لم يعقل أن يكون دليل ذلك الوجوب متكفّلاً له ، بل لابدّ أن يتكفّله دليل آخر مفاده أنّ الوجوب ثابت في كلّ آن ، ووجه التأمّل فيه هو ما أشرنا إليه من أنّ الاحتياج إلى الدليل الآخر إنّما يتمّ لو أبرزنا ذلك العموم الأزماني بالقضية الحملية القائلة إنّ الوجوب ثابت في كلّ آن ، فإنّ ذلك لا يتمّ حينئذ إلاّبقضية أُخرى غير القضية القائلة إنّ اكرام العلماء واجب ، لأنّ الوجوب في القضية القائلة إنّ إكرام العلماء واجب قد أُخذ محمولاً على الاكرام ، والقضية القائلة إنّ الوجوب ثابت في كلّ آن قد أُخذ فيها الوجوب موضوعاً ، ولا يعقل أن يجتمع اللحاظان ، أعني لحاظ الوجوب محمولاً على الاكرام ولحاظه موضوعاً لقولنا : ثابت في كلّ آن.

وإن شئت فقل كما أُفيد : أنّ العموم الأزماني المحمول على الوجوب إنّما هو فرع ثبوت الوجوب ، فلا يعقل أن يكون الدليل المتكفّل لأصل جعل الوجوب متكفّلاً للحكم على ذلك الوجوب بأنّه ثابت في كلّ آن. ولكن ذلك كلّه فرع أخذ العموم الأزماني الوارد على الحكم بصورة القضية الحملية ، أمّا إذا أُخذ بصورة القيد للوجوب المذكور ، فأيّ مانع يمنع من جعل الوجوب الذي هو في كلّ آن وارداً على الاكرام ، بأن يقول : يجب في كلّ آن اكرام العلماء ، أو يقول : إنّ إكرام العلماء واجب في كلّ آن.

وبعبارة أُخرى : أنّ الآمر في مرتبة جعله الحكم كما يمكن أن يجعله مقيّداً بالزمان الخاصّ ، بأن ينشئ الوجوب المقيّد بالزمان الخاصّ ويورده على إكرام

٢٩٠

العلماء ، بأن يقول : أوجبت عليك في يوم الجمعة إكرام العلماء ، فكذلك له أن يجعله مقيّداً بالزمان العام ، بأن يقول : أوجبت عليك في كلّ زمان إكرام العلماء ، بحيث إنّه في حال جعله الوجوب المذكور ينظر إليه مفروض الوجود في كلّ آن ، ويجعله وارداً على اكرام العلماء ، إذ ليس وجود الحكم في الزمان الخاص أو وجوده في كلّ زمان من التقسيمات اللاحقة للحكم بعد فرض أصل جعله كالعلم به والجهل ، كي لا يمكن لحاظه مقيّداً أو عاماً في مرتبة جعله ، وأنّه لابدّ في تقييده بالعلم أو توسعته إلى كلّ من حال العلم والجهل من جعلٍ آخرٍ يكون متمّماً للجعل الأوّل. بل إنّ ذلك ـ أعني كونه موجوداً في الزمان الخاصّ ، أو كونه موجوداً في كلّ آن ـ من التقسيمات القابلة لأن تلاحظ حين جعله. نظير الاستطاعة وعدمها ، في أنّ الحكم عند جعله قابلٌ لأن يلاحظه الجاعل مقيّداً بحال الاستطاعة حين الجعل ، ولأن يلاحظه غير مقيّدٍ بالاستطاعة ، بل يلاحظه حين الجعل مفروض الوجود عند كلّ من حالتي الاستطاعة وعدمها.

وحينئذ فيمكن للآمر أن يلاحظ الوجوب حين جعله مظروفاً لكلّ آن ويجعله وارداً على إكرام العلماء ، بأن يقول : أوجبت في كلّ آن إكرام العلماء ، أو يقول : إنّ اكرام العلماء واجب في كلّ آن ، من دون حاجة إلى تعدّد الجعل ، بأن يجعل الوجوب أوّلاً وارداً على إكرام العلماء ثمّ يوسّعه ويجعل تحقّقه في كلّ آن ، فإنّ ذلك تطويلٌ بلا طائل وتبعيد للمسافة بلا جهة توجب ذلك. بل يمكن أن يقال : إنّه لابدّ من وحدة الجعل ، بأن يكون المجعول في مقام الثبوت هو الوجوب في كلّ آن ، لاستحالة الاهمال في الواقع وفي مقام الثبوت. هذا كلّه في مقام الثبوت.

وأمّا مقام الاثبات فقد عرفت أنّه يمكن إبراز ذلك العموم الأزماني بصورة

٢٩١

المركّب التقييدي ، فيكون المتكفّل للدلالة على أصل الوجوب وعلى عموم الأزماني دليلاً واحداً ، فيقول : أوجبت في كلّ آن إكرام العلماء ، كما أنّه يمكنه أن يبرزه بصورة المركّب الخبري أعني الجملة الحملية ، بأن يقول أوّلاً : أوجبت عليك إكرام العلماء ، ويكون ذلك الدليل في مقام الاثبات مهملاً من حيث الزمان ، ثمّ يقول : إنّ هذا الوجوب ثابت في كلّ آن ، فيكون المتكفّل للدلالة على أصل الوجوب هو الدليل الأوّل ، والمتكفّل للدلالة على عمومه الأزماني هو الدليل الثاني ، مع أنّ المحكي عنه في الواقع أمر واحد ، وهو الوجوب الثابت في كلّ آن الوارد على إكرام العلماء.

ولا يمكن أن يكون أمرين ، أحدهما جعل وجوب إكرام العلماء ، والآخر جعل ذلك الوجوب واسعاً ومتحقّقاً في كلّ آن ، بأن يكون في الجعل الأوّل غير ناظر إلى توسعة الوجوب وضيقه ، وفي الجعل الثاني يجعل توسعته وتحقّقه في كلّ آن ، لما عرفت من أنّ ذلك التعدّد في مقام الجعل غير ممكن ، لعدم إمكان الإهمال في الواقع بالنسبة إلى مثل هذه الجهات ، القابلة لأن تكون لاحقة للمجعول في مرتبة جعله ، وإنّما يمكن ذلك في الجهات التي لا يعقل أن تكون لاحقة له في مرتبة جعله ، لتأخّرها رتبة عن أصل وجود المجعول ، كما في العلم والجهل المتعلّقين به ، فإنّهما لمّا كانا متأخّرين رتبة عن الجعل لم [ يمكن ] النظر إليهما في مرتبة الجعل ، فلا يمكن أن يتّصف ذلك المجعول في مرتبة جعله بالاطلاق والتقييد من مثل تلك الناحية ، بخلاف ما نحن فيه ممّا كان من الجهات قابلاً للحاظ في مرتبة الجعل ، فإنّه يستحيل في مثلها الخروج به في مقام الجعل عن حيّز الاطلاق والتقييد من ناحيتها.

ثمّ لا يخفى أنّ هاتين الجهتين ـ أعني أخذ العموم الأزماني في ناحية

٢٩٢

المتعلّق الذي هو الاكرام ، وأخذه في ناحية الحكم الذي هو نفس الوجوب الوارد على الاكرام ـ متلازمتان ، وأيّ من هاتين تحقّقت بالقصد تكون الأُخرى متحقّقة قهراً ، كما قلناه في مسألة دوران الأمر في القيد بين رجوعه إلى المادّة ورجوعه إلى مفاد الهيئة ، فإنّك لو أخذت العموم الأزماني ـ أعني قولك : في كلّ زمان ـ مربوطاً ومتعلّقاً بالاكرام ، ليكون محصّله أنّ الاكرام في كلّ آن واجب ، كان ذلك موجباً قهراً لوجود الوجوب في كلّ آن ، كما أنّك لو أخذته في ناحية الوجوب وقلت : يجب في كلّ آن الاكرام ، كان ذلك موجباً قهراً لكون الاكرام موجوداً في كلّ آن ، وحينئذ لا يتمّ الفرق بين الجهتين في أنّ الثانية منهما وهي تقيّد الوجوب بوجوده في كلّ آن لابدّ أن يتكفّلها دليل آخر غير دليل وجوب الاكرام ، بخلاف الجهة الأُولى منهما وهي تقيّد الاكرام بكونه في كلّ آن ، بدعوى أنّها يتكفّلها الدليل الدالّ على وجوب الاكرام ، وكيف تتمّ هذه التفرقة مع فرض أنّ الجهتين متواردتان على جملة واحدة ، وهي قولنا : يجب الاكرام في كلّ آن ، وأنّ هذه الجملة يمكن أن يكون قولنا فيها : في كلّ آن ، متعلّقاً بالاكرام ، ويمكن أن يكون متعلّقاً بالوجوب.

وحاصله : أنّ الآمر في مقام جعله الوجوب وخلقه له تشريعاً ، يمكنه لحاظ « كلّ آن » في ناحية الإكرام كما يمكنه لحاظه في ناحية الوجوب. ودعوى أنّ لحاظه الوجوب في كلّ آن متأخّر عن جعله ، فلا يمكن أن يكون الدليل المتكفّل لأصل جعل الوجوب متكفّلاً لعمومه الأزماني الذي هو عبارة عن كونه موجوداً في كلّ آن لا تخلو عن تأمّل ، فإنّ الآمر عندما يورد الوجوب على الاكرام لابدّ أن يلاحظ الاكرام في ذلك الحال ، وهل لاحظه موجوداً في كلّ آن وحكم عليه بالوجوب ، أو لاحظه موجوداً في بعض الآنات ، أو لاحظه موجوداً في آن معيّن وحكم عليه؟ ويستحيل أن يكون الاكرام في حال إيراد الوجوب عليه في مقام

٢٩٣

الثبوت مهملاً من هذه الجهات ، فكذلك الحال في نفس الوجوب ، فإنّ الآمر عندما يجعله للاكرام لابدّ أن يلاحظه ، إذ لابدّ للحاكم في حال جعله الحكم من ملاحظة كلّ من الحكم والمحكوم عليه ، وحينئذ ففي مقام جعله الوجوب للاكرام لابدّ أن يلاحظ الوجوب الذي هو بصدد جعله للاكرام ، وهل لاحظه موجوداً في زمان معيّن ، أو لاحظه موجوداً في كلّ آن؟ ولا يمكن التجريد عن كلّ من هاتين الملاحظتين إلاّللغافل.

وإن شئت فقل : إنّه في مقام خلقه للوجوب تشريعاً هل خلقه قصيراً ، وذلك محصّل كونه مقصوراً في زمان معيّن ، أو خلقه طويلاً وذلك عبارة عن كونه موجوداً ومستمرّاً في جميع الأزمنة ، ولا يعقل أن يكون الوجوب في مقام خلقه وإيجاده مهملاً معرّى عن كلّ من القصر والطول ، كما أنّ إيجاد الشيء تكويناً يستحيل أن يكون ذلك الشيء الذي كوّنه المكوِّن معرّى عن كلّ من القصر والطول ، وليس القصر في الوجوب منحصراً بوجوده في آن خاص كي يقال : يمكن أن يكون في البين شقّ ثالث ، وهو الوجود في بعض الآنات أيّ آن كان ، فإنّ ذلك ـ أعني وجوده في أيّ آن من الآنات ـ عبارة عن القصر أيضاً في قبال الطول الذي هو عبارة عن الوجود في كلّ آن.

والخلاصة : أنّ الآمر في مقام جعله الوجوب على الاكرام يمكنه لحاظ الوجوب موجوداً في كلّ آن فيجعله للاكرام ، وبذلك يكون الوجوب المجعول موجوداً في كلّ آن ، وهو معنى العموم الأزماني في ناحية الحكم الذي هو الوجوب ، كما يمكنه أن يلاحظ الاكرام موجوداً في كلّ آن ويعلّق الوجوب به ، وهو معنى العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ، وأحد الجعلين يغني عن الجعل الآخر لما عرفته من الملازمة بين الجهتين ، فتأمّل.

٢٩٤

قوله : فإنّه لم يؤخذ العموم الزماني على نحو العام المجموعي بحيث يكون بمجموع أيّام العمر أو السنة موضوعاً لإكرام واحد مستمرّ ، بل العموم الزماني إنّما أُخذ على نحو العام الأُصولي ... الخ (١).

لا يخفى أنّ العموم الأزماني كما يمكن أخذه في ناحية المتعلّق على نحو الاستغراق المعبّر عنه بالعام الأُصولي ، فكذلك يمكن أخذه فيه على نحو المجموعية الملازمة للارتباط بين الأفراد الزمانية طاعةً وعصياناً. نعم لو قيل : إنّ الظاهر من كلّ عموم هو الاستغراق لا المجموعية ، ولو من جهة أنّ اعتبار المجموعية والارتباط بين الأفراد يحتاج إلى مؤونة زائدة على أصل تعلّق الحكم بالأفراد ، لكان وجهه واضحاً ، وذلك هو المراد لشيخنا قدس‌سره ، فإنّه لا يريد أزيد من إثبات الاستظهار من ناحية تعليق الحكم على الأفراد. فراجع ما حرّره عنه المرحوم الشيخ موسى في حواشي خيار الغبن ، وذلك قوله : ثمّ لا يخفى أنّ لفظ الاستمرار والدوام والأبد مثل لفظ « كلّ آن » في أنّ الظاهر من الجميع هو العموم الأُصولي الخ (٢).

نعم ، في المقام شيء آخر ، وهو أنّه لو فرضنا كون العموم مجموعياً ، لم يكن ذلك مانعاً من التمسّك به في مورد الشكّ في التخصيص أو في مقداره كما أشرنا إليه في حاشية ١٩٦ (٣) فلاحظ. نعم لو أُخذ المتعلّق شيئاً واحداً مستمرّاً مع الزمان ، كما في الامساك المستمرّ في يوم الصوم من أوّل الفجر إلى الغروب لو وقع الشكّ في التخصيص الزائد ، بأن جاز في بعض الأيّام الأكل في آن من آنات

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٣٧ ـ ٥٣٨.

(٢) منية الطالب ٣ : ١٦٦ ـ ١٦٧.

(٣) راجع الصفحة : ٢٨٥ وما بعدها.

٢٩٥

النهار ، يمكن القول بأنّه لا محصّل للرجوع إلى العموم الأزماني فيما زاد على ذلك الآن ، لأنّه في الحقيقة لا يكون في البين عموم أزماني في ناحية الامساك ، وإنّما هو وجوب واحد وارد على فعل واحد وهو الامساك المستمرّ من أوّل الفجر إلى الغروب ، فإذا جاز الأكل وعدم الامساك في بعض الآنات يسقط ذلك الامساك المستمرّ.

والحاصل : هو أنّه ينبغي التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير بقوله : فإنّه لم يؤخذ العموم الزماني على نحو العام المجموعي بحيث يكون مجموع أيّام العمر أو السنة موضوعاً لإكرام واحد مستمرّ الخ ،

أوّلاً : أنّه لا وجه لنفي العموم المجموعي بعد فرض كون العموم الأزماني متعلّقاً بنفس فعل المكلّف أعني الاكرام مثلاً. نعم يمكن ادّعاء استظهار كون العموم المذكور استغراقياً لا مجموعياً من جهة كونه محتاجاً إلى مؤونة زائدة ، وذلك خارج عمّا هو محلّ الكلام من تصوير كيفية أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق أو في ناحية نفس الحكم.

وثانياً : أنّ الذي يظهر منه هو أنّه لو كان العموم المذكور مجموعياً ، لم يمكن التمسّك به في مقام الشكّ في أصل التخصيص أو في التخصيص الزائد ، بل إنّ العموم المجموعي كالاستغراقي من هذه الناحية ، أعني كونه مرجعاً عند الشكّ في التخصيص أو في التخصيص الزائد ، ولا دخل في ذلك لمسألة الفرق بينهما بأنّه لو عصى في بعض الأفراد يسقط العموم المجموعي في الباقي دون العموم الاستغراقي. وكذلك لو تعذّر بعض الأفراد ، فإنّ ذلك لا دخل له فيما نحن فيه من إمكان التمسّك بالعام المجموعي عند الشكّ في التخصيص أو في التخصيص الزائد ، فإنّ التخصيص لا يوجب سقوط العموم المجموعي ، بل إنّ

٢٩٦

التخصيص يكشف عن كون اعتبار المجموع واقعاً هو فيما عدا ذلك الخارج.

وثالثاً : أنّ من يدّعي سقوط العموم الأزماني عند الشكّ في التخصيص أو في التخصيص الزائد ، ليست دعواه مبنية على كون العموم مجموعياً ، بل هي مبنية على دعوى استفادة الاستمرار والدوام ، وذلك مثل ما عرفت من الامساك المستمرّ من أوّل الفجر إلى الغروب. وتقريب هذه الدعوى هو أن يقال : إنّ [ في ] مثل الوجوب الوارد على الوفاء بالعقد في كلّ آن ، لا نقول إنّ في البين وفاءات متعدّدة بحسب تعدّد الآنات من حين وقوع العقد إلى آخر الدهر ، بل لا يكون لنا إلاّ وفاء واحد مستمرّ من حين العقد إلى آخر الدهر ، فلا يكون المطلوب إلاّذلك الوفاء الواقع في تمام ذلك الوقت الذي هو من حين العقد إلى آخر الدهر ، فلا يكون ذلك إلاّمن قبيل الواجب الموقّت المنطبق على تمام وقته. والحاصل : أنّ المطلوب هو الوفاء الذي يملأ ذلك الوقت الذي هو من أوّل العقد إلى آخر الدهر.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير بقوله : فإنّه لم يؤخذ العموم الزماني على نحو العام المجموعي بحيث يكون مجموع أيّام العمر أو السنة موضوعاً لإكرام واحد مستمر الخ ، فإنّ قوله : بحيث الخ ، الذي أراد أن يشرح به العموم المجموعي ليس بشارح له ، بل هو شارح لهذا الاحتمال الذي يعتمد عليه من يدّعي عدم إمكان التمسّك بالعموم الزماني ، وإنّما شرح العموم المجموعي هو أن يكون في البين لحاظ إكرامات متعدّدة بحسب تعدّد الآنات ، فتلاحظ تلك الاكرامات في هاتيك الآنات مرتبطاً بعضها ببعض فيعلّق التكليف. وهذا ما شرحناه من رجوع العام المجموعي إلى المركّب الارتباطي أو رجوع المركّب الارتباطي إليه ، وأين هذا من فرض فعل واحد مستمر كالإمساك أو الوفاء

٢٩٧

مالئاً لزمان خاصّ كالنهار أو زمان واحد واسع من حين العقد إلى آخر الدهر مثلاً.

وعلى كلّ حال ، بناء على هذا الاحتمال لا يكون عموم أزماني لا مجموعي ولا استغراقي ، بل لا يكون لنا إلاّفعل واحد مالئ لزمان واحد واسع المنطقة كالدهر أو ضيّق المنطقة كالنهار ، ومن الواضح أنّ ذلك ليس من العموم الأزماني ، ولا أنّ ما يقع فيه من الأفراد الطولية ، كلّ ذلك لم يكن ، وبناءً عليه ليس لنا عموم زماني نتمسّك به في صورة الشكّ ، فلاحظ وتدبّر.

ولعلّ من هذا القبيل ما لو أُخذ العموم الأزماني في ناحية الحكم وقلنا يجب في كلّ آن إكرام العالم ، أو أنّ وجوب إكرامه موجود في كلّ آن ، فإنّه لا يكون لنا إلاّ وجوب واحد مستمرّ لا وجوبات متعدّدة ، بل لا يكون في البين آنات متعدّدة ، وإنّما هو وجوب واحد مستمرّ مع الزمان من أوّله إلى نهايته ، كما لو قلنا إنّ النهار في باب الصوم يكون ظرفاً للوجوب ومتعلّقه هو نفس الامساك معرّىً من الزمان ، فإنّه حينئذ لا يكون لنا إلاّوجوب واحد مستمرّ من الفجر إلى الغروب ، فلا يكون هناك تعدّد أو عموم لا في ناحية المظروف الذي هو الوجوب ، ولا في ناحية الظرف ، بل لا يكون في البين إلاّمظروف واحد وهو الوجوب وظرف واحد وهو تمام اليوم. ومعنى وجود الوجوب في ذلك اليوم هو كون الوجوب مستمرّاً معه من أوّله إلى آخره. فلا وجوبات ولا امساكات ولا آنات يكون كلّ واحد منها ظرفاً لكلّ واحد من هاتيك الوجوبات أو تلك الامساكات. وبناءً على ذلك لا يكون لنا عموم أزماني في ناحية الوجوب نرجع إليه في مقام [ الشكّ ] ، كما أنّ الحال كذلك لو أخذنا ذلك الزمان العام في ناحية نفس الامساك ، وحينئذ يكون المدار في إمكان التمسّك بالعموم الأزماني وعدمه على أخذ الدوام فيما يقع فيه أو أخذه بنحو التعدّد الأفرادي ، سواء كان ذلك هو متعلّق الوجوب أو كان

٢٩٨

هو نفس الوجوب.

قال الشيخ قدس‌سره في الرسائل : الحقّ هو التفصيل في المقام بأن يقال : إن أُخذ فيه عموم الأزمان أفرادياً ، بأن أخذ كلّ زمان موضوعاً مستقلاً لحكم مستقل لينحلّ العموم إلى أحكام متعدّدة بتعدّد الأزمان ، كقوله : أكرم العلماء كلّ يوم ، فقام الإجماع على حرمة إكرام زيد العالم يوم الجمعة ، ومثله ما لو قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم زيداً يوم الجمعة ، إذا فرض الاستثناء قرينة على أخذ كلّ زمان فرداً مستقلاً ، فحينئذ يعمل عند الشكّ بالعموم ولا يجري الاستصحاب ، بل لو لم يكن عموم وجب الرجوع إلى سائر الأُصول لعدم قابلية المورد للاستصحاب. وإن أخذ لبيان الاستمرار كقوله : أكرم العلماء دائماً ، ثمّ خرج فرد في زمان وشكّ في حكم ذلك الفرد بعد ذلك الزمان ، فالظاهر جريان الاستصحاب ، إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان تخصيص زائد على التخصيص المعلوم ، لأنّ مورد التخصيص الأفرادُ دون الأزمنة ، بخلاف القسم الأوّل ، بل لو لم يكن هنا استصحاب لم يرجع إلى العموم ، بل إلى الأُصول الأُخر. ولا فرق في استفادة الاستمرار من اللفظ كالمثال المتقدّم ، أو من الاطلاق كقوله : تواضع للناس ، بناءً على استفادة الاستمرار منه ، فإنّه إذا خرج منه التواضع في بعض الأزمنة على وجه لا يفهم من التخصيص ملاحظة المتكلّم كلّ زمان فرداً مستقلاً لمتعلّق الحكم استصحب حكمه بعد الخروج (١).

وظاهره بل لا يبعد أن يقال : إنّ صريحه هو أنّ المائز بين القسمين هو مجرّد لحاظ التعدّد في الأوّل والاستمرار والدوام في الثاني ، وأنّه بناءً على الثاني لا يكون في البين عموم أزماني صالح لأن يرد عليه التخصيص أو يتمسّك به في

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

٢٩٩

مقام الشكّ. والتخصيص الواقع ليس براجع إلى العموم الأزماني ، بل هو إخراج من العموم الأفرادي ، فالخارج هو فرد من العالم في خصوص يوم السبت مثلاً ، لا أنّ يوم السبت خارج من عموم الزمان ، ولأجل ذلك قال في تعليل جريان الاستصحاب في الفرد المذكور : إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان ـ يعني يوم السبت مثلاً ـ تخصيص زائد على التخصيص المعلوم ، لأنّ مورد التخصيص هو الأفراد دون الأزمنة بخلاف القسم الأوّل ، انتهى.

وسرّ الفرق هو وجود العموم الأزماني في الأوّل وعدمه في الثاني ، لا أنّ الفارق هو كون العموم في الأوّل تحت الحكم وفي الثاني فوق الحكم مع فرض تحقّق العموم الأزماني في القسمين ، وأنّ المانع من الأخذ به في الثاني هو كونه فوق الحكم ، وأنّه يتوقّف على إحراز الحكم ، كلّ ذلك أجنبي عمّا هو صريح عبارته ، فلاحظ.

وأمّا عبارته في المكاسب ، فهي قوله : ثمّ لا يخفى أنّ مناط هذا الفرق ليس كون عموم الزمان في الصورة الأُولى من الاطلاق المحمول على العموم بدليل الحكمة ، وكونه في الصورة الثانية عموماً لغوياً ، بل المناط كون الزمان في الأوّلي ظرفاً للحكم وإن فرض عمومه لغوياً ، فيكون الحكم فيه حكماً واحداً مستمرّاً لموضوع واحد ، فيكون مرجع الشكّ فيه إلى الشكّ في استمرار حكم واحد وانقطاعه فيستصحب. والزمان في الثانية مكثّر لأفراد موضوع الحكم ، فمرجع الشكّ في وجود الحكم في الآن الثاني إلى ثبوت حكم الخاصّ لفرد من العام مغاير للفرد الأوّل ، ومعلوم أنّ المرجع فيه إلى أصالة العموم ، فافهم واغتنم ، انتهى (١). فإنّ هذه العبارة بقرينة ما تقدّمها من قوله : والسرّ فيه ما عرفت من تبعية

__________________

(١) كتاب المكاسب ٥ : ٢٠٨.

٣٠٠