أصول الفقه - ج ١٠

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٠

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-83-6
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٩٤

حياة البقّة ، ففي مثل ذلك لا يمكننا استصحاب كلّي الحيوان ، لأنّه من قبيل القسم الثالث ، فإنّا وإن كنّا في اليوم الثاني قاطعين بوجود الحيوان المردّد بين الفيل والبقّة ، إلاّ أنّ ما هو معلوم الحدوث من ذلك الكلّي وهو البقّة قد ارتفع يقيناً إمّا بالفيل أو بانقضاء الثلاثة ، غايته أنّا نحتمل ارتفاعه بالفيل الذي يخلف البقّة ، فيكون راجعاً إلى القسم الثالث. نعم لو كان الحادث مردّداً بين البقّة والفيل لكان من قبيل القسم الثاني.

وهكذا الحال فيما نحن فيه ، فإنّ الزبيب لو كانت حلّيته حادثة وتردّدت بين الحلّية المحدودة بالغليان وغير المحدودة به ، لكان استصحاب القدر الجامع بينهما بعد الغليان من قبيل القسم الثاني من الكلّي ، لكن المفروض ليس كذلك ، بل إنّ حلّيته إن كانت محدودة بالغليان فهي الحلّية السابقة التي كانت له حينما كان عنباً لا حلّية جديدة ، وإن لم تكن محدودة بالغليان فهي حلّية جديدة تخلف الحلّية السابقة المحدودة ، فلا يكون استصحاب القدر الجامع بينهما إلاّمن قبيل القسم الثالث من الكلّي الذي قد علم بوجوده في ضمن المحدودة ، وقد علم بارتفاع ذلك المحدود ، إمّا بوجود حدّه وإمّا لتبدّله إلى غير المحدود. ولو سلّمنا أنّه من قبيل القسم الثاني توجّه إليه المنع من وجود القدر الجامع بين الحلّيتين.

ومن ذلك يظهر لك الوجه فيما حكموا به من عدم وجوب الغسل فيما لو كان محدثاً بالأصغر واحتمل طروّ الجنابة عليه ، بناءً على أنّ الحدث الأكبر معدم للأصغر ، فإنّه وإن كان حدثه عند احتمال طروّ الجنابة مردّداً بين الأصغر والأكبر ، إلاّ أنّه لمّا كان مسبوقاً بالأصغر فهو بعد الوضوء يعلم بارتفاع الأصغر إمّا بالوضوء وإمّا بالجنابة ، غايته أنّه يحتمل أنّه قد قامت الجنابة مقام الأصغر لو كانت قد حدثت له ، فيكون استصحاب كلّي الحدث من قبيل القسم الثالث.

٤١

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المنظور إليه في الاستصحاب ليس هو مجموع ما مرّ عليه ليكون من قبيل القسم الثالث ، بل المنظور إليه في ذلك هو حالة احتمال طروّ الجنابة ، وهو في ذلك الحال عالم بأنّه محدث بحدث مردّد بين الأصغر والأكبر ، فيستصحب القدر الجامع بينهما ، ويكون من قبيل القسم الثاني ، ويندرج في اجتماع المقتضي وعدم المقتضي ، بمعنى أنّا لو نظرنا إلى مجموع ما مر عليه كان من قبيل عدم المقتضي ، لأنّ الاستصحاب حينئذ ينحصر بالقسم الثالث وهو غير جار ، لكن لو نظرنا إلى حالته عند احتمال الجنابة كان من قبيل المقتضي ، لأنّه يكون من قبيل القسم الثاني.

وهكذا الحال فيما نحن فيه ، فإنّا لو نظرنا إلى مجموع ما مرّ على هذا العصير من حين كونه عنباً إلى كونه زبيباً إلى غليانه ، كان استصحاب الحلّية الكلّية فيه من قبيل القسم الثالث ، لكن لو نظرنا إلى خصوص حالته الزبيبية كان من قبيل القسم الثاني.

أمّا الاستناد إلى استصحاب بقاء حلّية العنب المحدودة إلى ما بعد التبدّل ، أو استصحاب عدم حدوث حلّية جديدة عند التبدّل ، ففيه أنّهما لا يزيلان الشكّ في هذه الحلّية إلاّبالأصل المثبت ، فتأمّل.

لا يقال : إنّ الحلّية حال العنب وإن كانت محدودة ، إلاّ أنّا بعد التبدّل إلى الزبيب نشكّ في أنّها حينئذ محدودة بالغليان فترتفع عنده فيستصحب بقاؤها.

لأنّا نقول : إنّ هذا إنّما يتمّ لو كانت الحلّية عند التبدّل إلى الزبيب هي الحلّية السابقة ، غايته أنّ حدّها بالغليان قد ارتفع ، وهذا خلاف الفرض ، فإنّ المفروض أنّ لنا حلّيتين إحداهما عند العنب وهي محدودة ، والأُخرى عند التبدّل وهي غير محدودة ، وإنّما قلنا باختلافهما لأجل اختلاف موضوعهما ، فإنّا لو قلنا إنّ الزبيب

٤٢

مغاير للعنب بحيث كان موضوعاً جديداً ، فلا جرم تكون حلّيته هي مباينة للحلّية التي كانت لاحقة للعنب.

قال الأُستاذ العراقي قدس‌سره في مقالته : وأمّا بناءً على مشربنا فقد يتوهّم عدم وصول النوبة إلى المعارضة أصلاً ، إذ كما يجري استصحاب الحرمة التعليقية كذلك يجري استصحاب عدم الوجوب منوطاً بعدم المعلّق عليه ، وإن كانت مثل تلك الاناطة عقلية محضة من قبيل تزاحم المناطين (١).

بدّل الاباحة بالوجوب ليظهر أثر المعارضة والتزاحم ، وكأنّه إشارة إلى ما في الكفاية (٢) من أن استصحاب الحلّية المغيّاة بالغليان أو التي يكون عدمها معلّقاً على الغليان ، لا يعارض استصحاب الحرمة المعلّقة على الغليان لجريانهما معاً بلا تدافع بينهما. والعبارة مشتملة على زيادة لفظ « العدم » ، فإنّ المراد هو أنّه لو فرضنا أنّ حكمه قبل حصول الغليان هو الوجوب ، يكون عدم الوجوب منوطاً بوجود المعلّق عليه ، بمعنى أنّ زوال ذلك الوجوب مشروط بالغليان ، أو المراد أنّ ذلك الوجوب يكون بقاؤه منوطاً بعدم ذلك المعلّق عليه الحرمة أعني الغليان ، فلابدّ من إسقاط أحد لفظي « العدم » من العبارة ، ولعلّ قوله : كما أنّ لنا حينئذ قطعاً بعدم الوجوب منوطاً بالمعلّق عليه للحرمة الخ ، قرينة على الأوّل ، أعني إسقاط لفظ « العدم » من المعلّق عليه.

وكيف كان ، فالظاهر أنّ هذا التوهّم الذي ذكره هو تعريض بما في الكفاية ، وقد أجاب عنه بقوله : ولكن لا يخفى ما فيه ، من أنّه كما أنّ لنا حينئذ قطعاً بعدم الوجوب منوطاً بالمعلّق عليه للحرمة ، كذلك لنا أيضاً قطع مطلق ( متعلّق )

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٤٠٣.

(٢) كفاية الأُصول : ٤١٢.

٤٣

بوجوب الشيء منجّزاً ، وكلّ واحد من القطعين مشمول حرمة النقض ، بلا وجه لتقدّم أحدهما على الآخر بعد فرض عدم كون ارتفاع أحدهما من آثار الآخر شرعاً كي يصير أحد الاستصحابين حاكماً على الآخر الخ (١).

وحاصله : أنّ هذا الجواب الذي في الكفاية إنّما ينفع لو كانت الحلّية المستصحبة هي الحلّية الثابتة للعنب ، أمّا الحلّية الثابتة للزبيب فتلك حلّية منجّزة ، فلا يتأتّى فيها ما أفاده في الكفاية من كون استصحابها موافقاً لاستصحاب الحرمة المعلّقة ، فراجع ج ١ من المستمسك ص ٩٢ (٢) وج ٢ من الحقائق ص ٤٧٠ (٣).

وينبغي مراجعة حاشية العلاّمة الأصفهاني قدس‌سره (٤) فإنّه أوّلاً قد صرّح بمنع كون حلّية عصير العنب مغيّاة شرعاً بالغليان ، وبأنّ استصحاب تلك الحلّية لا يقتضي ارتفاعها بالغليان إلاّبالأصل المثبت ، لعدم كون ارتفاعها به بحكم الشارع ، بل هو بواسطة حكم العقل بارتفاع أحد الضدّين وهو الحلّية عند وجود الضدّ الآخر وهو التحريم عند الغليان ، وحينئذ يكون استصحاب تلك الحلّية معارضاً لاستصحاب الحرمة التعليقية.

ثمّ أفاد بعد ذلك ما حاصله : أنّه لو قلنا بكون الغاية شرعية والحلّية المجعولة مغيّاة شرعاً ، كان ذلك موجباً لسقوط استصحاب تلك الحلّية المغيّاة بعد حصول الغاية ، لكن يجري استصحاب الحلّية المهملة للزبيب ، للقطع بأنّه حلال فعلاً إمّا بالحلّية المغيّاة كالعنب ، أو بحلّية مطلقة حادثة بعد التبدّل إلى

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٤٠٣.

(٢) مستمسك العروة الوثقى ١ : ٤٢٢ ـ ٤٢٣.

(٣) حقائق الأُصول ٢ : ٤٧٠.

(٤) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ١٧٦ ـ ١٧٧.

٤٤

الزبيبية ، وقد اعتمد على استصحاب هذه الحلّية الكلّية المهملة وجعله معارضاً لاستصحاب الحرمة التعليقية ، بل ولاستصحاب الحلّية المغيّاة ، ولاستصحاب عدم حدوث الحلّية المطلقة الثابت قبل الزبيبية.

فهو موافق لما أفاده الأُستاذ العراقي قدس‌سره من الاعتماد على هذا الاستصحاب في إلقاء المعارضة بينه وبين استصحاب الحرمة التعليقية لو أسقطنا استصحاب حلّية العنب بعد تسليم كون حلّية العنب مغيّاة شرعاً ، لكنّه يدّعى أنّ حلّية العنب غير مغيّاة شرعاً بالغليان ، ولعلّ الأُستاذ العراقي يوافق على ذلك كما تقدّم (١) من عبارته في المقالة بقوله : وإن كانت مثل تلك الاناطة عقلية الخ.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذا الذي تقدّم كان بناءً على كون حلّية العنب محدودة شرعاً بالغليان.

وأمّا بناءً على أنّه لا تحديد فيها ، غايته أنّها ترتفع قهراً بوجود ضدّها وهو الحرمة على تقدير الغليان ، ففيها تفصيل ، وهو أنّه عند التبدّل إلى الزبيبية وحصول احتمال تبدّل الموضوع بذلك ، فالظاهر أنّ الذي يتبدّل هو موضوع الحرمة التعليقية ، وأمّا الحلّية فلا يبعد القول ببقاء موضوعها الأعمّ من العنب والزبيب ، وحينئذ لا يكون لنا ترديد في الحلّية الثابتة في حال الزبيبية ، فإنّها حينئذ هي تلك الحلّية الثابتة في حال العنبية ، سواء حصل التبدّل في موضوع الحرمة التعليقية أو لم يحصل ، وحينئذ فلا مانع من استصحاب تلك الحلّية إلى ما بعد الغليان ، فيعارض استصحاب الحرمة التعليقية.

نعم ، لو قلنا إنّ هذا التبدّل كما يؤثّر على موضوع الحرمة التعليقية ، فكذلك يؤثّر على موضوع الحلّية الفعلية للعنب ، وأنّه بتبدّله إلى الزبيبية يحدث له حلّية

__________________

(١) في الصفحة : ٤٣.

٤٥

أُخرى لكونه موضوعاً آخر غير العنب ، فعلى هذا التقدير يحصل لنا التردّد في الحلّية الثابتة في حال الزبيبية ، هل هي الحلّية السابقة التي كانت في حال العنب ، أو هي حلّية جديدة مختصّة بالزبيب ، وإن كان كلّ من الحلّيتين غير محدودة بالغليان ، إلاّ أنّ الأُولى قابلة للارتفاع القهري بالغليان ، بخلاف الثانية.

وحينئذ تكون النتيجة هي أنّا بعد الغليان قاطعون بارتفاع الحلّية السابقة التي كانت حال العنبية ، إمّا بتبدّل موضوعها أو بحصول رافعها القهري ، وهو الحرمة الآتية من قبل الغليان ، أمّا الحلّية التي كانت موجودة في حال الزبيبية فهي مردّدة عندنا بين الحلّية السابقة والحلّية الجديدة ، وعلى الأوّل هي مقطوعة الارتفاع بالغليان ، وعلى الثاني هي مقطوعة البقاء ، ويكون الحاصل هو أنّ الحلّية السابقة قد ارتفعت يقيناً ، لكن هل كان ارتفاعها من حين التبدّل فقد خلفتها حلّية أُخرى هي باقية حتّى بعد الغليان ، أو أنّه كان ارتفاعها بالغليان فلم تخلفها حلّية أُخرى ، فيكون المقام من استصحاب الكلّي الذي علم ارتفاع فرده وشكّ في أنّه عند ارتفاعه خلفه فرد آخر أو لم يخلفه ، إن كان المنظور إليه هو مجموع حالاته من العنبية إلى الزبيبية ، وإن كان المنظور إليه هو خصوص حالته الزبيبية ، كان من قبيل الفرد المردّد وكان من قبيل القسم الثاني من الكلّي.

لا يقال : بناءً على الوجه الأوّل ـ أعني كون حلّية العنب غير محدودة شرعاً بالغليان ، وأنّها لا تتبدّل بحلّية أُخرى عند التبدّل إلى الزبيبية ـ ينبغي أن يقال : إنّ استصحاب الحرمة التعليقية يكون حاكماً على استصحاب تلك الحلّية ، إذ لم يكن الشكّ حينئذ إلاّمن ناحية واحدة ، وهي بقاء تلك الحرمة التعليقية ، فإذا جرى الاستصحاب فيها زال الشكّ المذكور ، وكان عند حصول الغليان محكوماً بالحرمة الفعلية ، وذلك عبارة أُخرى عن عدم بقاء الحلّية ، ولأجل ذلك لم يتردّد

٤٦

أحد في أنّه لو حصل الشكّ في نسخ تلك الحرمة التعليقية عن العنب ، كان استصحاب عدم النسخ قاضياً بأنّه باقٍ على ما هو عليه من أنّه لو غلى يحرم ، ولم يتخيّل أحد أنّ استصحاب حلّيته قبل غليانه يكون معارضاً لاستصحاب بقاء الحرمة المذكور وعدم نسخها.

لأنّا نقول : إنّ استصحاب الحرمة التعليقية وإن قضى بفعلية الحرمة عند الغليان ، إلاّ أنّ ذلك ليس عبارة عن عدم الحلّية بناءً على التضادّ بين الأحكام الشرعية. وأمّا استصحاب عدم النسخ فإنّ فيه خصوصية أُخرى ، وهو أنّه يفتح باب التمسّك بالدليل الاجتهادي الوارد في المسألة ، وأنّ ما تضمّنه من الحكم باق لم ينسخ ، وحينئذ فبأصالة عدم نسخ الحرمة التعليقية المستفادة من مثل قوله : إنّ العنب إذا غلى يحرم ، يبقى لنا ذلك الدليل بحاله ، ويكون حاكماً بالحرمة على تقدير الغليان ، ومن الواضح أنّ أخذ الحرمة من هذا الدليل يقضي بارتفاع الحلّية لكونه لازم تحقّق الحرمة فعلاً ، وهذا بخلاف الاستصحاب فيما نحن فيه ، فإنّه لا يكون المستصحب إلاّنفس الحكم ، ومن المعلوم أنّه لا يترتّب عليه لازمه الذي هو ارتفاع الحلّية.

وأمّا الجواب عن استصحاب عدم النسخ بأنّه أصل عقلائي مستقل ، وإلاّ لم يكن جارياً في الشكّ في نسخ نفس الاستصحاب ، فالظاهر أنّه غير نافع ، فإنّه لو سلّمنا كونه أصلاً مستقلاً لم يكن ذلك موجباً لترتّب اللوازم عليه ، والمفروض أنّ إشكالنا فيه إنّما هو من هذه الناحية فلاحظ ، هذا.

ولكن الإنصاف أنّ هذه الدعوى ـ أعني كون استصحاب الحكم في مورد الشكّ في نسخه موجباً لفتح باب التمسّك بالدليل الاجتهادي الدالّ على ذلك الحكم ، بخلاف استصحاب الحكم في مورد الشكّ في بقائه من ناحية تبدّل

٤٧

بعض حالات موضوعه ـ ممّا لا شاهد عليها ، فإنّ الاستصحاب ليس هو إلاّعبارة عن جرّ الحكم السابق من زمان اليقين به إلى زمان الشكّ في بقائه ، سواء كان منشأ الشكّ في بقائه هو احتمال نسخه ، أو كان هو تبدّل بعض حالات موضوعه ، ولعلّها راجعة إلى دعوى كون النسخ تخصيصاً بحسب الأزمان وأنّه من مقولة الدفع لا الرفع ، كما أنّ دعوى كون أصالة عدم النسخ أصلاً مستقلاً غير راجع إلى الاستصحاب ممّا لا شاهد عليها ، ولو فرضنا الشكّ في نسخ نفس الاستصحاب ـ أعني نسخ مفاد « لا تنقض اليقين » ـ نلتزم بعدم إمكان الحكم ببقاء هذا الحكم.

مضافاً إلى ما عرفت من أنّا لو سلّمنا كون استصحاب عدم النسخ أصلاً مستقلاً ، لم يكن ذلك بقاض بحجّية المثبت منه ، الذي هو منشأ الإشكال في استصحاب الحكم من ناحية تبدّل الحالة.

فالحقّ : هو أنّ استصحاب الحكم التعليقي ـ أعني الحرمة المعلّقة على الغليان ـ حاكم على استصحاب حلّيته الفعلية ، سواء كان منشأ الشكّ في بقاء ذلك الحكم التعليقي هو احتمال نسخه ، أو كان منشأ الشكّ في بقائه هو احتمال مدخلية تلك الحالة فيه أعني العنبية التي تبدّلت إلى الزبيبية ، كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى (١).

بقي الكلام في كون الحلّية محدودة شرعاً بالغليان وعدمه ، فإن قلنا بكونها ناشئة عن ملاك محدود بالغليان ، كما أنّ ملاك الحرمة منحصر بوجود الغليان ، تعيّن الأوّل ، وإن قلنا بأنّ ملاك الحلّية في نفسه غير محدود بذلك ، غايته أنّه إذا وجد الغليان يتولّد منه ملاك التحريم ، وإذا رأينا الشارع قد حكم بالحرمة عند الغليان علمنا أنّ ملاك التحريم أقوى من ملاك الحلّية ، وحينئذ يكون ارتفاع

__________________

(١) راجع التنبيه الآتي في الصفحة : ٦٠ وما بعدها.

٤٨

الحلّية عند الغليان عقلياً من باب أنّ وجود أحد الضدّين وهو التحريم يكون موجباً عقلاً لارتفاع الضدّ الآخر وهو الحلّية ، وهذا التفصيل مأخوذ ممّا حرّرته عن درس الأُستاذ العراقي ، ولعلّه إليه يومئ في مقالته حيث قال فيها في عبارته السابقة : إذ كما يجري استصحاب الحرمة التعليقية كذلك يجري استصحاب عدم الوجوب منوطاً بعدم المعلّق عليه ، وإن كانت مثل تلك الاناطة عقلية محضة من قبيل تزاحم المناطين (١).

ويمكن أن يقال : إنّ ملاك الحلّية وإن لم يكن محدوداً في حدّ ذاته بالغليان إلاّ أنّه لمّا كان عند الغليان يحدث ملاك التحريم وكان هو أقوى ، كانت المسألة من تزاحم الملاكات في مقام الجعل والتشريع ، ووقوع الكسر والانكسار بينهما في ذلك المقام يوجب مغلوبيّة المنكسر وعدم تأثيره في ذلك المقام في مقتضاه ، وحينئذ قهراً يكون تأثير ملاك الحلّية منحصراً بما قبل الغليان ، وأنّه ينتهي تأثيره فيها عند الغليان ، وذلك هو عين المحدودية الشرعية.

وبالجملة : أنّ جعل الحرمة مشروطة بالغليان هو عين جعل الحلّية محدودة به ، سواء كان ذلك لقصور ملاك الحلّية ، أو لانكساره وغلبة ملاك الحرمة عليه.

ومن ذلك يظهر لك أنّه ليس لنا في قبال استصحاب الحرمة التعليقية إلاّ استصحاب الحلّية الزبيبية المردّدة بين المحدودة وغير المحدودة ، أمّا حلّية نفس العنب فلا ريب في كونها محدودة ، فلا أثر لاستصحابها في قبال استصحاب الحرمة التعليقية ، بل لا أثر للقطع ببقائها ، كما أفاده في الكفاية (٢). نعم لو لم تكن حلّية العنب محدودة بالغليان شرعاً ، كان استصحابها جارياً ومعارضاً

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٤٠٣.

(٢) كفاية الأُصول : ٤١٢.

٤٩

لاستصحاب الحرمة التعليقية ، ولا يتمّ ما أفاده في الكفاية من أنّ جريان استصحاب تلك الحلّية لا يضرّ باستصحاب الحرمة التعليقية.

لا يقال : إنّ كون ملاك الحلّية مقصوراً على ما قبل الغليان ، أو كونه فيما بعد الغليان مغلوباً لملاك التحريم ، لا يوجب كون الحلّية المجعولة على طبقه محدودة شرعاً بالغليان ، بل يمكن جعل الحلّية غير محدودة بذلك لكنّه يرفعها عند الغليان إمّا لانتهاء ملاكها أو لأجل مغلوبيته حينئذ.

لأنّا نقول : إنّ ذلك وإن كان ممكناً كما شرحناه في النسخ (١) وأنّه من قبيل الرفع لا الدفع ، إلاّ أنّه لا يخرج عن التصرّف الشرعي بجعل الغليان رافعاً للحلّية الذي هو عبارة عن رفعها عند الغليان ، وحينئذ لا تكون الحلّية الثابتة للعنب حلّية مطلقة بل إمّا محدودة بالغليان وإمّا مرفوعة بالغليان ، وهذا المقدار من الفرق لا يوجب الخلل فيما رامه صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ استصحاب تلك الحلّية لا يعارض استصحاب الحرمة التعليقية ، لأنّ استصحاب الحلّية التي هي محدودة بالغليان أو الحلّية التي ترتفع شرعاً بالغليان يكون حاكماً بانعدامها بعد الغليان ، فلا يكون معارضاً لاستصحاب الحرمة التعليقية ، هذا.

مضافاً إلى ما يستفاد من بعض أخبار المسألة من تحديد الحلّية بالغليان مثل قوله عليه‌السلام في صحيحة حمّاد : « لا يحرم العصير حتّى يغلى » (٢) وفي أُخرى له « سألته عن شرب العصير ، قال عليه‌السلام : تشرب ما لم يغل ، وإذا غلى فلا تشربه » (٣) الخ.

__________________

(١) راجع المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٨٩ وما بعدها.

(٢) وسائل الشيعة ٢٥ : ٢٨٧ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣ ح ١.

(٣) وسائل الشيعة ٢٥ : ٢٨٧ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣ ح ٣.

٥٠

ثمّ إنّه بعد البناء على ذلك يكون المعارض لاستصحاب الحرمة التعليقية منحصراً باستصحاب حلّية الزبيب ، ولكن هل يكون استصحاب تلك الحلّية المحدودة أو استصحاب عدم حدوث الحلّية المطلقة حاكماً على استصحاب الحلّية الثابتة في حال الزبيبية إلى ما بعد الغليان؟ الظاهر العدم ، لأنّ استصحاب تلك الحلّية المحدودة أو استصحاب عدم حدوث الحلّية المطلقة ، لا يزيل الشكّ في تلك الحلّية الثابتة في حال الزبيبية المردّدة بين الحلّية المطلقة والحلّية المحدودة ، إذ لا يثبت بهذين الاستصحابين كون تلك الحلّية الثابتة في حال الزبيبية حلّية محدودة ، وأمّا استصحاب حال نفس الغليان ، وأنّه قد كان في حال العنبية سبباً للحرمة وغاية للحلّية ، فهو لو تمّ لكان نافعاً في إزالة الشكّ من الجهتين ، وقاضياً بأنّ غليان عصير الزبيب كغليان عصير العنب في كونه سبباً لحرمته وحدّاً وغاية لحلّيته ، إلاّ أنّه على الظاهر لا مورد فيه للاستصحاب ، إذ ليست سببية السبب وحدّية الحدّ وغائية الغاية من المجعولات الشرعية ، وإنّما المجعول الشرعي هو الحرمة على تقدير وجود ذلك السبب الذي هو الغليان والحلّية المحدودة والمغيّاة بالغليان ، وعن جعل الشارع الحرمة على تقدير الغليان ينتزع العقل كون الغليان سبباً للحرمة ، وعن جعل الحلّية محدودة ومغيّاة بالغليان ينتزع العقل كون الغليان حدّاً وغاية للحلّية.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده المرحوم الحاج آغا رضا الهمداني قدس‌سره في طهارته بعد أن استدلّ بالاستصحاب التعليقي ، قال : والخدشة فيه بأنّ المستصحب وهو نجاسة ماء العنب على تقدير غليانه تعليقي فلا اعتداد به ، لأنّه يعتبر في الاستصحاب كون المستصحب موجوداً قبل زمان الشكّ ، مدفوعة

٥١

برجوعه إلى استصحاب أمر محقّق وهو سببية غليانه للنجاسة (١).

تنبيه : ذكر في الحقائق هذا الاستصحاب فقال : ويمكن في الجواب أن يقال : الشكّ في ارتفاع الحلّية بالغليان وبقائها ناشٍ من الشكّ في بقاء الغليان على ما هو عليه من الخصوصية المقتضية للحرمة الرافعة للحلّية وعدمه ، والأصل بقاؤه على ما كان ، فيترتّب عليه أثره وهو ارتفاع الحلّية وثبوت الحرمة ـ إلى أن قال ـ وإذا جرى الأصل في ذلك كان حاكماً على استصحاب الحل لكونه جارياً في السبب ـ إلى أن قال ـ ومنه يظهر أنّه لا مجال لاستصحاب الحكم التعليقي ، بل هو يثبت باستصحاب موضوعه ـ ثمّ قال ـ هذا ولكن يشكل ما ذكر بما سيأتي في الأصل المثبت من أنّ الخصوصيات التي يجري الأصل لإثباتها هي الخصوصيات التي تؤخذ في القضية التشريعية التي يطابقها الدليل ، لا الخصوصيات التي تؤخذ في القضية اللبّية ، فخصوصية الغليان التي تستصحب إن كان المراد بها مثل كونه في حال العنبية ونحوها ، فاستصحابها من استصحاب المردّد بين معلوم البقاء ومعلوم الارتفاع الذي لا يصحّ ، وإن كان المراد بها الخصوصية المصحّحة لاناطة الحكم بحال العنبية مثلاً المعبّر عنها بالمصلحة ونحوها ، فتلك ممّا لم تؤخذ موضوعاً للحكم في القضية الشرعية ، فلا يجري الأصل لإثباتها إلاّبناءً على الأصل المثبت ، فتأمّل جيّداً ، والله سبحانه أعلم (٢).

قال الأُستاذ العراقي فيما حرّرته في مقام بيان استصحاب بقاء الحلّية المحدودة : إنّه لا ريب في أنّ هذا الشكّ إنّما يكون مسبّباً عن الشكّ في بقاء إضافة تلك الحلّية للغليان ، وكونها محدودة ومشروطة بعدمه ، وبعبارة أُخرى

__________________

(١) مصباح الفقيه ( كتاب الطهارة ) ٧ : ٢٠٩.

(٢) حقائق الأُصول ٢ : ٤٧٠ ـ ٤٧١.

٥٢

يكون الشكّ في بقاء تلك الحلّية الفعلية مسبّباً عن بقاء الغليان على ما كان عليه في حال العنبية من كونه غاية للحلّية ، فيكون أصالة بقاء تلك الحلّية على ما هي عليه في حال العنبية من كونها محدودة ومغيّاة بالغليان حاكماً على أصالة بقاء تلك الحلّية الفعلية ، لأنّ مقتضى أصالة بقاء تلك الحلّية على ما هي عليه من كونها محدودة بالغليان كون الغليان مفنياً لها ، انتهى.

فإن كان المراد هو استصحاب الحلّية المحدودة ، ففيه ما عرفت من [ أنّ ] استصحاب الحلّية المحدودة لا يثبت كون هذه الحلّية الثابتة في حال الزبيبية هي حلّية محدودة ، وإن كان المراد هو استصحاب حالة الغليان من كونه حدّاً للحلّية وسبباً للحرمة ، فهذا هو الذي أفاده في الحقائق.

لكن قد عرفت أنّه لا يتمّ إلاّعلى القول بجعل السببية والحدّية ، ولعلّ هذا هو مراد الحقائق بقوله : إنّ الخصوصيات التي يجري الأصل لإثباتها هي الخصوصيات التي تؤخذ في القضية التشريعية الخ. وأمّا الإشكال على ذلك بقوله : فاستصحابها من استصحاب المردّد بين معلوم البقاء ومعلوم الارتفاع الخ ، فلعلّ المراد به هو أنّ كون الغليان غاية للحلّية إن كان هو غليان العنب فقد ارتفع يقيناً بصيرورته زبيباً ، وإن كان هو غليان الأعمّ الشامل للزبيبية فقد بقي يقيناً ، لكن هذا جار في استصحاب الحلّية ، بل جارٍ أيضاً في استصحاب الحرمة التعليقية ، وفتح باب التسامح العرفي يدفع هذا الإشكال ، وإلاّ كان ذلك جارياً في كلّ مستصحب يحصل الشكّ في بقائه حتّى مثل استصحاب الحدث ، فإنّه إن توضّأ فقد ارتفع حدثه يقيناً ، وإن لم يتوضّأ فقد بقي حدثه يقيناً ، فكما نقول إنّ الاستصحاب في مثل ذلك يلغي الاحتمال الأوّل ويحكم بالبقاء ، فكذلك الحال

٥٣

فيما نحن فيه بعد فتح باب التسامح ، فإنّ الاستصحاب يلغي احتمال الاختصاص بحال العنبية ويحكم ببقاء آثارها في حال الزبيبية ، وهذا بخلاف الحلّية الفعلية الموجودة في حال الزبيبية المردّدة في حدّ نفسها بين المحدودة بالغليان والمطلقة ، فإنّ استصحابها يكون من قبيل استصحاب الفرد المردّد ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ قال في المقالة : بل وربما يبتلى الاستصحاب في التعليقيات الخارجية على مشربنا غالباً باستصحاب نقيضه أو ضدّه المعلّق بنحو التنجّز. نعم في بعض الموارد ـ كما في الفرع السابق ـ لا يجري الاستصحاب التنجيزي في طرف النقيض ، لأنّه من الاستصحاب الكلّي القسم الثالث ، وفي مثله لا بأس بالتمسّك بالاستصحاب التعليقي المثبت لوجوب التيمّم بلا معارض ، كما لا يخفى (١).

وتوضيح ذلك : هو أنّ هذا الشخص الذي قد انحصر ماؤه المطلق بما في هذه الآنية يكون فاقديته للماء معلّقة على تلف ما في هذه الآنية ، كما أنّ واجديته للماء يكون محدوداً بوجود ما في هذه الآنية ، ثمّ بعد هذا وجد مائعاً في آنية أُخرى يشكّ في إطلاقه وإضافته ، وحينئذ تكون واجديته لطبيعة الماء متحقّقة في ... (٢) لكن لا يعلم بأنّها هل هي محدودة بوجود ما في آنيته الأُولى بناءً على كون ما في الآنية الثانية مضافاً ، أو أنّها غير محدودة بذلك بناءً على كون ما في الآنية الثانية ماء مطلقاً ، ثمّ بعد عروض التلف لما في الآنية الأُولى يشكّ في بقاء واجديته لطبيعة الماء ، فيستصحب تلك الواجدية التي كانت له قبل التلف

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

(٢) [ هكذا في الأصل ، فلاحظ ].

٥٤

المذكور ، وحينئذ يكون هذا الاستصحاب معارضاً لاستصحاب تلك الفاقدية المعلّقة على تلف الآنية الأُولى ، التي كان متيقّناً بها قبل وجود الآنية الثانية.

ولكن استصحاب تلك الواجدية غير جار في حدّ نفسه ، لكونه من القسم الثالث من الكلّي ، لأنّ تلك الواجدية إن كانت محدودة بتلف الآنية الأُولى فقد ارتفعت قطعاً ، وإن كانت غير محدودة بذلك بأن كان ذلك الذي وجده ماء مطلقاً ، كانت الواجدية باقية قطعاً بعد تلف ما في الآنية الأُولى ، وحينئذ تكون تلك الواجدية التي كانت حينما وجد الآنية الثانية مردّدة عند تلف الآنية الأُولى بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، فنلتجئ إلى استصحاب الواجدية الكلّية ، وحينئذ يكون استصحابها من القسم الثالث من الكلّي ، لأنّ الواجدية الآتية من ناحية الآنية الأُولى قد ارتفعت قطعاً بتلفها ، ويشكّ في قيام الواجدية الآتية من الآنية الثانية مقامها على تقدير كونها ماء مطلقاً ، فيكون من قبيل ما لو ارتفع الفرد ويشكّ في قيام فرد آخر مقامه كان وجوده سابقاً على ارتفاع الفرد الأوّل المعلوم الارتفاع.

ونحن لا نريد أن نناقش في هذا المثال من ناحية كون الواجدية لطبيعة الماء لا تتعدّد بتعدّد الأواني ، ولا من ناحية أنّ استصحاب الواجدية لا يثبت له كون هذا المائع الباقي ماءً مطلقاً كي يسوغ له أو يجب عليه الوضوء ، وإنّما جلّ ما لم نتوصّل [ إليه ] فيما أفاده من كلامه هو أنّ هذا الإشكال ، وهو كون المثال بالنسبة إلى الواجدية من قبيل القسم الثالث من الكلّي ، لِمَ لَم يجره فيما هو محل الكلام فيما نحن فيه ، من استصحاب الحلّية التنجّزية التي كانت متيقّنة حال الزبيبية قبل الغليان التي كانت مردّدة بين المحدودة بالغليان وغير المحدودة به ، التي جعل استصحابها معارضاً لاستصحاب الحرمة التعليقية ، فلاحظ وتأمّل.

٥٥

قوله : مع أنّ القائل به لا أظن أن يلتزم بجريانه في جميع الموارد ، فإنّه لو شكّ في كون اللباس متّخذاً من مأكول اللحم أو من غيره ، فالحكم بصحّة الصلاة فيه تمسّكاً بالاستصحاب التعليقي ، بدعوى أنّ المكلّف لو صلّى قبل لبس المشكوك كانت صلاته صحيحة ، فيستصحب الصحّة التعليقية إلى ما بعد لبس المشكوك والصلاة فيه ، ممّا لا أظن أن يلتزم به القائل بالاستصحاب التعليقي ، ولو فرض أنّه التزم به فهو بمكان من الغرابة (١).

وقال السيّد سلّمه الله فيما حرّره عنه قدس‌سره : تتميم لا يخفى أنّ الاستصحاب التعليقي على تقدير جريانه إنّما يختصّ بما إذا كان الموجود في الزمان السابق هو الجزء الركين للموضوع وكان الجزء الآخر غير المتحقّق ممّا يعدّ من حالاته حتّى يصحّ أن يقال إنّ الموجود الخ (٢).

ولم أتوفّق لهذا التفصيل بين كون المعلّق عليه جزءاً ركيناً أو غير ركين ، ولم أعثر في مسألة اللباس المشكوك المطبوعة على التعرّض لذلك. نعم وجدت فيما حرّرته عنه قدس‌سره في مسألة اللباس المشكوك ما محصّله : أنّ البعض تمسّك للصحّة بالاستصحاب التعليقي ، بتقريب أنّ هذا الشخص قبل أن يلبس ذلك المشكوك كان لو صلّى لكانت صلاته صحيحة ، والآن بعد أن لبسه يكون استصحاب تلك الصحّة التعليقية جارياً في حقّه ، بناءً على جريان الاستصحاب في الأحكام التعليقية كما هو مذهب الشيخ قدس‌سره (٣).

ثمّ أورد على الاستصحاب التعليقي بما حاصله أوّلاً : أنّه مناف لمسلكه من

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٧٢.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ١٢٥.

(٣) فرائد الأُصول ٣ : ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

٥٦

عدم جعل السببية ، فلا يصحّ استصحاب سببية الغليان للحرمة.

وثانياً : أنّا لو سلّمنا جعل السببية فليس منها الملازمة بين الحرمة والغليان ، فإنّ هذه الملازمة ليست من السببية المجعولة ، وإنّما هي منتزعة من ترتّب الحكم على جزء موضوعه ، لأنّ الغليان جزء الموضوع ، لأنّ المحرّم هو العصير العنبي الغالي.

وثالثاً : أنّ الشكّ في بقاء الملازمة منحصر بموارد الشكّ في النسخ.

ثمّ أفاد ما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه قدس‌سره : ثمّ إنّ ما ذكرناه يجري فيما نحن فيه من استصحاب الحكم التعليقي ، وهو أنّ هذا الشخص قبل لبسه لذلك المشكوك لو صلّى لكانت صلاته واجدة لقيدها العدمي ، فبعد أن لبسه يكون حاله كما تقدّم في مسألة العصير ، بل يكون أسوأ منها ، لأنّه ربما يجاب عن الإيراد الثاني ويوجّه بما ذكرناه في محلّه من أنّ الحكم وارد على نفس العصير العنبي ، وما الغليان إلاّمن حالاته ، فيصحّ جعله شرطاً بجعل الحرمة الواردة على نفس العصير مشروطة بالغليان ومعلّقة عليه ، ولا يكون ذلك من قبيل تعليق الحكم على جزء موضوعه ، لتكون الملازمة انتزاعية صرفة ، فإنّا وإن أجبنا عن هذا الجواب في محلّه ، إلاّ أنّ هذا التوجيه لا يمكن تمشّيه فيما نحن فيه ، فإنّ نفس الصلاة هي المقيّدة بعدم غير المأكولية ، فلا معنى لجعلها محلاً للتعليق ، ويقال لو صلّى هذا لكانت صلاته خالية من غير المأكول ، فإنّ مثل هذا التعليق انتزاعي صرف ، انتهى ببعض التغييرات الطفيفة.

وحاصله : أنّ الصلاة هي تمام الموضوع للصحّة وواجدية القيد ، لا أنّها شرط في حكم وارد على المكلّف وهو صحّة صلاته ، كي يتأتّى في حقّه استصحاب ذلك الحكم المعلّق على وجود الصلاة. ولعلّ هذا هو المراد بالركن

٥٧

الركين فيما حرّره عنه السيّد سلّمه الله ، فلاحظ وتأمّل.

قال الأُستاذ العراقي في رسالته المطبوعة المعمولة في مسألة اللباس المشكوك : ومنها استصحاب صحّة الصلاة على تقدير الوجود قبل لبسه ، بتقريب أنّه لو صلّى لكانت صلاته صحيحة والآن صحيح ، بناءً على كون تبدّل عدم المشكوك بوجوده من ( قبيل ) حالات الصلاة لا من مقوّماتها عرفاً. وتوهّم أنّ صحّة الصلاة بمعنى موافقة أجزائها للأمر بها في ظرف تحقّق بقية الشرائط وجودية أم عدمية مقطوع البقاء فلا شكّ فيه ، والصحّة الفعلية الملازمة لعدم شرطية شيء فيها من الأوّل مشكوك. وبعبارة أُخرى : أنّ الصلاة إنّما تقع تمام الموضوع للصحّة في ظرف كونها تام الأجزاء والشرائط ، وهذا المعنى محرز بنحو الإجمال سابقاً ، وأمّا في الآن اللاحق لا تكون الصلاة تمام الموضوع للصحّة مع احتمال المانعية ، مدفوع بأنّ ذلك كلّه مبني على حكم العرف بمغايرة موضوع الصحّة في الحالتين عرفاً ، وهو كما ترى (١).

فقد أخذ الصحّة حكماً شرعياً ، وجعل موضوعه هو الصلاة ، وجعل وجود الصلاة شرطاً في هذا الحكم ، وجعل الحكم بصحّتها في حال عدم لبس المشكوك قطعياً وفي حال لبسه مشكوكاً ، وسحب الصحّة المتيقّنة من الصلاة بدونه إلى الصلاة معه ، ثمّ استشكل من ذلك بالمغايرة بين الصلاتين ، ثمّ أجاب عنه بالوحدة العرفية بينهما.

وهذه الأُمور السبعة كلّها محلّ نظر وتأمّل ، وكيف يمكن سحب هذا الحكم الشرعي الذي هو الصحّة من الصلاة بدون ذلك اللباس إلى الصلاة معه مع أنّهما موضوعان ، سواء كان المراد بذلك كلّي الصلاة بدون ذلك اللباس ومع ذلك

__________________

(١) رسالة في اللباس المشكوك ( المطبوعة في ذيل روائع الأمالي ) : ١٥٥.

٥٨

اللباس ، أو كان المراد هو الفرد الخارجي من الصلاة بدون ذلك اللباس والفرد الآخر منها مع ذلك اللباس ، والتسامح العرفي لا دخل له بذلك ، بل لو فرضنا وقوع صلاتين منه بدون ذلك اللباس كان كلّ منهما موضوعاً مستقلاً وحكمه الصحّة ، لا أنّ الصحّة من إحداهما سارية إلى الأُخرى ، بل يكون كلّ منهما محكوماً بالصحّة حكماً مستقلاً لنفسه ، وإن كان كلّ منهما مندرجاً تحت الحكم الكبروي ، فهما في ذلك نظير الفردين من العالم في أنّ لكلّ منهما وجوباً مستقلاً غير سار إليه من صاحبه.

وحينئذ لابدّ في تقريب كون المسألة من الاستصحاب التعليقي من جعل مركز الحكم هو المكلّف ، وأنّه لو وقعت منه الصلاة لكانت صحيحة ، وسحب هذا الحكم التعليقي من المكلّف حال كونه غير لابس ذلك اللباس إلى حال كونه لابساً ذلك اللباس ، وحينئذ يدفع التغاير الوجداني في ناحية الموضوع الذي هو ذات المكلّف بالاتّحاد العرفي ، فيرد عليه ما نقلناه عن شيخنا الأُستاذ قدس‌سره من أنّ وجود الصلاة المعلّق عليه هذا الحكم لا يمكن أخذه شرطاً في ذلك الحكم ، بل هو تمام الموضوع فيه.

ثمّ لا يخفى أنّه لابدّ في الإقدام على الصلاة من إحراز صحّتها ، فلابدّ أن يكون إحراز الصحّة سابقاً في الرتبة على وجودها ، ولازمه أن يكون نفس الصحّة سابقاً على إحرازها السابق رتبة على وجودها ، فلو كانت صحّتها مشروطة بوجودها لكانت متأخّرة رتبة عن وجودها ، ولا يخفى ما فيه من الخلف.

وهذا الإشكال وارد أيضاً على تقدير أخذ المكلّف مركزاً لذلك ، بأن يقال إنّ هذا المكلّف لو صلّى لكانت صلاته صحيحة ، فلاحظ وتأمّل.

ولقد أجاد في المستمسك عندما ذكر صور التمسّك بالاستصحاب فقال :

٥٩

ورابعة في نفس الصلاة ، إمّا بأن يقال : كانت الصلاة قبل لبس هذا اللباس صحيحة فهي بعد لبسه باقية على ما كانت ، ثمّ قال : والرابع يختصّ بما لو كان اللبس في الأثناء ، لكن الإشكال في استصحاب الصحّة مشهور (١) فصرف الاستصحاب المتمسّك به في المقام عمّا أفاده الأُستاذ العراقي قدس‌سره في رسالته من الاستصحاب التعليقي إلى الاستصحاب التنجيزي ، أعني صحّة الأجزاء السابقة على لبس ذلك المشكوك ، فتخلّص من تعليق الصحّة على الوجود وحصر الإشكال بالصحّة التأهّلية ، وهو الإشكال المشهور الذي تعرّضوا له في مباحث الأقل والأكثر ، فراجع (٢).

تنبيه : قد تقدّم (٣) الكلام على ما أفاده شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في تقريب حكومة الاستصحاب التعليقي على الاباحة الفعلية ، والتحقيق هو الحكومة المذكورة ، لكن البحث في هذا المقام يستدعي تقديم مقدّمات :

الأُولى : أنّ وجود أحد الضدّين يكون مقروناً وتوأماً مع عدم الآخر وإلاّ لاجتمع الضدّان ، حتّى قيل إنّ اجتماع الضدّين ينتهي إلى اجتماع النقيضين ، إلاّ أنّ هذا ـ أعني اقتران الضدّ دائماً بعدم ضدّه ـ إنّما هو في الوجود الواقعي دون وجوده التعبّدي ، فإنّ التعبّد بوجود أحد الضدّين بالاستصحاب مثلاً لا يكون مقتضياً للحكم التعبّدي بعدم الضدّ الآخر إلاّعلى الأصل المثبت ، من دون فرق في ذلك بين الضدّين الخارجيين مثل السواد والبياض ، والضدّين الشرعيين مثل الوجوب والحرمة ، كما سيأتي توضيحه.

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ٥ : ٣٤٤ ، ٣٤٦.

(٢) المجلّد الثامن من هذا الكتاب الصفحة : ٣٧٢ وما بعدها.

(٣) راجع ما تقدّم في الصفحة : ٣٨ وما بعدها.

٦٠