أصول الفقه - ج ١٠

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٠

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-83-6
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٩٤

البيع عند التخلّف في الجميع ، وعكسه في مثل كون المبيع عبداً كاتباً ، فإنّ الحكم فيه هو الخيار عند التخلّف بأي قالب كان إبراز أخذه في المبيع حتّى لو قال بعتك الكاتب.

وربّ مقام يكون المدار فيه على الصورة المأخوذة في الدليل ، كما في باب تغيّر بعض حالات الموضوع في قابليته لجريان الاستصحاب وعدم جريانه ، كما ذكره في خاتمة الاستصحاب ، وذلك قوله : وعلى هذا ينبغي أن يفرّق بين قوله عليه‌السلام : « الماء المتغيّر نجس » وبين قوله : « الماء ينجس إذا تغيّر » فإنّ المعنى وإن كان لا يختلف ، إلاّ أنّ الأوّل ظاهر في كون التغيّر قيداً للماء ، فيكون موضوع الحكم مجموع الماء المتغيّر ، والثاني ظاهر في كون التغيّر علّة لعروض النجاسة على الماء ، فيكون الموضوع ذات الماء (١). ثمّ فرّع على ذلك جريان الاستصحاب على الثاني دون الأوّل. ومن هذا القبيل ما تفرّق فيه بين القضية الحملية والقضية الشرطية ، في أنّ الأُولى لا مفهوم لها بخلاف الثانية ، فراجع ما أفاده في الجزء الأوّل من هذا التحرير (٢) في آية النبأ ، وأنّ القضية فيها مسوقة لبيان تحقّق الموضوع.

وربّ مقام يشترك الأثر فيه بين كون الشيء موضوعاً وكونه شرطاً ، حتّى لو قلنا بكونهما مختلفين واقعاً ولبّاً كما فيما نحن فيه ، لاشتراك الموضوع والشرط في عدم تحقّق الحكم قبل حصول ذلك الشيء ، سواء كان موضوعاً أو شرطاً ، ويشهد بذلك الأخبار الواردة في حرمة العصير ، ففي بعضها أُخذ الغليان موضوعاً

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٨٠.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٦٧ ـ ١٦٨.

٢١

مثل قوله عليه‌السلام : « كلّ عصير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه » (١) وفي بعضها أخذ الغليان شرطاً مثل قوله عليه‌السلام : « إنّ العصير إذا طبخ » الخ (٢).

ولأجل ذلك قال في الحقائق : هذا مضافاً إلى أنّ الظاهر أنّه لا فرق بين إناطة الحكم بالشرط باصطلاح النحاة ، مثل إذا غلى ينجس ، وإذا استطعت يجب عليك الحجّ ، وبين إناطته بالموضوع مثل العنب الغالي ينجس ، والمستطيع يجب عليه الحجّ ، وكما أنّه لا ريب في صحّة استصحاب الحكم المنوط بالموضوع ، ينبغي أن لا يستراب في صحّة استصحاب الحكم المنوط بشرطه ، فيكشف ذلك عن أنّ الاناطة في المقامين إنّما هي بالوجود اللحاظي ، وإلاّ لم يكن وجه للاستصحاب فيهما معاً (٣).

وحيث إنّ شيخنا قدس‌سره لم يعتن بكون الاناطة بالنظر إلى الوجود اللحاظي ، جعل الشرط والموضوع واحداً في أنّه لا تحقّق للحكم قبل تحقّق شرطه ، كما لا تحقّق له قبل تحقّق موضوعه ، وبناءً على ذلك لا يتوجّه عليه ما ذكره في ج ١ من المستمسك ص ١٨٩ إلى ص ١٩١ (٤).

وأمّا بعض الأمثلة التي ذكرها ، فالظاهر أنّها أجنبية عن محلّ البحث من كون شرط التكليف راجعاً إلى موضوعه ، وذلك مثل شهر رمضان والتردّد في كونه شرطاً للتكليف بالصوم ، أو أنّه قيد في متعلّق التكليف ، ويتفرّع على الثاني وجوب إحراز كون الصوم فيه ، فلا يجدي بقاء رمضان في إحراز هذا القيد ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٢٨٢ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢ ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ٢٥ : ٢٨٨ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٥ ح ١.

(٣) حقائق الأُصول ٢ : ٤٦٩.

(٤) مستمسك العروة الوثقى ١ : ٤١٦ ـ ٤١٩.

٢٢

بخلاف ما لو أخذناه شرطاً في التكليف ، لما هو واضح من أنّ المقابلة بين ما هو شرط التكليف وما هو شرط المكلّف به لا دخل له بالمقابلة بين شرط التكليف وموضوعه.

نعم ، في المثال مطلب آخر شرحناه فيما تقدّم (١) ، وهو أنّ قيد المكلّف به لكونه غير مقدور يكون شرطاً للتكليف قهراً ، فيكون الاستصحاب نافعاً على كلّ حال.

وأمّا مثال الكرّ والحوض فلم يكن لازماً لما أفاده شيخنا قدس‌سره من إرجاع الشرط إلى الموضوع ، إذ لا يلزمه أن يكون مفاد كان التامّة عين مفاد كان الناقصة ، وكأنّه يدّعي أنّ شيخنا قدس‌سره يقول إنّ كلّ تصرّفين شرعيين يكونان واردين على واقع واحد يكون أحدهما عين الآخر في جميع الآثار ، ولأجل ذلك نقض بهذه النقوض ، وكان عليه أن ينقض بأنّ لازمه هو كون الهبة المشروط فيها العوض عين البيع ، بل كان لازمه إبطال الحيل الشرعية في التخلّص من الربا ، إلى غير ذلك ممّا يلزمه تأسيس فقه جديد.

وأمّا ما ذكره العلاّمة الخراساني قدس‌سره في حاشيته على الرسائل بقوله : هذا كلّه لو كان الحكم حقيقة مشروطاً كما هو ظاهر القضية التعليقية ، وأمّا لو كان القيد في الحقيقة راجعاً إلى الموضوع ، بأن يكون العصير المغلي حراماً ، فالأمر في صحّة الاستصحاب أوضح ، لأنّه يكون استصحاباً لما ثبت محقّقاً وبالفعل من الحكم للمغلي من العصير سابقاً وشكّ فيه لاحقاً ، إلى آخر ما أفاده (٢) فعلى الظاهر أنّه لا يخرج عن دعوى كون وصف نفس العصير بحرمة الغالي منه من قبيل الوصف

__________________

(١) [ لم يتقدّم في هذا البحث حسبما لاحظناه ].

(٢) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ٢٠٨.

٢٣

بحال المتعلّق ، نظير زيد قائم الأب ، ومن الواضح أنّه تجوّز لا واقعية له ، أو دعوى صحّة قولنا إنّه لو لحقه الجزء الآخر لكان المجموع حراماً ، وقد عرفت ما فيه.

لكن العلاّمة الأصفهاني قدس‌سره في حاشيته على الكفاية بعد أن التزم بعدم صحّة الوجه الثاني من هاتين الدعويين ، نقل كلام أُستاذه في الحاشية وارتضاه ، وأوضحه بما لا يخرج عن إحدى هاتين الدعويين ، نعم في آخر كلامه جمل لعلّ المراد بها شيء آخر ، فإنّه قال : ومن البيّن أنّ العصير في حالة العنبية إذا قدّر غليانه ، بأن قدّر العصير المغلي في حالة العنبية ، كان له الحرمة قطعاً ، إذ ليس موضوعها إلاّ العصير المغلي المقدّر وجوده ، لا المحقّق وجوده حتّى يقال لم يكن في حالة العنبية عصير مغلي محقّق. وإذا كان العصير المغلي المقدّر وجوده في حال العنبية حراماً ، وشكّ في بقاء هذا الحكم المترتّب على المقدّر وجوده بعد تبدّل حالة العنبية إلى حالة الزبيبية ، صحّ استصحاب تلك الحرمة المرتّبة على موضوعها المتقوّم بتقدير وجوده وفرض ثبوته الخ (١) فلعلّ المراد أنّ الموضوع نفس التقدير ، لا أنّ الموضوع هو نفس وجود المقدّر وجوده ، وحينئذ فيرد عليه ما لا يخفى من الخلط بين كون الموضوع مقدّر الوجود وكونه هو تقدير الوجود ، فلاحظ وتأمّل.

ولعلّ هذا مأخوذ ممّا أفاده في البدائع في مبحث الترتّب ، فإنّه قال هناك : فإن قلت : الواجب المشروط لا يجب قبل الشرط ، فإذا كان ترك أحدهما شرطاً لوجوب الآخر فكيف يتّصف بالوجوب مقارناً للترك قبل تحقّقه. قلت : الشرط هو تقدير الترك لا نفس الترك ، وهو الفارق بين الواجب المشروط وبين ما نحن

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ١٧٣ ـ ١٧٤.

٢٤

فيه ، فإنّ الوجوب إن كان مشروطاً بوجود شيء فهذا هو الواجب المشروط الذي يتوقّف وجوبه على وجود الشرط ، ولا يتّصف بالوجوب قبله ولو مقارناً ، أمّا لو كان مشروطاً بتقديره لا بتحقّقه ووجوده فهذا يتّصف بالوجوب قبل وجوده ، لأنّ الشرط هو تقدير الوجود لا نفسه ، والتقدير محقّق قبل وجوده ، فلا مانع من تحقّق الوجوب قبل تحقّقه ، وهذا يسمّيه بعض بالواجب المعلّق ، قسيم الواجب المشروط والمطلق ، وبعض بالواجب المترتّب نظراً إلى ترتّب الوجوب على تقدير عدم الآخر ، وبعضهم يسمّيه بالواجب المشروط بالشرط المتأخّر ، والكل واحد الخ (١).

قوله : نعم الأثر المترتّب على أحد جزأي المركّب هو أنّه لو انضمّ إليه الجزء الآخر لترتّب عليه الأثر ، وهذا المعنى مع أنّه عقلي مقطوع البقاء في كلّ مركّب وجد أحد جزأيه ، فلا معنى لاستصحابه ... الخ (٢).

لا يخفى أنّه يمكن أن يقرّر المستصحب في مثل ما نحن فيه بوجوه : أوّلها هذا الذي أُشير إليه هنا. ثانيها : هو ما سيأتي من أنّ المستصحب هو نفس الحرمة التعليقية. ثالثها : ما سيأتي أيضاً من أنّ المستصحب هو الملازمة.

وتوضيح الوجه الأوّل هو أن يقال : إنّ العصير العنبي عندما وجد اتّصف بأنّ غليانه يوجب الحرمة والنجاسة ، وبعد أن صار زبيباً نشكّ في بقاء تلك الصفة له وهي كون غليانه موجباً للحرمة والنجاسة ، وهنا تنفع المسامحة العرفية ، لا من جهة كون العنبية والزبيبية بحسب النظر العرفي من الحالات الأجنبية عن المدخلية في موضوع الحكم الذي هو ذات العصير ، لأنّ ذلك لو تمّ لم نكن

__________________

(١) بدائع الأفكار ( للمحقّق الرشتي قدس‌سره ) : ٣٩٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٦٧.

٢٥

محتاجين إلى الاستصحاب ، بل من جهة أنّ العرف يرى اتّحاد القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة ، بحيث إنّ رفع اليد عن المتيقّن السابق الذي هو كون غليان ذلك العصير موجباً لحرمته لأجل طروّ الزبيبية عليه يعد بحسب نظرهم نقضاً لليقين السابق.

لكن يرد على التقريب المذكور ما أُفيد من كون ذلك المتيقّن السابق عقلياً صرفاً ، فإنّ كون غليان ذلك العصير العنبي موجباً لحرمته ليس بحكم شرعي ، وإنّما هو أمر عقلي منتزع من كون العصير العنبي أحد جزأي موضوع الحكم بالحرمة والنجاسة ، وهو العصير العنبي الغالي.

أمّا ما أُفيد من الايراد عليه ثانياً بأنّه مقطوع ، فالظاهر أنّه غير متوجّه عليه ، لأنّ ذلك المعنى الذي يراد استصحابه لا يكون مقطوع البقاء ، للشكّ في بقائه بواسطة الشكّ في مدخلية العنبية فيه ، وهذا بخلاف صحّة الأجزاء السابقة ، فإنّها إن أُخذت بمعنى أنّه لو انضمّ إليها باقي الأجزاء لأسقطت الأمر لكانت باقية حتّى في حال الشكّ ، أمّا كون غليان ذلك العصير موجباً للحرمة فبقاؤه بعد الانقلاب إلى الزبيبية مشكوك ، لاحتمال مدخلية العنبية في ذلك ، فلو أغضينا النظر عن كون ذلك المعنى عقلياً لا شرعياً ، لم يكن مانع من استصحابه.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أُفيد بقوله : وهذه القضية التعليقية ـ مضافاً إلى أنّها عقلية لأنّها لازم جعل الحكم على الموضوع المركّب الذي وجد أحد جزأيه ـ مقطوعة البقاء لا معنى لاستصحابها الخ (١) فإنّ المستصحب إن كان هو نفس الحرمة التعليقية الشرعية الكلّية لم يرد عليه سوى أنّها مقطوعة البقاء ، إذ لا يمكن الشكّ في بقائها إلاّمن ناحية الشكّ في النسخ ، وإن كان المستصحب هو

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٦٩.

٢٦

الحرمة التعليقية التي اتّصف بها العصير العنبي بعد فرض وجوده ، لم يرد عليه سوى ما أُفيد من كونها عقلية ، دون كونها مقطوعة البقاء ، لكونها حينئذ مشكوكة البقاء بواسطة الشكّ في مدخلية العنبية في تلك الحرمة ، وبعد التسامح العرفي في اتّحاد القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة يكون الاستصحاب فيها جارياً ، ولا إشكال فيه سوى إشكال أنّها ليست بشرعية ، من جهة كون تلك الحرمة التعليقية التي اتّصف بها ذلك العصير العنبي بعد وجوده لازماً عقلياً لجعل الحرمة ، مرتّبة على الموضوع المركّب منه ومن الغليان ، فإنّ لازم جعل الحرمة مرتّبة على العصير والغليان أنّ العصير إذا وجد قبل غليانه يكون متّصفاً بالحرمة التعليقية وهي أنّه لو غلى لكان حراماً.

لا يقال : قد تحقّق في محلّه صحّة جريان الاستصحاب في جزء الموضوع إذا كان جزؤه الآخر محرزاً بالوجدان ، والمصحّح لجريان الاستصحاب في الجزء المذكور إنّما هو الأثر اللاحق له باعتبار كونه جزءاً لموضوع الحكم ، فذلك الأثر اللاحق للجزء إذا كان مصحّحاً للاستصحاب في نفس الجزء فلِمَ لا يصحّح الاستصحاب الجاري في نفس ذلك الأثر ، أعني الأثر اللاحق لجزء الموضوع.

لأنّا نقول : المصحّح لاستصحاب جزء الموضوع عند الشكّ في بقائه مع فرض إحراز جزئه الآخر بالوجدان ليس هو الأثر اللاحق له باعتبار كونه جزءاً من الموضوع ، وإنّما المصحّح للاستصحاب المذكور هو ترتّب الحكم عليه ولو بعد جريان ذلك الاستصحاب المحقّق لاحراز جزء الموضوع ، ومن الواضح أنّ هذا المعنى غير متحقّق فيما نحن فيه.

والحاصل : أنّ المستصحب لابدّ من أحد الأمرين ، إمّا كونه في حدّ نفسه أثراً شرعياً عملياً ، أو كونه بحيث يترتّب عليه الأثر العملي الشرعي ، وفي

٢٧

استصحاب جزء الموضوع إذا كان جزؤه الآخر محرزاً بالوجدان أو بأصل آخر ، يكون المستصحب ممّا يترتّب عليه الأثر الشرعي العملي ، ويكفي في ذلك المستصحب كونه جزءاً ممّا يترتّب عليه الأثر الشرعي العملي إذا كان الجزء الآخر محرزاً أيضاً إمّا بالوجدان أو بالأصل ، أمّا جزء الموضوع فيما نحن فيه وهو العصير العنبي فليس هو المستصحب ، وإنّما المستصحب هو أثره ، والمفروض أنّه لا أثر له شرعي سوى تلك الحرمة المعلّقة على الجزء الآخر وهو الغليان ، وهذه الحرمة ليست بأثر شرعي ولا هي موضوع أو جزء موضوع لأثر شرعي.

والأولى [ أن يقال ] إن أُريد نفس الحرمة التعليقية فكما أنّها ليست بموجودة بنفسها قبل الغليان فكذلك جزء هذه الحرمة إن تصوّرنا للحكم جزءاً ، وإن كان المستصحب هو هذه الملازمة كانت غير شرعية سواء كان المستصحب هو نفسها أو جزءها.

وقد بقي في المقام تأمّل آخر ، وهو أنّ العصير العنبي حينما وجد قد اتّصف بصفة ، وهي أنّ غليانه موجب لحرمته ونجاسته ، وهذه الصفة وإن لم تكن بنفسها حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي ، إلاّ أنّ بقاءها إلى حين الغليان لمّا كان موجباً لتحقّق حكم شرعي فعلي ، وهو الحرمة والنجاسة الفعليين ، فلِمَ لا يجري فيها الاستصحاب بعد فرض التسامح ووحدة القضية المتيقّنة مع المشكوكة بحسب النظر العرفي ، إذ لا يشترط في المستصحب أن يكون ذا أثر في حال حدوثه ، بل يكفي تحقّق الأثر على تقدير بقائه ، فتأمّل جيّداً ، فإنّه إنّما يجري الاستصحاب في مثل ذلك إذا كان المستصحب في حال حدوثه لا يترتّب عليه أثر شرعي لكن كان يترتّب عليه في حال بقائه ، أمّا إذا لم يكن له أثر أصلاً ، بل لم يكن إلاّ أنّ بقاءه ملازم لتحقّق الأثر الشرعي ، فإنّ جريان الاستصحاب فيه في

٢٨

غاية الإشكال ، بل يمكن أن يقال : إنّ الاستصحاب في ذلك يكون مبنياً على الأصل المثبت ، فتأمّل جيّداً.

وتحرير هذا المبحث بنحو أخصر وأوضح هو أن يقال : إنّ في العصير العنبي إذا غلى بعد أن صار زبيباً جهتين من الكلام :

الأُولى : في مثير الشكّ في البقاء وهو نفس تبدّله من العنبية إلى الزبيبية. ثمّ بعد تحقّق الشكّ في بقاء ما كان مجعولاً للعصير الزبيبي ننقل الكلام إلى :

الجهة الثانية من الكلام : وهي الكلام على الاستصحاب ، وهذه الجهة هي المتكفّلة للإشكال في هذا الاستصحاب ، والإشكال يقرّر من ناحيتين : الناحية الأُولى ناحية تبدّل الموضوع. والناحية الثانية : ناحية كون اليقين حاصلاً قبل التئام الموضوع ، وكون الشكّ حاصلاً بعد التئامه.

أمّا الكلام في الناحية الأُولى ، فالذي يتكفّل بسدّ ثغرة الإشكال فيها هو الوحدة العرفية ، فإنّها ترفع هذا الإشكال من هذه الناحية كما ترفعه لو حصل الشكّ في حلّية أكله قبل الغليان ، فإنّ الحلّية الثابتة له في حال العنبية تنجرّ بالاستصحاب إلى حال الزبيبية ، ولا يضرّها هذا التغيير لما عرفت من الوحدة العرفية.

وبعد سدّ ثغرة الإشكال فيما نحن فيه من الناحية الأُولى ننقل الكلام إلى الإشكال من الناحية الثانية ، فيكون الإشكال في الاستصحاب التعليقي ممحّضاً بالإشكال من الناحية الثانية.

وملخّص الإشكال : أنّ المستصحب إن كان هو نفس الحرمة الكلّية اللاحقة للعصير العنبي عند غليانه ، فهذه الحرمة المتيقّنة لا شكّ في بقائها إلاّمن ناحية النسخ ، وحيث إنّ المفروض هو عدم النسخ ، فالحرمة الكلّية باقية بحالها لا يكون

٢٩

بقاؤها مشكوكاً. وإن كان المستصحب هو حرمة ذلك العصير الذي صار زبيباً أعني بذلك الحرمة الفعلية التي تلحقه عندما يغلي ، فهذه الحرمة لا تحقّق لها قبل حصول المعلّق عليه ، فكيف يمكن استصحابها.

وإن كان المستصحب هو الملازمة بين هذا العصير العنبي وبين حرمته عند الغليان ، فتلك وإن كانت موجودة متيقّنة قبل صيرورته زبيباً وقد تعلّق الشكّ ببقائها بعد الزبيبية ، إلاّ أنّها ليست بشرعية حتّى بناءً على جعل السببية ، لأنّ مرجع هذه الملازمة إلى أنّ هذا الجزء وهو العصير العنبي لو انضمّ إليه الجزء الآخر وهو الغليان لترتّب عليه الحرمة ، وهذه عقلية صرفة ، نظير استصحاب صحّة الجزء التي يكون مرجعها إلى أنّه لو انضمّ إليه باقي الأجزاء لترتّب عليه الأثر. نعم الذي قيل بكونه شرعياً بناءً على جعل السببية هو الملازمة بين تمام الموضوع وبين حكمه ، لا الملازمة بين جزئه الأوّل الذي هو العصير العنبي ، وبين ترتّب الحرمة عليه لو انضمّ إليه الجزء الآخر.

فقد تلخّص : أنّ المستصحب إن كان هو الأوّل ، فذلك لا شكّ في بقائه. وإن كان الثاني وهو نفس حرمة العصير العنبي على تقدير غليانه المعبّر عنه بالحرمة التعليقية فذلك لا وجود له قبل الغليان ـ لأنّ المعلّق عدمٌ قبل وجود المعلّق عليه ـ كي يقال إنّه وقع الشكّ في بقائه فيستصحب. وإن كان المستصحب هو الثالث أعني الملازمة بين هذا العصير عند غليانه وبين الحرمة ، فهذه الملازمة وإن كانت متيقّنة سابقاً ومشكوكة بعد الغليان ، إلاّ أنّها لمّا لم تكن شرعية حتّى بناءً على جعل السببية لم يمكن إجراء الاستصحاب فيها.

وما أُفيد في الإشكال على ذلك ثانياً بأنّه لو سلّم كون هذه الملازمة شرعية لما جرى فيها الاستصحاب لعدم حصول الشكّ في بقائها ، ففيه تأمّل ، لأنّ هذه

٣٠

الملازمة اللاحقة للعصير العنبي المفروض تبدّله إلى الزبيبية مشكوكة البقاء ، من جهة الشكّ في تبدّل معروضها من العنبية إلى الزبيبية.

والحاصل : أنّ المستصحب إن كان هو نفس الحرمة فقد عرفت أنّ العصير لا يوصف بالحرمة قبل الغليان ، وما يقال من أنّه وإن لم يوصف بالحرمة الفعلية إلاّ أنّه موصوف بالحرمة التعليقية ، لأنّ الحرمة التعليقية لها حظّ من الوجود في عالم الاعتبار ولو قبل وجود ما علّقت عليه ، ففيه أنّه لا معنى ولا محصّل للحرمة التعليقية إلاّ أنّ هذا العصير لو لحقه الغليان لحرم ، وذلك عبارة أُخرى عن قضية حملية تكون القضية الشرطية محمولاً فيها ، ومن الواضح أنّ ذلك إنّما هو أمر عقلي انتزاعي ، ينتزعه العقل من جعل الشارع الحرمة على موضوعها الذي هو العصير الغالي أو العصير عند الغليان ، فإنّ الشارع لم يجعل هذه الملازمة بين هذا العصير وبين حرمته عند غليانه ، وإنّما جعل الحرمة له على تقدير غليانه ، فالمجعول الشرعي للعصير هو تلك الحرمة التي تنوجد عند الغليان ، لا الملازمة بينه وبين الحرمة على تقدير الغليان ، فقبل وجود الغليان لا يكون لنا موجود شرعي ، وإنّما يكون الموجود حينئذ أمراً عقلياً منتزعاً من تلك الحرمة التي جعلها الشارع للغليان ، وذلك الأمر الانتزاعي المعبّر عنه بأنّ هذا العصير لو غلى لحرم ليس بنفسه هو المجعول الشرعي. نعم لا يرد على هذا التقريب ما أُورد عليه ثانياً بأنّ تلك الحرمة التعليقية الانتزاعية مقطوعة لا مشكوكة ، لما عرفت من طروّ الشكّ عليها بواسطة التبدّل من الزبيبية إلى العنبية.

نعم ، يرد عليه ثانياً ما أورد ثانياً على التقريب الآخر الذي نقله عن الشيخ قدس‌سره ، وحاصل ذلك الإيراد الثاني : أن الملازمة بين الموضوع وحكمه التي

٣١

قيل بأنّها شرعية بناءً على جعل السببية إنّما هي الملازمة بين تمام الموضوع وبين حكمه ، أمّا الملازمة بين جزء الموضوع الذي هو العصير وبين الحكم على تقدير وجود الجزء الآخر الذي هو الغليان ، فتلك عقلية صرفة لم يقل أحد بأنّها شرعية ، والمفروض أنّ المراد استصحابه فيما نحن فيه إنّما هي هذه الملازمة المعبّر عنها بأنّ هذا العصير لو لحقه الغليان لكان حراماً ، لا الملازمة بين العصير الغالي وبين الحرمة ، فإنّها ليست مطروّة للشكّ.

وينبغي أن يعلم أنّ التقريب الأوّل للحرمة التعليقية وهو كون العصير لو غلى لكان حراماً هو عين التقريب الثاني المعبّر عنه بالملازمة بين الغليان والحرمة ، فإنّ هذه الملازمة لابدّ أن يراد منها الملازمة بين غليان هذا العصير والحرمة ، فيكون هذا العصير متّصفاً بأنّه لو غلى لكان حراماً ، وذلك عين التقريب الأوّل فتأمّل.

تنبيه : لو كان الشرط أمراً تكوينياً غير الغليان ، مثل أن يقول : يحرم العصير العنبي عند مجيء زيد ، فتبدّل إلى الزبيبية قبل مجيئه ثمّ جاء ، فهل يمنع من استصحاب هذا الحكم التعليقي. وينبغي أن يتأمّل في استصحاب وجوب القصر أو استصحاب وجوب التمام قبل الوقت هل هو من قبيل الاستصحاب التعليقي أو لا ، وينبغي مراجعة ما حرّرته في المجموعة (١) في مسألة العدول عن نيّة الإقامة وحصول الصلاة الرباعية مع الشكّ في المقدّم منهما ، فبعد تعارض الأُصول الموضوعية هل يكون المرجع هو استصحاب وجوب التمام ولو كان الرجوع المحتمل قبل الوقت ، وهل يكون ذلك من الاستصحاب التعليقي.

__________________

(١) [ الظاهر أنّه قدس‌سره يشير بذلك إلى مجموعته الفقهية الاستدلالية المخطوطة ].

٣٢

قوله : أنّ الشكّ في حلّية الزبيب وطهارته الفعلية بعد الغليان وإن لم يكن مسبّباً عن الشكّ في نجاسته وحرمته الفعلية بعد الغليان ، وإنّما كان الشكّ في أحدهما ملازماً للشكّ في الآخر ، بل الشكّ في أحدهما عين الشكّ في الآخر ، إلاّ أنّ الشكّ في الطهارة والحلّية الفعلية في الزبيب المغلي مسبّب عن الشكّ في كون المجعول الشرعي هل هو نجاسة العنب المغلي وحرمته مطلقاً حتّى في حال كونه زبيباً ... الخ (١).

لا يخفى أنّه لو كان الشكّ في أحدهما عين الشكّ في الآخر لكان استصحاب كلّ منهما رافعاً للشكّ في الآخر ، فتكون المعارضة باقية بحالها بنحو أقبح ، فإنّها حينئذ من قبيل حكومة كلّ من الأصلين على الآخر ، لا من قبيل مجرّد المعارضة.

وأمّا ما أُفيد بقوله : إلاّ أنّ الشكّ في الطهارة والحلّية الفعلية في الزبيب المغلي مسبّب عن الشكّ في كون المجعول الخ ، فهو غير رافع للإشكال بل يؤيّده ويؤكّده ، لأنّ كلاً منهما إذا كان مسبّباً عن الشكّ في إطلاق الحكم المستفاد من الدليل وشموله لحال الزبيبية ، فلا وجه لتقديم أحد الاستصحابين على الآخر ، لأنّ كلاً منهما لا يكون مزيلاً لناحية الشكّ في ذلك الدليل كي يكون مزيلاً للشكّ المسبّب عنه ، إذ كما أنّ استصحاب الحرمة يقال فيه إنّه يشرح ذلك الدليل ويبيّن شموله لحال الزبيبية ، فلِمَ لا يقال ذلك في ناحية استصحاب الحلّية وأنّه يشرح ذلك الدليل ويبيّن اختصاصه بحال العنبية ، وما ذلك إلاّلأنّ أقصى ما في استصحاب الحرمة أنّه حكم على طبق العموم والشمول لا أنّه مبيّن للشمول ، فكذلك استصحاب الحلّية أقصى ما فيه أنّه حكم تعبّدي على طبق الخصوص ، لا أنّه مبيّن لكون الدليل خاصّاً.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٧٤ ـ ٤٧٥.

٣٣

ولعلّ هذا هو المتحصّل من قول صاحب الكفاية قدس‌سره : وبالجملة يكون الاستصحاب متمّماً لدلالة الدليل على الحكم فيما أُهمل أو أُجمل كان الحكم مطلقاً أو معلّقاً الخ (١) فإنّ هذه الجملة وإن لم يسقها صاحب الكفاية لبيان حكومة استصحاب الحرمة التعليقية على استصحاب الحلّية الفعلية ، إلاّ أنّها صالحة لذلك بالبيان الذي أفاده شيخنا قدس‌سره ، ولكن قد عرفت التأمّل في ذلك.

ثمّ لا يبعد أن تكون دعوى العينية مبنية على دعوى كون الاباحة عبارة عن عدم الحرمة ، لا أنّها حكم مستقل في قبال الحرمة. ولا يخفى ما فيه ، فإنّ كلامنا إنّما هو في إباحة العصير الزبيبي ، وهي إباحة اقتضائية في قبال الحرمة ، لا أنّها عبارة عن مجرّد عدم الحرمة ، مع أنّا لو سلّمنا كون الاباحة عبارة عن عدم الحرمة لم يكن ذلك نافعاً في التخلّص عن إشكال المعارضة ، فإنّ استصحاب الاباحة ولو بمعنى عدم الحرمة معارض لاستصحاب الحرمة ، كمعارضة استصحاب عدم الحرمة لاستصحاب الحرمة.

قوله : والحاصل : أنّ الشكّ في الحلّية والحرمة والطهارة والنجاسة في الزبيب المغلي مسبّب عن الشكّ في كيفية جعل النجاسة والحرمة للعنب المغلي ، وأنّ الشارع هل رتّب النجاسة والحرمة على العنب المغلي مطلقاً في جميع مراتبه المتبادلة ، أو أنّ الشارع رتّب النجاسة والحرمة على خصوص العنب ولا يعمّ الزبيب ، فالاستصحاب التعليقي يقتضي كون النجاسة والحرمة مترتّبين على الأعمّ ، ويثبت به نجاسة الزبيب المغلي ، فلا يبقى مجال للشكّ في الطهارة والحلّية ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ هذه الجملة اعتراف بأنّ كلاً من الشكّ في الحلّية بعد الغليان

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤١١.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٧٥.

٣٤

والشكّ في الحرمة بعد الغليان مسبّب عن الشكّ في عموم الدليل الاجتهادي وشموله للزبيب ، فعلى تقدير عمومه له يكون العصير الزبيبي محكوماً بالحرمة بعد الغليان ، وعلى تقدير عدم عمومه له يكون العصير المذكور بعد الغليان محكوماً بالحلّية ، فيتوجّه عليه حينئذ أنّ استصحاب الحرمة التعليقية لا يكون رافعاً للشكّ في ذلك الدليل الاجتهادي ، ومبيّناً لعمومه للعصير الزبيبي ، ولو سلّمنا له هذه الصلاحية لكان استصحاب الحلّية الثابتة للعصير الزبيبي قبل غليانه والحكم ببقائها بعد الغليان رافعاً للشكّ في ذلك الدليل ، ومبيّناً لاختصاصه بحال العنبية وعدم شموله لحال الزبيبية.

وأمّا ما أُفيد في آخر المبحث من قوله : وحاصل الكلام ـ إلى قوله ـ فإنّ التعبّد بنجاسة العنب المغلي وحرمته بما له من المراتب التي منها مرتبة كونه زبيباً كما هو مفاد الاستصحاب التعليقي يقتضي التعبّد بعدم طهارته وحلّيته ، إذ لا معنى للتعبّد بالنجاسة والحرمة إلاّ إلغاء احتمال الطهارة والحلّية الخ (١) ففيه : أنّه بعد فرض عدم السببية والمسبّبية بين الشكّين ، وأنّ كلاً منهما مسبّب عن الشكّ في الدليل الاجتهادي ، يمكن أن يقال : إنّ التعبّد ببقاء الحلّية والطهارة الثابتتين للعصير الزبيبي قبل الغليان وجرّهما إلى ما بعد الغليان ، يقتضي التعبّد بعدم نجاسته وحرمته بعد الغليان ، إذ ليس حينئذ أحد الاستصحابين أولى بالتقدّم من الآخر.

فالأولى في وجه الحكومة هو أن يقال : إنّ الوجه في حكومة الاستصحاب التعليقي هو أنّ كلاً من الحلّية والحرمة وإن كان ضدّاً للآخر إلاّ أنّ الحكم بأحدهما يقتضي رفع الآخر ، بل إنّ الحكم بأحدهما عين رفع الآخر ، وحينئذ نقول : إنّ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٧٧.

٣٥

العصير في حال كونه عنباً محكوم بالحرمة على تقدير الغليان ، والحكم عليه بالحرمة على تقدير الغليان هو عين رفع الحلّية عند الغليان ، ثمّ إنّ ذلك العصير من حين صيرورته زبيباً إلى حين غليانه محكوم بالحلّية فعلاً ، وهذه الحلّية المعلومة في حدّ نفسها لم يثبت أنّها محدودة ومرتفعة بالغليان ، إلاّ أنّه في هذه القطعة من الزمان يعني من زمان صيرورته زبيباً إلى حال الغليان لمّا كان محكوماً بالحرمة على تقدير الغليان استصحاباً لحرمته التعليقية ، وجرّها من حال العنبية إلى حال الزبيبية ، كان مقتضى هذا الاستصحاب هو أن تكون حلّيته الثابتة له في حال الزبيبية مرتفعة بالغليان كما كانت حرمته التعليقية الثابتة له بالوجدان في حال العنبية حاكمة بارتفاع حلّيته الفعلية عند الغليان.

قوله : والسرّ في ذلك : هو أنّه في الشبهات الموضوعية يكون أحد طرفي الشكّ المسبّبي أثراً شرعياً لمؤدّى الأصل السببي بدليل آخر (١).

الظاهر أنّ هذا كلّه إنّما هو لأجل تعدّد الموضوع الذي يجري فيه الأصل أعني بذلك مورد الشكّ السببي ومورد الشكّ المسبّبي ، لا لخصوصية في كون الشبهة موضوعية ، وإلاّ فإنّ طهارة الماء حكم شرعي وإن كان منشأ الشكّ في بقائه هو الشبهة الموضوعية كما في المثال ، وربما كان منشأ الشكّ في بقائه هو الشبهة الحكمية ، كما لو كان الماء مشكوك الطهارة بنحو الشبهة الحكمية ، بأن كان قليلاً ولاقته نجاسة وحصل لنا الشكّ في نجاسة الماء القليل فاستصحبنا طهارته قبل الملاقاة ، فإنّ هذا الاستصحاب وإن كان مورده الشبهة الحكمية يكون حاكماً على استصحاب نجاسة الثوب المغسول فيه ، لأنّه يدخله تحت الكبرى القائلة بأنّ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٧٦.

٣٦

الغسل بالماء الطاهر مطهّر ، وفي كلّ من الموردين يكون استصحاب الطهارة منقّحاً للموضوع في الشكّ المسبّبي ، فإنّه يوجب كون الثوب مغسولاً بماء طاهر ، وكلّ ما غسل بماء طاهر يكون طاهراً ، وبذلك يرتفع الشكّ في بقاء نجاسته. وهذه الجهة وهي إزالة الشكّ في ناحية المسبّب هي الملاك في الحكومة ، وهي بعينها المدعاة فيما نحن فيه ، فإنّ استصحاب الحرمة التعليقية تحقّق الكبرى في ناحية السبب ، وبعد أن تتحقّق الكبرى فيه وهي حرمته التعليقية يرتفع الشكّ في ناحية المسبّب وهي بقاء الحلّية ، ويكون العصير ممّا أحرز ارتفاع حلّيته ، فلا يكون بقاؤها مشكوكاً كي ينطبق عليه كبرى « لا تنقض اليقين بالشكّ ».

وكأنّه لأجل هذه الجهة ـ من عدم الفرق بين الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية في حكومة الأصل السببي على الأصل المسبّبي ـ قال فيما حرّره عنه السيّد سلّمه الله بعد بيان وجه الحكومة ما هذا لفظه : وهذا هو المعيار في حكومة أحد الدليلين على الآخر ، من دون فرق بين كون الأصل الحاكم أصلاً حكمياً أو موضوعياً (١) فلاحظ وتأمّل.

قوله : فإنّ التعبّد بنجاسة الشيء وحرمته يقتضي عدم الحلّية والطهارة (٢).

نعم ، يقتضيها ولكن بالملازمة العقلية ، لما عرفت من كون الحلّية ثبوتية لا مجرّد عدم الحرمة ، وإن سلّمنا أنّها عبارة عن عدم الحرمة كان استصحابها معارضاً لاستصحاب الحرمة.

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٢٧.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٧٧.

٣٧

قوله : فالاستصحاب التعليقي لو لم يثبت عدم حلّية الزبيب وطهارته كان التعبّد به لغواً ، ويلزم بطلان الاستصحاب التعليقي أساساً ... الخ (١).

ليس هذا بلازم باطل ، وإنّما جلّ غرض المستشكل هو إبطاله وإلغاؤه. نعم فيما لم يكن معارض لاستصحاب الحرمة لا يكون استصحاب الحرمة ( بناءً على ما ذكرناه من كون الحلّية ثبوتية ) مثبتاً لعدم الاباحة ، لكن هناك نقول إنّه يكفي في مقام العمل مجرّد ثبوت الحرمة ، وإن لم يكن في البين ما يثبت عدم الاباحة ، أعني الاباحة الثبوتية الاقتضائية.

والذي تلخّص : هو أنّ شيخنا قدس‌سره قد أفاد في وجه حكومة استصحاب النجاسة والحرمة التعليقيتين على استصحاب الحلّية والطهارة الفعليتين ، أنّ الشكّ في طهارة العصير وحلّيته عند الغليان مسبّب عن عموم الدليل القائل إنّ العنب إذا غلى يحرم وينجس ، وشموله لما إذا صار زبيباً ، فإذا جرى الاستصحاب في هذا الحكم التعليقي ارتفع الشكّ في طهارته وحلّيته.

وفيه تأمّل أوّلاً : من جهة كون ذلك مثبتاً ، فإنّ الأصل لا يثبت عموم الدليل إلاّ بلازمه ، وإن كان قد صرّح السيّد في تحريراته بقوله : وإذا أُحرز العموم بالاستصحاب الخ (٢) وكيف يمكن إحراز العموم بالاستصحاب.

وثانياً : من جهة أنّ كشف هذا الاستصحاب التعليقي عن عموم الدليل الموجب لزوال الشكّ في طهارته وحلّيته ليس بأولى من دعوى كون استصحاب الحلّية والطهارة الفعليتين كاشفاً عن اختصاص ذلك الحكم التعليقي بخصوص حالة العنبية.

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ١٢٧.

٣٨

ثمّ إنّه قدس‌سره أشكل على نفسه بأنّ المسبّب هنا ليس من الآثار الشرعية للسبب ، وأجاب عنه : بأنّ ذلك إنّما يعتبر في الأُصول الموضوعية دون الأُصول الحكمية ، فإنّها لا تحتاج إلى ذلك ، لأنّ عدم الحلّية والطهارة بنفسه أثر للحكم بالحرمة والنجاسة.

وفيه تأمّل أيضاً ، لعدم وضوح هذا الفرق ، وكأنّه لأجل ذلك قال في تحريرات السيّد سلّمه الله : من دون فرق بين كون الأصل الحاكم أصلاً حكمياً أو موضوعياً (١). ولو سلّم فليس ذلك بأولى من القول بأنّ عدم الحرمة والنجاسة أثر للحكم بالحلّية والطهارة.

ثمّ قال : فالاستصحاب التعليقي لو لم يثبت عدم حلّية الزبيب وطهارته كان التعبّد به لغواً ، ويلزم بطلان استصحاب التعليقي أساساً.

ويمكن التأمّل فيه أوّلاً : بأنّ هذا ليس بأولى من القول بأنّ استصحاب الطهارة والحلّية لو لم يثبت عدم الحرمة والنجاسة لكان لغواً. وثانياً : أنّ هذا هو مراد المشكل ، فإنّه يريد سقوط الاستصحاب التعليقي ، لأنّه دائماً مبتلى بمعارضة الاستصحاب التنجيزي.

ثمّ قال : إذ لا معنى للتعبّد بالنجاسة أو الحرمة إلاّ إلغاء احتمال الحلّية والطهارة ، انتهى.

ويمكن التأمّل فيه ، بأنّه ليس بأولى من القول بأنّه لا معنى للتعبّد بالحلّية والطهارة عند الغليان إلاّ إلغاء احتمال الحرمة والنجاسة ، فتأمّل.

والإنصاف : أنّ ورود هذه التأمّلات فيما أفاده مؤيّد ما شرحنا من كون جعل الحكم الطارئ يكون بنفسه جعلاً لرفع الحكم الموجود قبل جعل ذلك الطارئ ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٢٧.

٣٩

فإنّ التعبّد بعروض الحرمة والنجاسة عند الغليان يكون تعبّداً برفع الطهارة والحلّية ، بخلاف العكس لأنّ التعبّد ببقاء الطهارة والحلّية لا يكون تعبّداً إلاّبالعدم لهما ، الذي هو توأم مع وجود الحلّية والطهارة ، فلاحظ ما شرحناه ونقلناه عن تحريراتنا عنه قدس‌سره في التنبيه الثاني (١) الذي عقدناه لتوجيه الحكومة المذكورة من التنبيهين الآتيين.

تنبيه : يمكن أن يشكل على استصحاب الحلّية المنجّزة حين التبدّل إلى الزبيبية ، بأنّها إن كانت هي الثابتة للعنب التي هي محدودة شرعاً بالغليان فقد ارتفعت بالغليان ، وإن كانت هي الثابتة للزبيب بأن كان التبدّل إليه موجباً لتغيّر الموضوع ، فهي باقية قطعاً بعد الغليان ، فتكون تلك الحلّية الثابتة في حال الزبيبية مردّدة بين مقطوع الارتفاع ومقطوع البقاء ، فلم يبق إلاّ استصحاب الكلّي ، وحينئذ تندرج المسألة في القسم الثالث من الكلّي ، لأنّا بعد الغليان نعلم بأنّ حلّية العنب قد ارتفعت إمّا بالتبدّل إلى الزبيبية وإمّا بالغليان ، غايته أنّا نحتمل قيام حلّية أُخرى مقامها لو كان ارتفاعها بالتبدّل ، فتكون المسألة مندرجة في استصحاب القسم الثالث من الكلّي.

وبالجملة : أنّ المتيقّن الحدوث هو الحلّية المحدودة ، وهي حلّية العنب ، ولكنّا عند صيرورته زبيباً نحتمل تبدّلها إلى حلّية غير محدودة على وجه لا يكون الغليان موجباً لارتفاعها وانقطاعها ، فلو أردنا استصحاب كلّي الحلّية كان من قبيل القسم الثالث من الكلّي ، إذ هو حينئذ نظير ما لو علمنا بوجود البقّة في هذه الغرفة لكن في اليوم الثاني احتملنا دخول الفيل إلى الغرفة واعدامه للبقّة ، بمعنى أنّا في اليوم الثاني احتملنا أنّ البقّة تبدّلت بالفيل ثمّ جاء اليوم الثالث وانتهى وهو آخر

__________________

(١) الظاهر أنّ المراد به هو التنبيه الآتي في الصفحة : ٦٠ وما بعدها.

٤٠