أصول الفقه - ج ١٠

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٠

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-83-6
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٩٤

الاشتغال بذلك الفعل دائماً ، وقد مثّل (١) شيخنا قدس‌سره لذلك بالأوامر الاعتقادية ، فإنّ المطلوب فيها هو الدوام والاستمرار ، وتلك الأفعال القلبية قابلة لذلك ، فلاحظ ما أفاده قدس‌سره في مبحث خيار الغبن حسبما حرّرناه عنه (٢)

__________________

(١) ويمكن التمثيل له بوجوب الوفاء ونحوه ممّا يكون المتعلّق والاشتغال به غيرمانع من الأفعال الخارجية ، فتأمّل [ منه قدس‌سره ].

(٢) مخطوط لم يطبع بعد.

٤٤١

[ استصحاب وجوب الباقي عند تعذّر بعض الأجزاء ]

قوله : وثانياً : أنّ استصحاب القدر المشترك بين الوجوب النفسي والغيري لا يجري ، فإنّ الوجوب النفسي يغاير الوجوب المقدّمي سنخاً ويباينه حقيقة ، وليست النفسية والمقدّمية من قبيل الشدّة والضعف ، فاستصحاب القدر المشترك في المقام يرجع إلى استصحاب القسم الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، وقد تقدّم عدم جريان الاستصحاب فيه ... الخ (١).

القسم الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي هو ما لو علم بوجود فرد من الكلّي وعلم بارتفاعه ، واحتمل وجود فرد آخر يقوم مقامه عند ارتفاعه.

ولكن لا يخفى أنّه يمكن أن يقال : إنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، ولا هو من قبيل الاختلاف في الشدّة والضعف ، بل هو نحو آخر وهو احتمال التبدّل إلى فرد آخر ، ومثال ذلك أن يعلم بوجود الجسم هنا في ضمن الحيوان الفلاني كالغنم مثلاً ، ثمّ علم بمرور تيار البرق عليه ، واحتمل أنّ ذلك البرق أحاله إلى بخار أو دخان فتلاشى ، أو أنّه أحاله إلى فحم أو حجر مثلاً ، ففي مثل ذلك لا مانع من استصحاب بقاء الجسم هنا إذا كان هناك أثر يترتّب على وجود الجسم ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ الوجوب الغيري المتعلّق بالأجزاء الأربعة عندما كان

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٥٧.

٤٤٢

الواجب النفسي هو الخمسة لو تعذّر الخامس وقلنا ببقاء الوجوب على الأربعة الباقية يتحوّل من الوجوب الغيري إلى الوجوب النفسي ، وحينئذ نقول : إنّ القدر المشترك بين الوجوب الغيري والوجوب النفسي بالنسبة إلى الأربعة الذي هو عبارة عن مجرّد المنع من الترك كان موجوداً في ضمن الوجوب الغيري ، وبعد تعذّر الخامس وإن علمنا بارتفاع الغيرية إلاّ أنّا لمّا كنّا نحتمل تبدّله إلى الوجوب النفسي بالنسبة إلى الأربعة ، فنحن نشكّ في ارتفاع ذلك القدر الجامع فنستصحب بقاءه.

وبعبارة أُخرى : أنّ تلك الأربعة كانت ممنوعاً من تركها حينما كانت واجبة من باب المقدّمة للخمسة ، والآن بعد تعذّر الخامس نشكّ في ارتفاع المنع من تركها فنستصحبه ، فنحكم ببقاء المنع من الترك بالنسبة إلى تلك الأربعة ، وإن كان لازم بقائه هو تحوّل ذلك المنع من الترك من كونه غيرياً إلى كونه نفسياً ، إلاّ أنّا لا نحتاج إلى إثبات ذلك اللازم كي يقال إنّه من الأصل المثبت ، بل يكفينا في لزوم الاتيان بالأربعة بعد تعذّر الخامس مجرّد الحكم بالمنع من تركها ، وإن كان لازم بقاء المنع من تركها هو تحوّله من الغيرية إلى النفسية.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مجرّد بقاء المنع من الترك معرّى عن لحاظ النفسية والغيرية لا أثر له ، بل لابدّ في المقام من إحراز كونه بالنسبة إلى الأربعة الباقية من قبيل النفسي.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ المطلوب إنّما هو لزوم الاتيان بالباقي وهو الأربعة وعدم الترخيص في تركها ، ومن الواضح أنّ مجرّد المنع من الترك الذي هو القدر الجامع بين الغيرية والنفسية كافٍ في ذلك المطلوب وإن لم يثبت به كونه نفسياً.

ومن ذلك يظهر لك أنّه لا يتوجّه على هذا التقريب ما أُفيد من قوله : بل لو

٤٤٣

فرض أنّ النفسية والمقدّمية يكونان من مراتب الوجوب كالشدّة والضعف ، ولكن لا إشكال في تباينهما عرفاً ، فلا يجري استصحاب القدر المشترك (١) فإنّ هذا الإشكال إنّما يتوجّه لو كان المراد أنّهما من قبيل اختلاف المراتب ، أمّا لو كان المراد أنّ ذلك من قبيل التحوّل من فرد إلى فرد آخر مباين له مع فرض تحقّق القدر المشترك بينهما الذي هو المطلوب أعني مجرّد المنع من الترك ، فلا يتوجّه عليه شيء من ذلك.

ولكن لا يخفى أنّ بقاء القدر المشترك مع تبدّل الفرد محال. فالحقّ أنّ ذلك كلّه من قبيل القسم الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، وليس نسبة الأفراد إلى الكلّي كنسبة العلّة إلى المعلول كي يمكن أن يقال ببقاء نفس المعلول وإن تبدّلت علّته ، كما في عمود الخيمة بالنسبة إلى هيئتها القائمة بها كما أفاده في المقالة في مباحث الأقل والأكثر (٢).

نعم ، هنا طريقة أُخرى غير راجعة إلى استصحاب القدر الجامع وتلك الطريقة هي أن يقال : إنّ هذه الأربعة كانت لازمة وكان المكلّف يعاقب على تركها ، والآن بعد تعذّر الخامس هي باقية على حالها من اللزوم والعقاب على الترك. وحاصل هذه الطريقة هو التسامح في نفس الوجوب ، بدعوى أنّ العرف لا يفرّقون بين الوجوب الغيري الطارئ على الأربعة عندما كان الخامس مقدوراً والوجوب النفسي الطارئ عليها عند تعذّر الخامس.

نعم ، يرد على هذه الطريقة أوّلاً : المنع من التسامح المذكور ، بل إنّهم يرون الوجوب الغيري مغايراً للوجوب النفسي.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٥٧.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٢٧٣.

٤٤٤

وثانياً : لو سلّمنا تسامحهم المذكور فهو غير متّبع على ما سيأتي (١) تفصيله في الوجه الثاني ، بل في الوجه الثالث أيضاً.

وثالثاً : أنّ هذه الطريقة لا تغني عن استصحاب القدر الجامع ، للعلم بارتفاع ذلك المنع من الترك ، ولأجل ذلك يمكن أن يقال : إنّ هذه الطريقة هي المراد للشيخ قدس‌سره في الوجه الأوّل ، لأنّه بعد أن أفاد أنّ الوجوب الغيري معلوم الارتفاع وأنّ الوجوب النفسي معلوم الانتفاء قال : ويمكن توجيهه ـ بناءً على ما عرفت من جواز إبقاء القدر المشترك في بعض الموارد ولو علم بانتفاء الفرد المشخّص له سابقاً ـ بأنّ المستصحب هو مطلق المطلوبية المتحقّقة سابقاً لهذا الجزء ولو في ضمن مطلوبية الكل ، إلاّ أنّ العرف لا يرونها مغايرة في الخارج لمطلوبية الجزء في نفسه (٢) ، بأن يكون المستصحب عنده هو نفس الطلب الوارد على الأربعة ، لا القدر الجامع بين الوجوب النفسي والغيري ، وإلاّ لم يكن محتاجاً إلى دعوى التسامح العرفي. لكن هذا التفسير لا يلائم قوله : بناءً على ما عرفت من جواز إبقاء القدر المشترك في بعض الموارد ولو علم بانتفاء الفرد المشخّص له سابقاً.

فالأولى أن يقال : إنّ مراده هو استصحاب القدر [ الجامع ] وأنّه محتاج إلى المسامحة بادّعاء كونه من قبيل القسم الثالث من القسم الثالث أعني اختلاف المراتب ، وهذا هو الذي فهمه شيخنا قدس‌سره من كلام الشيخ قدس‌سره ، ولأجل ذلك أورد عليه بقوله : فإنّ الوجوب النفسي يغاير الوجوب المقدّمي ـ إلى قوله ـ وليست النفسية والمقدّمية من قبيل الشدّة والضعف ـ إلى قوله ـ بل لو فرض أنّ النفسية والمقدّمية يكونان من مراتب الوجود كالشدّة والضعف ولكن لا إشكال في

__________________

(١) في الصفحة : ٤٥١ و ٤٥٦.

(٢) فرائد الأُصول ٣ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

٤٤٥

تباينهما عرفاً الخ (١) ، فلاحظ وتأمّل.

ويمكن أن يكون المقام من قبيل القسم الأوّل من القسم الثالث ، وهو ما لو احتمل مقارنة وجود ذلك الفرد المرتفع لفرد آخر معه ، وبيانه موقوف على النظر فيما لو قام الدليل على وجوب الأربعة بعد تعذّر الخامس ، فإنّه يمكن أن يكون بملاك جديد ووجوب جديد يحدث عند سقوط الأمر بالخمسة ، بأن تكون قيدية الخامس مطلقة ويكون مقتضاها سقوط ملاك الخمسة ووجوبها عند تعذّر الخامس ، لكن بسقوط ملاك الخمسة ووجوبها يحدث ملاك آخر يقتضي وجوب الأربعة ، فيكون وجوبها حينئذ وجوباً جديداً بملاك جديد.

ويمكن أن لا يكون بملاك جديد ووجوب جديد ، وذلك مبني على عدم إطلاق قيدية الخامس وشمولها لحال تعذّره ، بل تكون قيديته مقصورة على حال التمكّن منه ، ويكون محصّل ذلك هو كون الأربعة في حدّ نفسها ذات ملاك ، لكن عند التمكّن من الخامس يكون استيفاء ملاكها موقوفاً على الاتيان بها منضمّة إلى الخامس ، أو أنّه عند التمكّن من الخامس يتحقّق ملاك يوجب انضمامه إلى الأربعة ، فيتحقّق لنا حينئذ وجوب متعلّق بالخمسة ، وحينئذ يكون وجوب الأربعة في ضمنه وجوباً غيرياً مضافاً إلى وجوبها النفسي.

وبناءً على ذلك نقول : لو ورد الوجوب على الخمسة ثمّ تعذّر الخامس كانت الأربعة حينما كنّا متمكّنين من الخامس واجبة وجوباً غيرياً ، وهذا الوجوب الغيري قد ارتفع قطعاً ، لكنّا نحتمل أنّها عندما كان وجوبها الغيري متحقّقاً كانت واجبة وجوباً نفسياً أيضاً مجتمعاً مع وجوبها الغيري ، نظير اجتماع الوجوب الغيري لصلاة الظهر مقدّمة للعصر مع وجوبها النفسي ، فعند القطع بارتفاع

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٥٧.

٤٤٦

الوجوب الغيري يمكننا استصحاب القدر الجامع بين الوجوبين ، بناءً على جريان استصحاب الكلّي في هذه الصورة الراجعة إلى القسم الأوّل من القسم الثالث.

ولعلّ هذا التفصيل هو المراد لما أفاده في المقالة بقوله : ولكن في المقام ليس الأمر كذلك ( يعني من قبيل التردّد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ) للجزم بالوجوب الغيري للأجزاء سابقاً ، وإنّما المحتمل وجوبه نفسياً من جهة احتمال مقارنة مناطه بمناط الغيرية أو قيامه مقامه الخ (١) ، فالأوّل إشارة إلى الاحتمال الثاني الذي ذكرناه ، والثاني إشارة إلى الاحتمال الأوّل ، فلاحظ.

لا يقال : إنّ استصحاب كلّي الوجوب هنا محكوم لاستصحاب جزئية الخامس إلى حال تعذّره القاضي بأنّه لو وجبت الأربعة لكان وجوبها جديداً بملاك جديد.

لأنّا نقول : قد حقّق في محلّه (٢) أنّ الجزئية ليست هي المجعولة ، وإنّما المجعول منشأ انتزاعها ، وحيث إنّها في المقام خالية من منشأ انتزاعها لفرض عدم إمكان الأمر بالخمسة كان استصحابها ساقطاً.

والحاصل : أنّ المحتمل في وجوب الأربعة بعد تعذّر الخامس أحد وجوه :

الأوّل : أن يكون بوجوب جديد وملاك جديد يحدث عند تعذّر الخامس.

الثاني : أن تكون الأربعة في حدّ نفسها ذات ملاك وصلاح ، ولكن وفاؤها بملاكها إنّما يكون عند تعذّر الخامس ، أمّا عند التمكّن منه فلا تكون وافية بملاكها بل يكون وفاؤها به متوقّفاً على انضمام الخامس معها.

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٧١.

(٢) راجع فوائد الأُصول ٤ : ٣٩٢ وما بعدها ، ولاحظ حواشي المصنّف قدس‌سره على المطلب في المجلّد التاسع من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٧٢ وما بعدها.

٤٤٧

الثالث : أن لا يكون وفاؤها بملاكها متوقّفاً على انضمام الخامس ، بل عند التمكّن من الخامس تحدث هناك مصلحة توجب انضمام الخامس إليها ، ونعبّر عن مجموع المصلحتين بالمصلحة الأوفى.

فعلى الأوّل لا تكون الأربعة عند التمكّن من الخامس إلاّواجبة بالوجوب الغيري بخلافه على الثالث. وأمّا على الثاني فالظاهر أنّه كالأوّل في عدم كونها واجبة في نفسها عند التمكّن من الخامس ، نعم على الثالث يجتمع فيها عند التمكّن من الخامس الوجوب الغيري والوجوب النفسي ، ولا ضير في اجتماعهما. أو نقول بالاندكاك لكن مع بقاء ذات الوجوب النفسي والوجوب الغيري ، نظير ما قلناه في اجتماع الوجوب والاستحباب في بقاء ذات الاستحباب مع زوال حدّه الذي هو الترخيص في الترك. وعلى أيّ حال ، فعند احتمال وجوب الأربعة مع تعذّر الخامس يكون المقام من قبيل القسم الأوّل من القسم الثالث ، وهذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب كونه من هذا القبيل.

وفيه ما لا يخفى ، من أنّه على الثالث يكون اللازم اجتماع المثلين ، والاندكاك الموجب لزوال الحدّ مع بقاء الذات غير متأت في المقام ، إذ ليس الوجوب الغيري والنفسي من قبيل المختلفين في الشدّة والضعف ، أو من قبيل التحديد بجواز الترك كما في الاستحباب والوجوب ، بل إنّ الوجوب الغيري مباين بالهوية للوجوب النفسي ، أمّا صلاة الظهر بالنسبة إلى صلاة العصر فليس مركب الوجوب الغيري فيها هو ذات الفعل ، بل إنّ مركبه هو امتثال الأمر النفسي المتعلّق بذات صلاة ، ومن الواضح أنّ مركب الوجوب الغيري فيما نحن فيه ليس هو امتثال الأمر النفسي الاستقلالي ، بل إنّ مركبه عين مركب الأمر النفسي ، هذا كلّه ، مضافاً إلى بطلان الوجوب الغيري فيما نحن فيه من أجزاء المركب.

٤٤٨

وهذه الاطالة إنّما ارتكبناها لأجل شرح ما أشار إليه في المقالة فيما تقدّم نقله من عبارتها السابقة ، فلاحظ وتدبّر.

ثمّ إنّ لشيخنا قدس‌سره إيراداً ثالثاً على استصحاب القدر الجامع بين الطلب النفسي والغيري ، وهو كما حرّرته عنه قدس‌سره : أنّ القدر المشترك بين الوجوب النفسي والغيري بعد فرض سقوط وجوب ذي المقدّمة الذي هو وجوب الكل لا أثر له ، وقد تقدّم في باب الأقل والأكثر وفي مسألة استصحاب الكلّي أنّه لا أثر للقدر المشترك بين الوجوبين ، وأنّ القدر الجامع بين الحكمين الشرعيين إنّما يترتّب عليه [ الأثر ] في خصوص الحدث الجامع بين الأصغر والأكبر ، انتهى.

ونقل السيّد ( سلّمه الله تعالى ) في ص ٤٤٤ نحو ذلك فراجعه (١).

قلت : وهو مشكل ، فإنّه لو علم وجوب الغسل يوم الجمعة مثلاً وتردّد بين كونه مقدّمة لصلاة الجمعة وكونه واجباً نفسياً ، فلا إشكال في لزوم الاتيان به ما دامت صلاة الجمعة باقية على الوجوب ، لكن لو اتّفق بعد ذلك سقوط وجوبها ، فهل يمكن القول بعدم إجراء استصحاب وجوب الغسل ، فيه تأمّل.

قوله : فإنّ تشخيص ذلك ليس بيد العرف ، ففي المركّبات الشرعية لا يمكن العلم بما يكون من حالات المركّب أو مقوّماته إلاّمن طريق السمع. وهذا الإشكال بعينه يرد على قاعدة الميسور أيضاً ، فإنّه يعتبر فيها أن تكون الأجزاء الميسورة ممّا لا تعدّ عرفاً مباينة ... الخ (٢).

ولأجل ذلك قيل : إنّه لابدّ في القاعدة المذكورة من كونها مجبورة بعمل الأصحاب. ولكن لا يخفى أنّ عمل الأصحاب إن كان واصلاً إلى درجة الإجماع

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٧٧.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٥٨.

٤٤٩

كان خارجاً عمّا نحن فيه ، وإلاّ لم يكن في حدّ نفسه حجّة ، حيث إنّ الفقيه الذي عمل بالقاعدة في مورد إن كان قد تحقّق عنده عدم ركنية ذلك الجزء المتعذّر ولو من إطلاق دليل التكليف بالمركّب وعدم إطلاق دليل لزوم ذلك الجزء ، كان ذلك خارجاً عن التمسّك بقاعدة الميسور ، وإن لم يكن قد تحقّق ذلك عنده بحيث إنّه لم يمكنه أن يحصل من الأدلّة الاجتهادية ركنية الجزء المتعذّر ولا عدم ركنيته ، كان رجوعه حينئذ إلى قاعدة الميسور مبنياً على ذوقه العرفي ، وأنّ ذلك الجزء المتعذّر بحسب نظره وذوقه ليس من المقوّمات.

وبالجملة : أنّ النظر العرفي في كون الجزء المتعذّر مقوّماً وعدم كونه كذلك يكون متّبعاً ما لم يقم دليل اجتهادي على خلافه ، وما أُفيد من المنع من اتّباعه إن كان مرجعه إلى أنّ العرف لا يمكنه الحكم في المركّبات الشرعية على بعض الأجزاء بالمقوّمية وعلى بعضها بالعدم ، لأنّ تشخيص ذلك ليس بيده ، فهذا ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، لأنّا نراهم يحكمون بهذه الأحكام وجداناً ، وإن كان مرجعه إلى أنّهم وإن حكموا بذلك إلاّ أنّ حكمهم لا يكون متّبعاً بل ينحصر الرجوع في ذلك إلى الشارع ، ففيه أنّه لابدّ من الرجوع أوّلاً إلى ما تقتضيه الأدلّة ، لكن بعد أن لم يمكن استفادة شيء من الأدلّة فيما يتعلّق بركنية ذلك المتعذّر ، يكون النظر العرفي متّبعاً ، لا بمعنى أنّا نرجع إليهم في تحقيق الركنية وعدمها كي نستغني بذلك عن كلّ من الاستصحاب وقاعدة الميسور ، بل بمعنى أنّا نرجع إليهم في تحقيق الاتّحاد بين الفاقد لذلك الجزء والواجد له المصحّح لأن نقول إنّ هذا الموجود فعلاً كان واجباً فنجري الاستصحاب ، أو نقول إنّ هذا ميسور لذاك فنجري قاعدة الميسور.

والحاصل : أنّ النظر العرفي في تحقيق الوحدة المذكورة وعدم تحقيقها

٤٥٠

يكون متّبعاً ما لم يقم الدليل الشرعي على خلافها ، وما وجه الرجوع إلى جبر القاعدة بعمل الأصحاب إلاّ اتّباع نظرهم العرفي في ذلك ، فإنّهم إنّما نتبعهم في ذلك لأنّهم من أهل العرف ، فإنّ عمل الفقيه بها في المورد الذي فرضنا عدم قيام الدليل الشرعي على شيء من الأمرين لا يكون إلاّمن جهة أنّه يرى بذوقه العرفي أنّ ذلك المتعذّر لا يكون فقده موجباً للمباينة للواجد ، هذا.

ولكن يرد على ذلك أوّلاً : أنّ هذا التسامح العرفي لا يرجع إليه في مثل المقام ، لأنّه من قبيل مسامحتهم في إطلاق الكرّ على الناقص قليلاً عن المقدار الذي قرّره الشارع ، لا من قبيل المسامحة في الماء الذي كان معلوم الكرّية وقد نقص منه مقدار يحتمل فيه أنّه نقص به عن الكرّية ، ولعلّ مسامحتهم هنا مبنية على القول بالأعمّ ، وإن أمكن منع كونها مبنيّة على ذلك ، لأنّ المسامحة المذكورة واقعة في معروض الوجوب ، وأنّ هذا الناقص هو معروضه ، نظراً إلى أنّ ذلك الجزء المفقود من الحالات غير المقوّمة.

وثانياً : أنّهم بعد اعترافهم بأنّه ربما كان المفقود ممّا له الدخل شرعاً في قوام المركب كيف يمكنهم المسامحة في دعوى كون الفاقد له متّحداً مع الواجد له. ولو سلّمنا مع ذلك أنّهم تسامحوا لم يمكن لنا الاعتماد على هذه المسامحة المبنية على تصرّفهم فيما لم يكن لهم التصرّف فيه ، فتأمّل.

ويمكن الفرق بين قاعدة الميسور والاستصحاب ، فإنّ قاعدة الميسور بنفسها تتضمّن الاعتراف بنقص الفاقد وتحكم بعدم سقوطه حكماً واقعياً ثانوياً ، وأقصى ما فيه هو أن يكون هذا الفاقد معدوداً ميسوراً من ذلك الواجد ، وهذا المقدار تكفي فيه المسامحة العرفية في عدّ هذا الفاقد ميسوراً لذلك الواجد. وهذا بخلاف الاستصحاب فإنّه مبني على عدم المباينة بين الواجد والفاقد ، وأنّ

٤٥١

هذا الفاقد متّحد مع الواجد ليسري إليه الوجوب المتعلّق بالواجد ويحكم حكماً ظاهرياً بأنّ ذلك الوجوب الذي كان متعلّقاً بالواجد باقٍ بعد تعذّر الجزء الخامس ، والمسامحة العرفية في الاستصحاب لابدّ أن يكون مرجعها إلى الاتّحاد والعينية بين الواجد والفاقد بعدّ المفقود من الحالات ، وهذه الدعوى من العرف لا يمكن قبولها بعد الاعتراف بأنّهم لا خبرة لهم بما هو الركن وما هو من قبيل الحالات ، فتأمّل.

قوله : الوجه الثالث : استصحاب الوجوب النفسي المردّد بين كونه متعلّقاً سابقاً بالواجد للجزء المتعذّر مطلقاً حتّى مع تعذّره ليسقط التكليف عن الفاقد للجزء المتعذّر ، وبين كونه متعلّقاً بالواجد له مقيّداً بحال التمكّن منه ليبقى التكليف بالفاقد ، فيستصحب بقاء التكليف ويثبت به اختصاص جزئية الجزء المتعذّر بحال التمكّن منه (١).

قال الشيخ قدس‌سره (٢) : وهنا توجيه ثالث ، وهو استصحاب الوجوب النفسي المردّد بين تعلّقه سابقاً بالمركّب على أن يكون المفقود جزءاً له مطلقاً فيسقط الوجوب بتعذّره ، وبين تعلّقه بالمركّب على أن يكون الجزء جزءاً اختيارياً يبقى التكليف بعد تعذّره ، والأصل بقاؤه ، فيثبت به تعلّقه بالمركّب على الوجه الثاني ، وهذا نظير إجراء استصحاب وجود الكر في هذا الاناء لإثبات كرّية الباقي فيه ـ إلى قوله ـ وقد عرفت أنّه لولا المسامحة العرفية في المستصحب وموضوعه لم يتمّ شيء من الوجهين ( يعني الثاني والثالث ).

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٥٨ ـ ٥٥٩.

(٢) فرائد الأُصول ٣ : ٢٨٠ ـ ٢٨٢ ( لا يخفى أنّ بين نسخ الفرائد اختلافاً أشار إليه المصنّف قدس‌سره في الصفحة : ٤٦٠ الآتية ).

٤٥٢

وحاصل الفرق بين الوجه الثاني والثالث أنّ الوجه الثاني مبني على المسامحة في متعلّق الوجوب ، بأن نقول : إنّ العرف يرون أنّ الفاقد متّحد مع الواجد ، فيكون ذلك من قبيل استصحاب كرّية هذا الماء بعد تنقيص شيء منه ، والوجه الثالث مبني على المسامحة في نفس الوجوب ، بأن نقول : إنّ العرف يرون أنّ الوجوب الذي كان متعلّقاً بالواجد هو عين الوجوب المتعلّق بالفاقد ، فيكون ذلك نظير استصحاب وجود الكرّ في هذا الاناء بعد أن نقصنا شيئاً منه ، فتكون المسامحة على الوجه الثاني جارية في متعلّق التكليف ، وهي مبنية على أنّ الجزء المفقود من قبيل الحالة لا من قبيل المقوّم ، يعني أنّ الجزء المفقود لم يكن اعتباره في الواجب على أن يكون جزءاً له مطلقاً ، بل إنّ جزئيته مقيّدة بحال التمكّن ، بخلاف المسامحة على الوجه الثالث فإنّها جارية في نفس الوجوب (١) ،

__________________

(١) وحاصل هذه المسامحة هو دعوى الاتّحاد بين الوجوب الطويل الذي كان متعلّقاًبالخمسة وبين الوجوب القصير المتعلّق بالأربعة بعد تعذّر الخامس ، إذ لو لم يسقط الوجوب بتعذّره لكان قد قصر ، والعرف لا يرى الفرق بين الوجوب الطويل المتعلّق بالخمسة والوجوب القصير المتعلّق بالأربعة ، فيقولون إنّ الوجوب قد كان موجوداً ونشكّ الآن في بقائه ، فهم يتسامحون في نفس الوجوب فيرونه بنفسه باقياً ولو اختلف حقيقة من حيث الطول والقصر.

وينبغي أن يعلم أنّ هذا الوجه بعد تمامية هذه المسامحة ليس براجع إلى الوجه الذي أفاده شيخنا قدس‌سره ، فإنّ المستصحب على هذا الوجه هو الوجوب الوارد على الخمسة ، والدعوى هي التسامح العرفي ، بدعوى أنّ الوجوب الوارد على الخمسة هو عين الوجوب الوارد على الأربعة ، وهذا بخلاف الوجه الآتي الذي أفاده شيخنا قدس‌سره فإنّ المستصحب فيه هو عين وجوب الأربعة الذي كان وارداً عليها حينما كان الخامس مقدوراً ، فيقال : إنّ وجوب الأربعة الذي كان مستطيلاً إلى الخامس حينما كان

٤٥٣

ولازم هذه المسامحة هو أنّ الجزء المفقود من قبيل الحالة ، وأنّ جزئيته مقيّدة بحال التمكّن ، لا أنّ ذلك هو عين مورد المسامحة ، بل إنّ مورد المسامحة هو الوجوب نفسه وأنّ الطويل منه بنظرهم عين القصير.

ولكن لا يخفى أنّ هذا المعنى أعني كون جزئية المفقود مقيّدة بحال التمكّن كما أنّها لازم المسامحة على الوجه الثالث فكذلك تكون على الوجه الثاني ، فإنّ دعوى كون الفاقد متّحداً مع الواجد ليست هي عين كون جزئية المفقود مقيّدة بحال التمكّن ، بل إنّ ذلك لازم لهذه الدعوى لا أنّها عينها.

قوله : وهذا الوجه أضعف الوجوه الثلاثة التي ذكرها الشيخ قدس‌سره في تقريب استصحاب بقاء الوجوب عند تعذّر بعض أجزاء المركّب ، فإنّه يكون من أردأ أنحاء الأصل المثبت ... الخ (١).

هذا الإشكال ـ أعني إشكال المثبتية ـ إنّما نشأ عن قول الشيخ قدس‌سره : والأصل بقاؤه فيثبت به تعلّقه بالمركّب على الوجه الثاني (٢) ، يعني كون الجزء جزءاً اختيارياً.

__________________

الخامس مقدوراً هو بعينه موجود حينما انفصل عنه وجوب الخامس عند طرو التعذّر على الخامس ، فلا يحتاج إلى المسامحة في المتعلّق ولا في الوجوب ، بخلاف هذا الوجه فإنّه محتاج إلى المسامحة في نفس الوجوب ، لأنّ المستصحب فيه هو الوجوب الوارد على الخمسة ، فيقال : كان الوجوب موجوداً عند كون الخامس مقدوراً والآن بعد تعذّر الخامس نشكّ في بقاء ذلك الوجوب فنستصحبه ، ومن الواضح أنّ الوجوب الوارد على الخمسة غير الوجوب الوارد على الأربعة ، فلابدّ من التسامح الموجب لكون أحدهما عين الآخر بحسب النظر العرفي المسامحي [ منه قدس‌سره ].

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٥٩.

(٢) فرائد الأُصول ٣ : ٢٨٠ ـ ٢٨١.

٤٥٤

ولا يخفى أنّه لو تمّت المسامحة في ناحية الوجوب وقلنا إنّ الوجوب المتعلّق بالفاقد هو عين الوجوب المتعلّق بالواجد ، كان ذلك ـ أعني استصحاب نفس الوجوب ـ كافياً في المطلوب من دون حاجة إلى إثبات لازمه الذي هو كون جزئية الجزء المفقود مقيّدة بحال التمكّن ، فإنّ ما هو المطلوب لنا من وجوب الاتيان بالفاقد يترتّب على ذلك الاستصحاب من دون توقّف على لازمه المذكور كي يتوجّه عليه أنّ هذا الاستصحاب مثبت.

نعم ، يتوجّه على هذا الاستصحاب أنّ استصحاب وجود الوجوب لا يترتّب عليه أثر ما لم يترتّب عليه لازمه وهو كون الأربعة الباقية واجبة ، فيكون الأصل مثبتاً من هذه الناحية ، فإنّ حاصل الاستصحاب على الوجه الثالث هو أنّه كان لنا وجوب متعلّق بالأجزاء الخمسة ، وبعد تعذّر الخامس نشكّ في بقاء الوجوب ، وعلى تقدير تعلّق الوجوب بالأربعة يكون ذلك الوجوب بنفسه بالنظر العرفي المسامحي باقياً ، فنحن نستصحب بقاء وجود ذلك الوجوب الذي كان موجوداً حينما كنّا متمكّنين من الجزء الخامس على نحو مفاد كان التامّة ، ولا ريب أنّ الأثر وهو لزوم الاتيان بالأربعة الباقية لا يترتّب على ذلك المستصحب إلاّ باعتبار لازمه ، فإنّ لازم بقاء وجود الوجوب بمفاد كان التامّة هو كونه متعلّقاً بالأربعة الباقية ، لعدم معقولية بقاء وجود الوجوب بلا واجب يتعلّق [ به ] ، والأثر المطلوب وهو لزوم الاتيان بالأربعة الباقية إنّما يترتّب على هذا اللازم دون نفس المستصحب الذي هو وجود الوجوب بمفاد كان التامّة ، فذلك نظير المثال الذي ذكره الشيخ قدس‌سره (١) أعني استصحاب وجود الكرّ في هذا الاناء ، فإنّه لا يترتّب عليه الأثر المطلوب إلاّباعتبار لازمه وهو كون هذا الماء كرّاً ، فيكون مثبتية الأصل من

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ٢٨١.

٤٥٥

هذه الناحية لا من ناحية اللازم الآخر وهو كون جزئية الجزء المفقود مقيّدة بحال التمكّن ، فإنّ هذا اللازم لا يتوقّف عليه الأثر المطلوب وهو لزوم الاتيان بالأربعة فتأمّل ، هذا.

مضافاً إلى ما يرد عليه ممّا توجّه على التوجيه الثاني من عدم العبرة بالمسامحة العرفية في المركّبات الشرعية ، فإنّه يتوجّه عليه بطريق الأولوية ، إذ لا ينبغي الريب في عدم العبرة بالمسامحة العرفية في نفس الأحكام الشرعية ، فتأمّل.

لا يقال : إنّ استصحاب وجود الوجوب بمفاد كان التامّة بعد أن كان بنفسه لا يترتّب عليه الأثر المطلوب وهو وجوب الاتيان بالأربعة إلاّبأحد أمرين : الأوّل هو الانتقال من مفاد كان التامّة إلى مفاد كان الناقصة. والثاني الانتقال من الحكم ببقاء الوجوب بعد تعذّر الخامس إلى الحكم بأنّ قيدية الخامس ليست قيدية مطلقة ، وأيّ واحد من هذين الأمرين التزمنا به كان نافعاً في الحكم بلزوم الاتيان بالأربعة بعد تعذّر الخامس ، فلا وجه لما ذكرتموه من تعيّن الأوّل لإصلاح المسألة.

لأنّا نقول : الوجه في تعيّن الأوّل هو الاحتياج إليه حتّى لو التزمنا بالثاني ، فإنّ استصحاب بقاء الوجوب بمفاد كان التامّة لا يترتّب عليه اللازم الثاني وهو كون قيدية الخامس غير مطلقة إلاّبعد اتّصاف الأربعة بالوجوب الذي هو مفاد كان الناقصة ، وإذا صحّ لنا الانتقال من مفاد كان التامّة إلى مفاد كان الناقصة ، ترتّب ما هو المطلوب من وجوب الأربعة من دون حاجة إلى اللازم الثاني.

والحاصل : أنّ اللازم الثاني لا يترتّب على استصحاب الوجوب ابتداءً ، بل إنّما يترتّب على اللازم الأوّل ، وحيث كان اللازم الأوّل كافياً في ترتّب ما هو

٤٥٦

المطلوب كنّا غير محتاجين إلى اللازم الثاني ، فلاحظ وتأمّل.

وربما يقال : إنّ هذا الوجه الثالث الذي أفاده الشيخ قدس‌سره ـ أعني استصحاب وجود الوجوب بمفاد كان التامّة ـ لا يحتاج إلى التسامح العرفي قياساً على استصحاب وجود الكرّ بمفاد كان التامّة ، إذ لا يحتاج إلى التسامح العرفي.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ استصحاب وجود الكرّ بمفاد كان التامّة وإن كان غير محتاج إلى التسامح العرفي ، لأنّ الكرّ معلوم المقدار ، وقد علمنا بوجوده ونشكّ في بقاء وجوده لاحتمال انعدامه بالمرّة ، أو بقاء شيء من الماء وإن كان قليلاً ، أو بقاء شيء يشكّ في كونه كرّاً ، كلّ تلك الاحتمالات ينفيها استصحاب وجود الكرّ بمفاد كان التامّة ، إذ لو كان الكرّ باقياً بما هو مفاد كان التامّة لكان باقياً على حدة لم ينقص منه شيء. ودعوى صدق الكرّ عرفاً على الناقص قليلاً لا دخل لها بما نحن فيه من استصحاب الكرّية بمفاد كان التامّة ، بل لا دخل لها باستصحابه بمفاد كان الناقصة ، فإنّا عندما ندّعي أنّ نفس هذا الموجود من الماء كان متّصفاً بالكرّية حينما كان معه غيره ممّا أُخذ منه بنحو من التسامح القاضي بأنّ هذا الماء هو ذلك الماء ، فمن الواضح أنّ هذا التسامح الراجع إلى دعوى العرف اتّحاد الماءين لا دخل [ له ] بدعوى أُخرى للعرف وهي أنّ الكرّ المعلوم الحدّ لديهم الذي هو ألف ومائتا رطل صادق بنحو التسامح على ما ينقص عن ذلك المقدار بمثقال مثلاً ، فلاحظ وتأمّل.

وعلى كلّ حال ، نحن باستصحاب الكرّ بمفاد كان التامّة لا نكون محتاجين إلى شيء من التسامح ، لأنّ ذلك المقدار الذي علمنا بوجوده سابقاً نحكم بأنّه باقٍ لحدّ الآن لم ينتقض أصل وجوده ولم ينقص شيء من حدّه ، وهذا بخلاف الوجوب الذي كان موجوداً حينما كنّا متمكّنين من الخامس ، فإنّا لو استصحبناه

٤٥٧

بمفاد كان التامّة وحكمنا ببقائه يكون الباقي منه مغايراً لذلك الذي كان موجوداً فيما سبق ، لسعة الأوّل وانبساطه على الخامس ، بخلاف الباقي ، وحينئذ لابدّ من إزالة هذا المقدار من الاختلاف بين الوجوبين ، بدعوى أنّ العرف يرون بقاء الوجوب في ظرف تعذّر الخامس بقاءً للوجوب الذي كان وارداً على الخمسة على وجه يكون أحدهما عندهم عين الآخر ، وأنّه لو بقي الوجوب في ظرف تعذّر الخامس لكان هو هو لا غيره ، ولأجل ذلك قال الشيخ قدس‌سره : وقد عرفت أنّه لولا المسامحة العرفية في المستصحب وموضوعه لم يتمّ شيء من الوجهين ( التوجيهات ) ثمّ قال : لكن الإشكال بعدُ في الاعتماد على هذه المسامحة العرفية المذكورة ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ استصحاب الكرّية من المسلّمات عند القائلين بالاستصحاب ، والظاهر عدم الفرق (١).

وأنت بعد اطّلاعك على ما أفاده شيخنا قدس‌سره تعرف الفرق بين المسامحة في هذا الماء والمسامحة في هذه الأربعة من أجزاء الصلاة ، وليست المسامحة في هذا الماء براجعة إلى التسامح في صدق الكرّ على الناقص لكي يتطرّق إليها المنع من هذه الجهة ، بل المسامحة إنّما هي في اتّحاد هذا الماء بذلك الماء الذي كان ، وهذه قابلة للقبول من العرف ، بخلاف المسامحة في هذه الأربعة وتلك الخمسة فإنّ تسامحهم في اتّحادهما غير مقبول ، بل لعلّهم لا يتسامحون في شيء من ذلك بعد أن علموا بأنّ في البين ملاكات ومناطات في الركنية هم عنها أجانب بالمرّة ، وهكذا الحال في دعواهم اتّحاد الوجوب الوارد على الأربعة بالوجوب المنبسط على الخمسة.

ثمّ لا يخفى أنّ الذي يمكن دعوى تسالمهم عليه في باب الكرّية إنّما هو

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ٢٨٢.

٤٥٨

استصحاب الكرّية بمفاد كان الناقصة لا بمفاد كان التامّة ، فتسالمهم على المسامحة في مفاد كان الناقصة لا دخل له بالمسامحة بالوجوب بمفاد كان التامّة.

نعم يمكن أن يقاس عليه الوجوب بمفاد كان الناقصة ، لكنّك قد عرفت فيما أفاده شيخنا قدس‌سره أنّ القياس لا وجه له.

ومن بيان الاحتياج إلى المسامحة في نفس الوجوب على التوجيه الثالث ، يظهر لك أنّه لو لم يبق إلاّ القليل من أجزاء المركّب ، يكون الوجه الثالث مشاركاً للوجه الثاني في عدم الجريان ، حيث إنّ العرف كما لا يرى الاتّحاد بين هذا القليل من الأجزاء وبين تمام المركّب ، فكذلك لا يرى الاتّحاد بين الوجوب الوارد على هذا القليل وبين الوجوب المنبسط على تمام المركّب ، فلا يتمّ قوله قدس‌سره : وتظهر فائدة مخالفة التوجيهات فيما إذا لم يبق إلاّ القليل من أجزاء المركّب ، فإنّه يجري التوجيه الأوّل والثالث دون الثاني (١) فلاحظ.

ثمّ لا يخفى أنّا لو شككنا في أنّ الكرّ هل هو ما كان كلّ من طوله وعرضه وعمقه ثلاثة أشبار ، أو أنّه ما كان كلّ من طوله وعرضه وعمقه ثلاثة أشبار ونصف وكان لنا ماء واجداً للحدّ الثاني ، ثمّ أخذنا منه إلى أن بلغ إلى الحدّ الأوّل الذي هو الحدّ الأقل ، لم يمكن القول باستصحاب الكرّية ، سواء كان بمفاد كان التامّة أو بمفاد كان الناقصة.

والظاهر أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ وجوبنا السابق لم نعلم كيفيته على نحو الشبهة الحكمية ، وهل هو محدود بالخامس ومقيّد به بقول مطلق ، أو أنّ قيدية الخامس مقصورة على حال التمكّن منه ، فلا يحسن قياسه بالشكّ في بقاء الكرّية على نحو الشبهة الموضوعية ، وإنّما يصحّ قياسه بالمثال المذكور الذي

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ٢٨١.

٤٥٩

لا ينبغي الإشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه.

مثلاً لو علمنا أنّه يعتبر في الكرّ أن يكون بذلك الحدّ الأكثر الذي كان الماء واجداً له ، ولكن احتملنا أن يكون اعتبار ذلك الأكثر مقيّداً بما إذا كان الماء موفوراً لدينا دون ما إذا كان وجوده قليلاً على وجه يصعب تحصيله أو لا يمكن ، وقد وجد لنا ماء كثير في حال التمكّن ، ثمّ إنّه تعذّر وجود الماء ، وقد نقص هذا الماء الذي لدينا إلى حدّ القلّة ، فهل ترى أنّا نستصحب الكرّية بمفاد كان التامّة أو بمفاد كان الناقصة ، الظاهر أنّه لا يوافق الشيخ قدس‌سره على ذلك ولا غيره.

ثمّ لا يخفى أنّ في نسخ الرسائل اختلافاً في التفاضل بين هذه الوجوه الثلاثة ، ففي بعض النسخ ما نصّه : وأمّا الوجه الثالث فهو مبني على الأصل المثبت وستعرف بطلانه فتعيّن الوجه الثاني (١). ولكن في بعض هذه النسخ قد ضرب على هذه العبارة ، وفي بعض النسخ : وقد عرفت أنّه لولا المسامحة العرفية في المستصحب وموضوعه لم يتمّ شيء من الوجهين ( التوجيهات ) لكن الإشكال بعد في الاعتماد على هذه المسامحة العرفية المذكورة الخ (٢).

وأنت خبير بأنّه بنفسه قدس‌سره بناءً على هذه النسخ قد أبطل الوجه الثالث بالمثبتية ، كما أنّه قد أبطل باب التسامح العرفي ، فلا وجه لتوجّه الإشكال عليه بشيء من الوجهين ، فلاحظ.

ثمّ إنّه قبل هذه العبارة قال ما هذا لفظه : وحيث إنّ بناءهم على استصحاب نفس الكرّية دون الذات المتّصف بها كشف عن صحّة الأوّل من الأخيرين الخ.

والظاهر أنّ مراده هو أنّ بناءهم على استصحاب نفس الكرّية بمفاد كان

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ٢٨٢.

(٢) فرائد الأُصول ٣ : ٢٨٢.

٤٦٠