محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

[ تزاحم الموسع مع المضيّق ]

أمّا الكلام في المقام الأوّل : فقد اختار المحقق الثاني قدس‌سره (١) وتبعه جماعة من المحققين تحقق الثمرة فيه ، فعلى القول بالاقتضاء تقع العبادة فاسدة وعلى القول بعدمه تقع صحيحة.

بيان ذلك : أنّا قد ذكرنا في بحث تعلّق الأوامر بالطبائع أو الأفراد (٢) أنّ الصحيح هو تعلقها بالطبائع الملغاة عنها جميع الخصوصيات والتشخصات دون الأفراد ، وعلى هذا فالمأمور به هو الطبيعة المطلقة ، ومقتضى إطلاق الأمر بها ترخيص المكلف في تطبيق تلك الطبيعة على أيّ فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه من الأفراد العرضية والطولية ، ولكن هذا إنّما يكون فيما إذا لم يكن هناك مانع عن التطبيق ، وأمّا إذا كان مانع عنه كما إذا كان بعض أفرادها منهياً عنه ، فلا محالة يقيد إطلاق الأمر المتعلق بالطبيعة بغير هذا الفرد المنهي عنه ، لاستحالة انطباق الواجب على الحرام.

ويترتب على ذلك : أنّه بناءً على القول باقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضدّه ، كان الفرد المزاحم من الواجب المطلق منهياً عنه فيقيد به إطلاق الأمر به ، كما هو الحال في بقية موارد النهي عن العبادات ، لاستحالة أن يكون الحرام مصداقاً للواجب ، ونتيجة ذلك التقييد هي وقوعه فاسداً بناءً على عدم كفاية اشتماله على الملاك في الصحة.

__________________

(١) جامع المقاصد ٥ : ١٢.

(٢) في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ص ١٩٦.

٣٤١

أو فقل : إنّ الأمر بالشيء لو كان مقتضياً للنهي عن ضدّه ، كان الفرد المزاحم منهياً عنه لا محالة ، وعليه فلا يجوز تطبيق الطبيعة المأمور بها عليه ، وبضميمة المسألة الآتية وهي أنّ النهي في العبادات يوجب الفساد ، يقع فاسداً.

وأمّا بناءً على القول بعدم الاقتضاء ، فغاية ما يقتضيه الأمر بالواجب المضيق هو عدم الأمر بالفرد المزاحم ، لاستحالة الأمر بالضدّين معاً ، وهذا لا يقتضي فساده.

والوجه في ذلك : ما عرفت من أنّ متعلق الوجوب صرف وجود الطبيعة وخصوصية الأفراد جميعاً خارجة عن حيّز الأمر ، والمفروض أنّ القدرة على صرف الوجود منها تحصل بالقدرة على بعض وجوداتها وأفرادها وإن لم يكن بعضها الآخر مقدوراً. ومن الواضح أنّ التكليف غير مشروط بالقدرة على جميع أفرادها العرضية والطولية ، ضرورة أنّه ليست طبيعة تكون مقدورة كذلك ، وعليه فعدم القدرة على فرد خاص من الطبيعة المأمور بها وهو الفرد المزاحم بالأهم لا ينافي تعلّق الأمر بها ، فانّ المطلوب هو صرف وجودها وهو يتحقق بايجاد فرد منها في الخارج ، فالقدرة على إيجاد فرد واحد منها كافٍ في تعلّق الأمر بها.

وعلى هذا الضوء يصحّ الاتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر بالطبيعة المأمور بها لانطباق تلك الطبيعة عليه كانطباقها على بقية الأفراد ، ضرورة أنّه لا فرق بينه وبين غيره من الأفراد من هذه الجهة أصلاً.

وبتعبير آخر : أنّه لا موجب لتقييد إطلاق المأمور به على هذا القول بغير الفرد المزاحم للواجب المضيق ، فانّ الموجب لذلك إنّما هو تعلّق النهي به ، وحيث لا نهي على الفرض فلا موجب له أصلاً ، وعندئذ فغاية ما يقتضيه الأمر بالواجب المضيق هو عدم الأمر به ، ومن الواضح أنّه غير مانع من

٣٤٢

انطباق الطبيعة المأمور بها عليه ، إذ الأفراد جميعاً في عدم تعلّق الأمر بها وعدم اتصافها بالواجب على نسبة واحدة ، ولا فرق في ذلك بين الفرد المزاحم للواجب المضيق وغيره ، فان متعلق الأمر الطبيعة الجامعة بين الأفراد بلا دخل شيء من الخصوصيات والتشخصات فيه ، ولذا لا يسري الوجوب منها إلى تلك الأفراد ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ ضابط الامتثال انطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد المأتي به في الخارج.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي صحة الاتيان بالفرد المزاحم لاشتراكه مع بقية الأفراد في كلتا الناحيتين.

نعم ، يمتاز عنها في ناحية ثالثة : وهي أنّ الفرد المزاحم غير مقدور شرعاً وهو في حكم غير المقدور عقلاً ، إلاّ أنّها لا تمنع عن الصحة وحصول الامتثال به ، لأنّ الصحة تدور مدار الناحيتين الاوليين ، وهذه الناحية أجنبية عما هو ملاك الصحة ، ضرورة أنّ المكلف لو عصى الأمر بالواجب المضيق وأتى بهذا الفرد المزاحم لوقع صحيحاً ، لانطباق المأمور به عليه.

وإن شئت فقل : إنّ ما كان مزاحماً للواجب المضيق وإن كان غير مقدور شرعاً ، إلاّ أنّه ليس بمأمور به ، وما كان مأموراً به ومقدوراً للمكلف ـ وهو صرف وجود الطبيعة بين المبدأ والمنتهى ـ غير مزاحم له. وعلى ذلك الأساس صحّ الاتيان بالفرد المزاحم ، فانّ الانطباق قهري والإجزاء عقلي.

ونتيجة ما أفاده المحقق الثاني قدس‌سره هي أنّ الفرد المزاحم بناءً على القول بالاقتضاء ، حيث إنّه كان منهياً عنه ، فلا ينطبق عليه المأمور به ، وعليه فلا إجزاء لدورانه مدار الانطباق. وبناءً على القول بعدم الاقتضاء حيث إنّه ليس بمنهي عنه ينطبق عليه المأمور به فيكون مجزئاً.

٣٤٣

وقد أورد على هذا التفصيل شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) بأنّ ذلك إنّما يتم بناءً على أن يكون منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، إذ على هذا الأصل يمكن أن يقال إنّ العقل لا يحكم بأزيد من اعتبار القدرة على الواجب في الجملة ولو بالقدرة على فرد منه ، فإذا كان المكلف قادراً على الواجب ولو بالقدرة على فرد واحد منه لا يكون التكليف به قبيحاً ، وبما أنّ الواجب الموسع في مفروض الكلام مقدور من جهة القدرة على غير المزاحم للواجب المضيق من الأفراد ، فلا يكون التكليف به قبيحاً.

وعليه فعلى القول بالاقتضاء بما أنّ الفرد المزاحم منهي عنه ، لا ينطبق عليه المأمور به فلا يكون مجزئاً. وعلى القول بعدم الاقتضاء حيث إنّه ليس بمنهي عنه ينطبق عليه المأمور به فيكون مجزئاً. إذن ما ذكره المحقق الثاني قدس‌سره من التفصيل متين.

وأمّا إذا كان منشأ اعتبار القدرة شرطاً للتكليف اقتضاء نفس التكليف ذلك كما هو الصحيح ، لا حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، فلا يتم ما ذكره ، ولا يمكن تصحيح الفرد المزاحم بقصد الأمر أصلاً. فها هنا دعويان :

الاولى : أنّ منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف اقتضاء نفس التكليف ذلك لا حكم العقل.

الثانية : أنّ التفصيل المزبور لا يتم على هذا الأصل.

أمّا الدعوى الاولى : فلأنّ الغرض من التكليف جعل الداعي للمكلف نحو الفعل ، ومن الواضح أنّ هذا المعنى بنفسه يستلزم كون متعلقه مقدوراً ، لاستحالة جعل الداعي نحو الممتنع عقلاً أو شرعاً ، فإذا كان التكليف بنفسه مقتضياً

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٣.

٣٤٤

لاعتبار القدرة في متعلقه فلا تصل النوبة إلى حكم العقل بذلك ، ضرورة أنّ الاستناد إلى أمر ذاتي في مرتبة سابقة على الاستناد إلى أمر عرضي. وإن شئت فقل : إنّ الغرض من البعث انبعاث المكلف نحو الفعل ، ومن الواضح امتناع الانبعاث نحو الممتنع ، وحصول الداعي له إلى إيجاده ، فإذا امتنع الانبعاث والداعوية امتنع جعل التكليف لا محالة.

وأمّا الدعوى الثانية : فهي مترتبة على الدعوى الاولى ، وذلك لأنّ التكليف إذا كان بنفسه مقتضياً لاعتبار القدرة في متعلقه فلا محالة ينحصر متعلقه بخصوص الأفراد المقدورة ، فتخرج الأفراد غير المقدورة عن متعلقه.

وعلى الجملة : فنتيجة اقتضاء نفس التكليف ذلك ـ أي اعتبار القدرة ـ هي أنّ متعلقه حصة خاصة من الطبيعة وهي الحصة المقدورة. وأمّا الحصة غير المقدورة فخارجة عن متعلقه وإن كانت من حصة نفس الطبيعة ، إلاّ أنّها ليست من حصتها بما هي مأمور بها ومتعلقة للتكليف. وعلى ذلك فالفرد المزاحم بما أنّه غير مقدور شرعاً ـ وهو في حكم غير المقدور عقلاً ـ خارج عن حيّز الأمر ولا يكون مصداقاً للطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها ، فان انطباق الطبيعة المأمور بها عليه يتوقف على عدم تقييدها بالقدرة ، وحيث إنّها كانت مقيدة بها ـ على الفرض ـ امتنع انطباقها على ذلك الفرد ليحصل به الامتثال. أو فقل : إنّ الطبيعة إذا كانت مقيدة بالقدرة لا تنطبق على الفرد الفاقد لها ، بداهة عدم إمكان انطباق الحصة المقدورة على أفراد الحصة غير المقدورة ، فان كل طبيعة تنطبق على أفرادها ، ولا تنطبق على أفراد غيرها.

وعلى هذا الضوء فلو بنينا على اشتراط صحة العبادة بتعلق الأمر بها فعلاً ، ليكون الاتيان بها بداعي ذلك الأمر ، وعدم كفاية قصد الملاك ، فلا مناص من الالتزام بفساد الفرد المزاحم على كلا القولين. أمّا على القول بالاقتضاء ، فلأ نّه

٣٤٥

متعلق للنهي. وأمّا على القول بعدم الاقتضاء ، فلتقييد الطبيعة المأمور بها بالقدرة المانع من انطباقها عليه.

وقد تحصّل من مجموع ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره نقطتان :

الاولى : عدم تمامية ما ذكره المحقق الثاني قدس‌سره من التفصيل بين القول بالاقتضاء والقول بعدمه.

الثانية : أنّه لا بدّ من الالتزام بتفصيل آخر ، وهو أنّ منشأ اعتبار القدرة شرطاً للتكليف إن كان حكم العقل من باب قبح تكليف العاجز ، فما أفاده المحقق الثاني قدس‌سره صحيح ، ولا مناص من الالتزام به ، وإن كان اقتضاء نفس التكليف ذلك ، وأنّ البعث بذاته يقتضي أن يكون متعلقه مقدوراً سواء أكان للعقل حكم في هذا الباب أم لم يكن ، فلا يتم ما أفاده المحقق الثاني قدس‌سره إذ لا ثمرة عندئذ ، فانّ الفرد المزاحم للواجب المضيّق محكوم بالفساد مطلقاً حتّى على القول بعدم الاقتضاء كما عرفت.

هذا كلّه بناءً على القول باشتراط صحة العبادة بتعلق الأمر بها فعلاً ، وعدم كفاية قصد الملاك.

وأمّا إذا بنينا على كفاية الاشتمال على الملاك في الصحة ، فلا بدّ من الالتزام بصحة الفرد المزاحم على كلا القولين ، لأنّه تامّ الملاك حتّى بناءً على القول بكونه منهياً عنه ، وذلك لأنّ النهي المانع عن صحة العبادة والتقرب بها إنّما هو النهي النفسي ، فانّه يكشف عن وجود مفسدة في متعلقه موجبة لاضمحلال ما فيه من المصلحة الصالحة للتقرب بفعل يكون مشتملاً عليها ، دون النهي الغيري ، فانّه لا يكشف عن وجود مفسدة في متعلقه ، ليكشف عن عدم تمامية ملاك الأمر.

أو فقل : إنّ النهي النفسي بما أنّه ينشأ من مفسدة في متعلقه فيكون مانعاً عن

٣٤٦

التقرب به لا محالة ، والنهي الغيري بما أنّه لم ينشأ من مفسدة في متعلقه بل ينشأ من أمر آخر ، فلا محالة لا يكون مانعاً عن التقرب ، لأنّ متعلقه باقٍ على ما كان عليه من الملاك الصالح للتقرب به ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : قد ذكرنا في بحث التعبدي والتوصلي (١) أنّ قصد الملاك كافٍ في صحة العبادة ، وأنّ صحتها لا تتوقف على قصد الأمر بخصوصه ، لعدم دليل يدل على اعتبار أزيد من قصد التقرب بالعمل في وقوعه عبادة ، وهو إضافته إلى المولى بنحو من أنحاء الاضافة ، وأمّا تطبيق ذلك على قصد الأمر أو غيره من الدواعي القربية فانّما هو بحكم العقل ، ومن الواضح أنّه لا فرق بنظر العقل في حصول التقرب بين قصد الأمر وقصد الملاك ، فهما من هذه الناحية على نسبة واحدة.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي صحة الفرد المزاحم مطلقاً حتّى على القول بالاقتضاء.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ ما أفاده المحقق الثاني قدس‌سره من التفصيل بين القولين كما لا يتم على القول باشتراط صحة العبادة بقصد الأمر كما عرفت ، كذلك لا يتم على القول بكفاية قصد الملاك ، فانّ الصغرى ـ وهي كون الفرد المزاحم تامّ الملاك ـ ثابتة ، والكبرى ـ وهي كفاية قصد الملاك ـ محرزة ، فالنتيجة من ضمّ الصغرى إلى الكبرى هي : صحة الفرد المزاحم حتّى بناءً على كونه منهياً عنه.

ونلخّص ما أفاده قدس‌سره في عدّة نقاط :

الاولى : فساد ما اختاره المحقق الثاني قدس‌سره من التفصيل بين القولين مطلقاً ، أي سواء القول فيه باشتراط صحة العبادة بقصد الأمر ، وعدم كفاية قصد الملاك ، أو القول بعدم اشتراط صحتها بذلك ، وكفاية قصد الملاك كما مرّ.

__________________

(١) في المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ص ٥٤٢.

٣٤٧

الثانية : أنّ منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف إنّما هو اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار لا حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، ضرورة أنّ الاستناد إلى أمر ذاتي سابق على الاستناد إلى أمر عرضي.

الثالثة : أنّ الفرد المزاحم هنا تامّ الملاك ، وأنّ قصد الملاك كافٍ في صحة العبادة.

الرابعة : أنّ المانع من صحة العبادة والتقرب بها إنّما هو النهي النفسي لا النهي الغيري ، لأنّ النهي الغيري لا ينشأ من مفسدة في متعلقه ليكون كاشفاً عن عدم تمامية ملاك الأمر.

ولنأخذ الآن بدرس هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى ، فيرد عليها : أنّ ما أفاده قدس‌سره من التفصيل بين القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة شرطاً للتكليف هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، والقول بأنّ منشأ اعتباره اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار ، فيسلّم ما ذكره المحقق الثاني قدس‌سره على الأوّل دون الثاني ، لا يرجع إلى معنى محصّل ، بناءً على ما اختاره قدس‌سره من استحالة الواجب المعلق ، وتعلّق الوجوب بأمر متأخر مقدور في ظرفه.

بيان ذلك : أنّ الأمر في الواجب الموسّع وإن تعلّق بالطبيعة وبصرف الوجود منها ، إلاّ أنّه أيضاً مشروط بالقدرة عليها ، ومن الواضح أنّ القدرة عليها لايمكن إلاّ بأن يكون بعض وجوداتها وأفرادها ـ ولو كان واحداً منها ـ مقدوراً للمكلف ، وأمّا لو كان جميع أفرادها ووجوداتها غير مقدورة له ، ولو كان ذلك في زمان واحد ، دون بقية الأزمنة ، فلا يمكن تعلّق التكليف بنفس الطبيعة ، وبصرف وجودها في ذلك الزمان الذي فرضنا أنّ الطبيعة غير مقدورة فيه بجميع أفرادها ، إلاّعلى القول بصحة الواجب المعلق ، وحيث إنّ الواجب

٣٤٨

الموسّع في ظرف مزاحمته مع الواجب المضيق غير مقدور بجميع أفراده ، فلا يعقل تعلّق الطلب به عندئذ ، ليكون انطباقه على الفرد المزاحم في الخارج قهرياً وإجزاؤه عن المأمور به عقلياً ، إلاّبناءً على صحة تعلّق الطلب بأمر متأخر مقدور في ظرفه ، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، وأن يكون منشؤه اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار.

وبتعبير ثان : أنّه بناءً على اشتراط صحة العبادة بوجود الأمر فعلاً ، والاغماض عما سنتعرض له من صحة تعلّق الأمر بالضدّين على نحو الترتب ، فانّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره إنّما يتم بناءً على إمكان تعلّق الوجوب بأمر متأخر على نحو الواجب المعلّق ، إذ على ذلك لا مانع من تعلّق الأمر بالعبادة الموسّعة في حال مزاحمتها بالواجب المضيّق ، على نحو يكون الوجوب فعلياً والواجب أمراً استقبالياً ، لاستحالة تعلّق الأمر بها على نحو يكون الواجب أيضاً حالياً ، لأنّها في تلك الحال غير مقدورة للمكلف بجميع أفرادها.

وأمّا بناءً على وجهة نظره قدس‌سره من استحالة الواجب المعلّق ، وعدم إمكان تعلّق الطلب بأمر استقبالي مقدور في ظرفه ، فلا مناص من القول بفساد الفرد المزاحم مطلقاً ، حتّى على القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة هو الحكم العقلي المزبور ، وذلك لعدم إمكان طلب صرف وجود الطبيعة المأمور بها ، المزاحمة بالواجب المضيق عندئذ ، ليكون انطباقه على ما أتى به المكلف في الخارج قهرياً ، والإجزاء عقلياً.

فالنتيجة : أنّ ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من التفصيل بين القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة في صحة التكليف هو حكم العقل ، والقول بأنّ منشأه اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار ، فعلى الفرض الأوّل تظهر الثمرة في المسألة ،

٣٤٩

دون الفرض الثاني ، غير تام على مسلكه قدس‌سره.

وأمّا على مسلك من يرى صحة الواجب المعلّق فلا بأس به. نعم ، إذاكان للواجب أفراد عرضية ، وكان بعض أفراده مزاحماً بواجب مضيّق دون جميعها ، لتمّ ما أفاده قدس‌سره إذ حينئذ يصحّ الاتيان بالفرد المزاحم بداعي امتثال الأمر المتعلق بالطبيعة المقدورة بالقدرة على بعض أفرادها ، بناءً على القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل بقبح خطاب العاجز ، كما إذا وقعت المزاحمة بين بعض الأفراد العرضية للصلاة مثلاً ، وإنقاذ الغريق كما في مواضع التخيير بين القصر والاتمام ، فانّه قد يفرض أنّ الصلاة تماماً مزاحمة مع الانقاذ ، لعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال دون الصلاة قصراً فيما إذا تمكن المكلف من الجمع بينها وبين الانقاذ.

ففي هذا الفرض وإن كان اللاّزم على المكلف الاتيان بالصلاة قصراً ، لئلاّ يفوت منه الواجب المضيق ، ولايجوز له اختيار فرد آخر منها في مقام الامتثال ـ وهو الصلاة تماماً ـ لأنّ اختياره يوجب تفويت الواجب الأهم ، ولكن إذا عصى الواجب الأهم واختار ذلك الفرد فلا مناص من الالتزام بصحته ، لانطباق الطبيعة المأمور بها ـ وهي طبيعي الصلاة الجامع بين القصر والتمام ـ عليه ، لفرض كون تلك الطبيعة مقدورة بالقدرة على فرد منها ، فإذا كانت مقدورة فلا مانع من تعلّق الأمر بها بناءً على أنّ منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل. إذن صحّ الاتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر بالطبيعة.

نعم ، بناءً على القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار ، لم يمكن الحكم بصحة الفرد المزاحم ، لعدم انطباق الطبيعة المأمور بها عليه ، إذ على هذا القول كما عرفت يكون المأمور به حصة خاصة من الطبيعة ، وهي الحصة المقدورة ، ومن الواضح أنّها لا تنطبق على الفرد المزاحم.

٣٥٠

وقد تلخّص : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من التفصيل وإن تمّ على هذا الفرض ، إلاّ أنّ ذلك الفرض خارج عن مورد كلام المحقق الثاني قدس‌سره الذي كان محلاً للكلام في المقام ، وهو ما إذا كان الواجب ذا أفراد طولية ، وكان بعضها مزاحماً بواجب مضيق.

ثمّ لو تنزلنا عن ذلك ، وسلّمنا أنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره من القائلين بالواجب المعلّق ، ويرى جواز تعلّق الطلب بأمر متأخر مقدور في ظرفه ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يتم ما أفاده ، بيان ذلك : أنّ المطلق المتعلق للطلب لا يخلو من أن يكون شمولياً وأن يكون بدلياً ، والمطلق الشمولي وإن كان خارجاً عن محلّ الكلام في المقام ـ حيث إنّ محل الكلام في المطلق البدلي ـ إلاّ أنّا نتعرض له لشيء من التوضيح للمقام فنقول :

إنّ المطلق إذا كان شمولياً فلا محالة ينحلّ الحكم المتعلق به بانحلال أفراده ، فيثبت لكل واحد منها حكم مستقل مغاير للحكم الثابت لفرد آخر ، وهذا واضح. وعليه فإذا كان بعض أفراده مزاحماً بواجب مضيّق ، فلا محالة يسقط حكمه من جهة المزاحمة ، لكونه غير مقدور للمكلف شرعاً ، وما كان كذلك يستحيل تعلّق الطلب به ، ولا يفرق في ذلك بين القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل ، والقول بأنّ منشأه اقتضاء نفس التكليف ذلك ، فانّ الممنوع شرعاً كالممتنع عقلاً ، إذن لا يمكن الحكم بصحة ذلك الفرد المزاحم مع قطع النظر عما سيجيء من صحة تعلّق الأمر بالضدّين على نحو الترتب.

وأمّا إذا كان بدلياً كما هو محلّ الكلام في المقام ، فبناءً على ما هو الصحيح من أنّ الأوامر متعلقة بالطبائع دون الأفراد ، فمتعلق الأمر هو صرف وجود الطبيعة الجامع بين الحدّين ، أو فقل : الجامع بين الأفراد العرضية والطولية بلا دخل شيء من الخصوصيات والتشخصات الخارجية فيه.

٣٥١

ومن هنا قد ذكرنا غير مرّة أنّ معنى الاطلاق هو رفض القيود وعدم دخل شيء منها في متعلق الحكم واقعاً ، لا الجمع بينها ودخل الجميع فيه. ومن الواضح جداً أنّ وجوب شيء كذلك لا ينافي وجوب شيء آخر في عرضه ، ضرورة أنّه لا منافاة بين وجوب الصلاة مثلاً في مجموع وقتها ـ وهو ما بين الزوال والمغرب ـ وبين وجوب الإزالة أو إنقاذ الغريق أو نحو ذلك في ذلك الوقت ، إذ المفروض أنّ المطلوب إنّما هو صرف وجود الصلاة في مجموع هذه الأزمنة لا في جميعها ، ومن المعلوم أنّه يكفي في كونه مقدوراً للمكلف القدرة على فرد واحد منها ، وإذا كان مقدوراً صحّ تعلّق الطلب به ، سواء أكان هناك واجب آخر في تلك الأزمنة أم لم يكن ، فان وجوب واجب آخر إنّما ينافي وجوب الصلاة إذا كان وجوبها في جميع تلك الأزمنة لا في مجموعها ، والمفروض أنّها ليست بواجبة في كل من تلك الأزمنة ، لينافي وجوبها وجوب واجب آخر ، بل هي واجبة في المجموع ، وعليه فلا ينافيه وجوب شيء آخر في زمان خاص.

نعم ، وجوب واجب آخر ينافي ترخيص انطباق صرف وجود الطبيعة على الفرد في ذلك الزمان ، ولا يفرق في ذلك بين القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة في فعلية التكليف هو حكم العقل ، أو اقتضاء نفس التكليف ذلك ، إذ على كلا القولين لو عصى المكلف الأمر بالواجب المضيّق وأتى بالفرد المزاحم به صحّ لانطباق المأمور به عليه.

والسر في ذلك : أنّ التكليف بنفسه لا يقتضي أزيد من أن يكون متعلقه مقدوراً ولو بالقدرة على فرد منه لئلاّ يكون البعث نحوه لغواً وممتنعاً ، لأنّ الغرض منه جعل الداعي له ليحرّك عضلاته نحو الفعل بالارادة والاختيار ، ومن الواضح أنّ جعل الداعي إلى إيجاد الطبيعة المقدورة ولو بالقدرة على فرد

٣٥٢

منها بمكان من الوضوح.

وبتعبير آخر : أنّ الشارع لم يأخذ القدرة في متعلق أمره على الفرض ، بل هو مطلق من هذه الجهة ، غاية ما في الباب أنّ التكليف المتعلق به يقتضي أن يكون مقدوراً من جهة أنّ الغرض منه جعل الداعي إلى إيجاده ، وجعل الداعي نحو الممتنع عقلاً أو شرعاً ممتنع. ومن الواضح أنّ ذلك لا يقتضي أزيد من إمكان حصول الداعي للمكلف ، وهو يحصل من التكليف المتعلق بالطبيعة المقدورة بالقدرة على فرد منها ، لتمكنه من إيجادها في الخارج ، ولا يكون ذلك التكليف لغواً وممتنعاً عندئذٍ ، فإذا فرض أنّ الصلاة مثلاً مقدورة في مجموع وقتها وإن لم تكن مقدورة في جميعها ، فلا يكون البعث نحوها وطلب صرف وجودها في مجموع هذا الوقت لغواً.

وعليه فلا مقتضي للالتزام بأنّ متعلقه حصة خاصة من الطبيعة وهي الحصة المقدورة ، فانّ المقتضي له ليس إلاّتوهم أنّ الغرض من التكليف حيث إنّه جعل الداعي ، فجعل الداعي نحو الممتنع غير معقول ، ولكنّه غفلة عن الفارق بين جعل الداعي نحو الممتنع ، وجعل الداعي نحو الجامع بين الممتنع والممكن ، والذي لايمكن جعل الداعي نحوه هو الأوّل دون الثاني ، فانّ جعل الداعي نحوه من الوضوح بمكان.

فالنتيجة على ضوء هذا البيان : أنّه يصحّ الاتيان بالفرد المزاحم بداعي امتثال الأمر بالطبيعة ، من دون فرق بين القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل ، أو اقتضاء نفس التكليف ذلك.

ولو تنزّلنا عن ذلك أيضاً ، وسلّمنا الفرق بين القولين ، فمع هذا لا يتم ما أفاده بناءً على ما اختاره قدس‌سره من أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ، فكلّما لم يكن المورد قابلاً للتقييد لم يكن قابلاً للاطلاق ،

٣٥٣

فإذا كان التقييد مستحيلاً في موردٍ كان الاطلاق أيضاً مستحيلاً فيه ، لأنّ استحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر.

وفيما نحن فيه بما أنّ تقييد الطبيعة المأمور بها بخصوص الفرد المزاحم مستحيل ، فاطلاقها بالاضافة إليه أيضاً مستحيل حتّى على القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل ، وبالنتيجة لا يمكن الحكم بصحة الفرد المزاحم لعدم إطلاق للمأمور به ، ليكون الاتيان به بداعي أمره حتّى على القول بصحة الواجب المعلّق.

نعم ، بناءً على ما حققناه في بحث التعبدي والتوصلي (١) من أنّ التقابل بينهما ليس من تقابل العدم والملكة ، بل من تقابل التضاد ، ولذلك قلنا إنّ استحالة تقييد متعلق الحكم أو موضوعه بقيد خاص تستلزم كون الاطلاق أو التقييد بخلاف ذلك القيد ضرورياً ، يصحّ الاتيان به بداعي الأمر بالطبيعة بناءً على جواز تعلّق الوجوب بأمر متأخر مقدور في ظرفه ، كما هو المفروض ، وقد ذكرنا هناك أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ، لا يمكن تصديقه بوجه. وقد فصّلنا الحديث من هذه الناحية هناك فلا نعيد في المقام.

فالنتيجة لحدّ الآن قد أصبحت : أنّ ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من التفصيل بين اعتبار القدرة عقلاً واعتبارها باقتضاء نفس التكليف في المقام لا يرجع إلى معنىً صحيح.

فالصحيح هو ما ذهب إليه المحقق الثاني قدس‌سره من تحقق الثمرة بين القولين في المسألة ، وهي صحة العبادة بناءً على القول بعدم الاقتضاء ، وفسادها

__________________

(١) راجع المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ص ٥٢٨ وما بعدها.

٣٥٤

بناءً على القول بالاقتضاء ، مع قطع النظر عما سيجيء إن شاء الله تعالى من صحة تعلّق الأمر بالضدّين بناءً على القول بالترتب.

ولكنّ الذي يرد هنا هو أنّ مقامنا هذا ـ أي التزاحم بين الاتيان بواجب موسّع وواجب مضيّق ـ غير داخل في كبرى مسألة التزاحم بين الحكمين أصلاً ، والوجه في ذلك : هو أنّ التنافي بين الحكمين إمّا أن يكون في مقام الجعل والانشاء فلا يمكن جعل كليهما معاً ، وإمّا أن يكون في مقام الامتثال والفعلية ، مع كمال الملاءمة بينهما بحسب مقام الجعل ولا ثالث لهما.

ومنشأ الأوّل : إمّا العلم الاجمالي بكذب أحدهما في الواقع مع عدم التنافي بينهما ذاتاً ، أو ثبوت التنافي بينهما بالذات والحقيقة على وجه التناقض أو التضاد ، ولذا قالوا : التعارض تنافي مدلولي الدليلين بحسب مقام الاثبات والدلالة على وجه التناقض أو التضاد بالذات أو بالعرض.

ومنشأ الثاني : عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال والفعلية ، فانّ صرف قدرته على امتثال أحدهما عجز عن الثاني ، فينتفي بانتفاء موضوعه وهو القدرة ، ولذا قالوا : التزاحم تنافي الحكمين بحسب مقام الفعلية والامتثال مع عدم المنافاة بينهما بحسب مقام الجعل والانشاء.

وأمّا إذا لم يكن بين حكمين تنافٍ لا بحسب مقام الجعل ، ولا بحسب مقام الفعلية والامتثال ، لم يكونا داخلين لا في باب التعارض ولا في باب التزاحم ، لانتفاء ملاك كلا البابين فيهما ، ومقامنا من هذا القبيل ، ضرورة أنّه لا تنافي بين واجب موسّع وواجب مضيّق أبداً ، لا في مقام الجعل كما هو واضح ، ولا في مقام الامتثال ، لتمكن المكلف من امتثال كلا الواجبين معاً من دون أيّة منافاة ومزاحمة في البين ، فيقدر على إتيان الصلاة والازالة معاً ، أو الصلاة وإنقاذ الغريق من دون مزاحمة بينهما أصلاً.

٣٥٥

وسر ذلك : أنّ ما هو مزاحم للواجب المضيق أو الأهم ليس بمأمور به ، وما هو مأمور به وهو الطبيعي الجامع بين المبدأ والمنتهى ليس بمزاحم له ، وهذا ظاهر.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ ما ذكرناه من أنّه لا تزاحم بين الواجب الموسّع والمضيّق لا ينافي ما ذكره المحقق الثاني قدس‌سره من الثمرة بين القولين في المسألة ، فان دخول المقام تحت كبرى التزاحم ، وعدم دخوله تحت تلك الكبرى ، أجنبيان عن ظهور تلك الثمرة تماماً كما لا يخفى.

وأمّا النقطة الثانية : وهي اقتضاء نفس التكليف اعتبار القدرة في متعلقه ، فهي مبنية على ما هو المشهور من أنّ المنشأ بصيغة الأمر أو ما شاكلها إنّما هو الطلب والبعث نحو الفعل الارادي ، والطلب والبعث التشريعيّان عبارة عن تحريك عضلات العبد نحو الفعل بارادته واختياره ، وجعل الداعي له لأن يفعل في الخارج ويوجده ، ومن الضروري أنّ جعل الداعي إنّما يمكن في خصوص الفعل الاختياري. إذن نفس التكليف مقتضٍ لاعتبار القدرة في متعلقه بلا حاجة إلى حكم العقل في ذلك.

أقول : قد ذكرنا في بحث صيغة الأمر ، وكذا في بحث الإنشاء والإخبار : أنّ ما هو المشهور من أنّ الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ لا أساس له أصلاً ، والوجه في ذلك : ما ذكرناه هناك وملخّصه : أنّ المراد بايجاد المعنى باللفظ ليس الايجاد التكويني بالضرورة ، فانّ اللّفظ غير واقع في سلسلة علل الموجودات التكوينية ، بداهة أنّها توجد بأسبابها وعللها الخاصة ، واللفظ ليس من جملتها ، وكذا ليس المراد منه الايجاد الاعتباري ، فانّ الاعتبار خفيف المؤونة فيوجد في نفس المعتبر بمجرد اعتباره ، سواء أكان هناك لفظ تكلم به المعتبر أم لم يكن ، فلا يتوقف وجوده الاعتباري على اللّفظ أبداً ، إذن لا يرجع الانشاء بهذا المعنى إلى محصّل.

٣٥٦

فالتحقيق : هو ما ذكرناه سابقاً من أنّ حقيقة التكليف عبارة عن اعتبار المولى كون الفعل على ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرزٍ ما ، من صيغة الأمر أو ما شاكلها ، ولا نتصور للتكليف معنى غير ذلك ، كما أنّا لا نتصور للإنشاء معنىً ما عدا إبراز ذلك الأمر الاعتباري.

وعلى الجملة : فإذا حلّلنا الأمر بالصلاة مثلاً أو غيرها ، نرى أنّه ليس في الواقع إلاّ اعتبار الشارع كون الصلاة على ذمة المكلف ، وإبراز ذلك بمبرز في الخارج ، ككلمة صلّ أو نحوها ، ولا نتصور شيئاً آخر غير هذين الأمرين : ١ ـ اعتبار الفعل على ذمة المكلف. ٢ ـ إبراز ذلك بمبرز في الخارج نسميه بالطلب تارةً وبالبعث اخرى وبالوجوب ثالثة.

ومن هنا قلنا إنّ الصيغة لا تدل على الوجوب وإنّما هي تدل على إبراز الأمر الاعتباري القائم بالنفس ، ولكنّ العقل ينتزع منه الوجوب ولزوم الامتثال بمقتضى قانون العبودية والمولوية ، ما لم تنصب قرينة على الترخيص في الترك ، فالوجوب إنّما هو بحكم العقل ومن لوازم إبراز شيء على ذمة المكلف إذا لم تكن قرينة على الترخيص ، وأمّا الطلب فقد ذكرنا أنّه عبارة عن التصدي لتحصيل شيء في الخارج ، فلا يقال طالب الضالة إلاّلمن تصدى لتحصيلها في الخارج.

وعلى ضوء ذلك : فصيغة الأمر أو ما شاكلها من أحد مصاديق هذا الطلب ، لا أنّه مدلول لها ، فانّ الآمر يتصدى بها لتحصيل مطلوبه في الخارج ، فهي من أظهر مصاديق الطلب.

وعلى هدى ذلك البيان قد ظهر : أنّه لا مقتضي لاختصاص الفعل بالحصة المقدورة ، فان اعتبار المولى الفعل على عهدة المكلف وذمته لايقتضي ذلك بوجه ، ضرورة أنّه لا مانع من اعتبار الجامع بين المقدور وغير المقدور على عهدته

٣٥٧

أصلاً ، وإبراز المولى ذلك الأمر الاعتباري النفساني بمبرز في الخارج أيضاً لا يقتضي ذلك ، بداهة أنّه ليس إلاّمجرد إبراز وإظهار اعتبار كون المادة على ذمة المكلف ، وهو أجنبي تماماً عن اشتراط التكليف بالقدرة وعدم اشتراطه بها.

فالنتيجة : أنّه لا مقتضي من قبل نفس التكليف لاعتبار القدرة في متعلقه أبداً ، وأمّا العقل فقد ذكرنا أنّه لا يقتضي اعتبار القدرة إلاّفي ظرف الامتثال ، وعليه فإذا لم يكن المكلف قادراً حين جعل التكليف وصار قادراً في ظرف الامتثال صحّ التكليف ولم يكن قبيحاً عنده ، فان ملاك حكم العقل ـ باعتبار القدرة في ظرف الامتثال وفي موضوع حكمه وهو لزوم إطاعة المولى وامتثال أمره ونهيه بمقتضى قانون العبودية والمولوية ـ إنّما هو قبح توجيه التكليف إلى العاجز عنه في مرحلة الامتثال ، فالعبرة إنّما هي بالقدرة في تلك المرحلة ، سواء أكان قبلها قادراً أم لم يكن ، فوجود القدرة قبل تلك المرحلة وعدمه على نسبة واحدة بالقياس إلى حكم العقل ، وهذا ظاهر.

ونتيجة مجموع ما ذكرناه أمران :

الأوّل : أنّ القدرة ليست شرطاً للتكليف ومأخوذة في متعلقه لا باقتضاء نفسه ولا بحكم العقل.

الثاني : أنّها شرط لحكم العقل بلزوم الامتثال والاطاعة ومأخوذة في موضوع حكمه ، إذن فلا مقتضي لاختصاص الفعل بالحصة الاختيارية أصلاً.

قد يتوهم : أنّ تعلّق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره وإن لم يكن مستحيلاً ، ولكنّه لغو محض ، إذ المكلف لا ينبعث إلاّنحو المقدور ولا يتمكن إلاّ من إيجاده ، إذن ما هي فائدة تعلقه بالجامع.

ويردّه : ما ذكرناه هناك من أنّ فائدته سقوط التكليف عن المكلف بتحقق

٣٥٨

فرد منه في الخارج بغير اختياره وإرادته ، لانطباق الجامع عليه وحصول الغرض القائم بمطلق وجوده به ، ولا يفرق بينه وبين الفرد الصادر منه باختياره وإرادته في حصول الغرض وسقوط التكليف ، لأنّ مناط ذلك انطباق الطبيعي المأمور به على الفرد الخارجي ، وهو مشترك فيه بين الفرد الصادر منه بالاختيار والصادر منه بغيره.

وقد تبيّن لحدّ الآن أنّه لا مانع من تعلّق التكليف بالجامع بين الحصة المقدورة وغيرها أصلاً.

أضف إلى ذلك : ما تقدّم آنفاً من أنّا لو سلّمنا أنّ منشأ اعتبار القدرة اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار ، لم يكن مقتضٍ لاختصاص المتعلق بخصوص الحصة الاختيارية كما سبق ذلك بصورة مفصلة فلا حاجة إلى الاعادة.

وأمّا النقطة الثالثة : وهي أنّ الفرد المزاحم للواجب المضيّق تامّ الملاك مطلقاً حتّى على القول بالاقتضاء ، وأنّ قصد الملاك يكفي في وقوع الشيء عبادة ، فهي تتوقف على إثبات هاتين المقدمتين : إحداهما : كبرى القياس ، والاخرى : صغراه.

أمّا المقدمة الاولى : وهي كبرى القياس ، فلا إشكال فيها ، وذلك لما حققناه في بحث التعبدي والتوصلي (١) من أنّ المعتبر في صحة العبادة هو قصد القربة بأيّ وجه تحقق ، سواء أتحقق في ضمن قصد الأمر ، أو قصد الملاك ، أو غير ذلك من الدواعي القربية. ولا دليل على اعتبار قصد الأمر خاصة ، بل قام الدليل على خلافه ، كما فصلنا الحديث من هذه الناحية هناك.

وأمّا المقدمة الثانية : وهي صغرى القياس فقد استدلّ عليها بوجوه :

__________________

(١) في المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ص ٥٤٢.

٣٥٩

الأوّل : ما عن المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من دعوى القطع بأنّ الفرد المزاحم تامّ الملاك ، ولا قصور فيه أصلاً ، وقال في بيان ذلك ما ملخّصه : أنّ الفرد المزاحم للواجب المضيّق أو الأهم وإن كان خارجاً عن الطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها ، إلاّ أنّه لما كان وافياً بغرضها ـ كالباقي من أفرادها ـ كان عقلاً مثله في الاتيان به بداعي الأمر بالطبيعة في مقام الامتثال ، بلا تفاوت في نظر العقل بينه وبين بقية الأفراد من هذه الجهة أصلاً. نعم ، إنّه يفترق عن البقية في أنّه خارج عن الطبيعة المأمور بها بما هي كذلك ، والبقية داخلة فيها. وهذا ليس لقصور فيه ليكون خروجه عنها من باب التخصيص وعدم الملاك ، بل لعدم إمكان تعلّق الأمر بما يعمّه عقلاً. وعلى كل حال فالعقل لا يرى تفاوتاً بينه وبين غيره من الأفراد في الوفاء بغرض الطبيعة أصلاً وأ نّه كالبقية تامّ الملاك ، ولا قصور فيه أبداً.

وغير خفي : أنّا قد ذكرنا غير مرّة أنّه لا طريق لنا إلى إحراز ملاكات الأحكام الواقعية ، وجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها ، مع قطع النظر عن ثبوت تلك الأحكام. نعم ، في لحظة ثبوتها نستكشف اشتمال متعلقاتها على الملاك بناءً على ما هو الصحيح من تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد الواقعيتين. وأمّا إذا سقطت تلك الأحكام فلايمكننا إحراز أنّ متعلقاتها باقية على ما كانت عليه من الاشتمال على الملاك ، إذ كما نحتمل أن يكون سقوطها من جهة المانع مع ثبوت المقتضي لها ، نحتمل أن يكون من جهة انتفاء المقتضي وعدم ثبوته ، فلا ترجيح لأحد الاحتمالين على الآخر.

وعلى الجملة : فالعلم بوجود مصلحة في فعل أو مفسدة تابع لتعلق الأمر أو النهي به ، فمع قطع النظر عنه لا يمكن العلم بأنّ فيه مصلحة أو مفسدة. ومن هنا

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣٦.

٣٦٠