محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

وعلى الجملة : فقد تقدّم في ضمن البحوث السالفة أنّ الحجية التأسيسية غير موجودة في الشريعة الاسلامية المقدسة ، بل الحجج فيها بتمام أشكالها حجج عقلائية ، والشارع أمضى تلك الحجج ، ومن الطبيعي أنّ أثر إمضائه ليس إلاّترتب تنجيز الواقع عند الاصابة والتعذير عند الخطأ ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون الدليل على اعتبارها السيرة القطعية من العقلاء أو غيرها كما عرفت ، وعليه فلا يمكن الالتزام بالتصويب والسببية فيها.

ولو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ حجية الأمارات الشرعية كانت تأسيسية ابتدائية ولم تكن إمضائية ، ولكن مع ذلك لا يستلزم القول بها القول بالتصويب ، وذلك لأنّ غاية ما يترتب عليه هو جعل الأحكام الظاهرية في مؤدياتها ، وقد ذكرنا في محله بشكل موسع أنّها لا تنافي الأحكام الواقعية أصلاً ، ولا توجب انقلابها بوجه ، بدون فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ ظاهر إطلاق الأدلة الدالة على ثبوت الأحكام للموضوعات الخارجية ثبوتها لها في نفسها من دون التقييد بالعلم بها ، مثلاً قوله عليه‌السلام « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (١) يدل على نجاسة البول مطلقاً ، أي سواء أكان المكلف عالماً بها أم لم يكن ، غاية الأمر أنّه في حال الجهل بها يكون معذوراً ، لا أنّ البول لايكون نجساً في الواقع.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهاتين النتيجتين :

الاولى : أنّ جعل الأحكام للموضوعات المعلومة في الخارج بالوجدان أو بالتعبد وإن كان بمكان من الامكان ، كجعل الحرمة للخمر المعلوم مثلاً دون الخمر الواقعي وهكذا ، إلاّ أنّه خلاف ظاهر إطلاق أدلتها من ناحية ، وخلاف

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٠٥ / أبواب النجاسات ب ٨ ح ٢.

١٠١

ظاهر أدلة حجيتها من ناحية اخرى.

الثانية : بطلان توهم أنّ مقتضى أدلة حجيتها هو وجوب العمل على طبق الأمارة في صورتي الاصابة والخطأ ، ومن الطبيعي أنّ العمل بها إذا كان واجباً على كلا التقديرين لزمه القول بالتصويب ، ولكن القول به في الأحكام الكلية لا يمكن من ناحية الاجماع والضرورة ، وحيث لا إجماع ولا ضرورة في الموضوعات الخارجية فلا بأس بالقول به فيها أصلاً.

توضيح البطلان : ما عرفت من أنّ هذا القول يقوم على أساس أن يكون المجعول في باب الأمارات بمقتضى أدلة حجيتها هو نفس المؤدى ، وقد تقدّم بشكل موسّع أنّه لا عين ولا أثر له فيها أصلاً ، فإذن لا موجب للقول بالإجزاء في الشبهات الموضوعية ، فحالها من هذه الناحية حال الشبهات الحكمية. على أنّ وجوب العمل على طبقها مطلقاً لا يستلزم التصويب كما لا يخفى.

الرابع : أنّه لا فرق فيما ذكرناه من عدم الإجزاء على ضوء نظرية الطريقية والكاشفية في باب الأمارات بين المجتهد والمقلد ، فكما أنّ المجتهد إذا تبدل رأيه واجتهاده برأي آخر واجتهاد ثان وجبت الاعادة عليه في الوقت والقضاء في خارجه ، فكذلك المقلد إذا عدل عن مجتهد لأحد موجبات العدول إلى مجتهد آخر وكان مخالفاً له في الفتوى وجبت عليه إعادة الأعمال الماضية.

ودعوى أنّ حجية فتاوى المجتهدين على المقلدين كانت من باب السببية والموضوعية وهي تستلزم الإجزاء على الفرض ، خاطئة جداً لوضوح أنّه لا فرق بينها وبين الأمارات القائمة عند المجتهدين ، كيف ، فان عمدة الدليل على حجيتها إنّما هي السيرة العقلائية الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم ، وقد تقدّم أنّ القول بالسببية يقوم على أساس جعل المؤدى ، ومن الطبيعي أنّه ليس في السيرة العقلائية لجعل المؤدى عين ولا أثر.

١٠٢

الخامس : أنّ ثبوت الحكم الظاهري عند شخص بواسطة قيام الأمارة عليه هل هو نافذ في حق غيره ، وذلك كما إذا قامت البينة عند إمام جماعة مثلاً على أنّ المائع الفلاني ماء فتوضأ به أو اغتسل ، وقد علم غيره الخلاف وأ نّه ليس بماء ، فهل يجوز لذلك الغير الاقتداء به؟

الظاهر عدم جوازه ، بلا فرق فيه بين الشبهات الحكمية والموضوعية ، والسبب في ذلك : هو أنّ نفوذ الحكم الظاهري الثابت لشخص في حق غيره الذي يرى خلافه يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه إلاّفي بعض الموارد الخاصة كما سنشير إليه. وعلى هذا الضوء فلو رأى شخص مثلاً وجوب الوضوء مع الجبيرة في موارد كسر أحد أعضاء الوضوء أو جرحه وإن كان مكشوفاً ، ولكن يرى الآخر وجوب التيمم فيها ، أو إذا رأى مشروعية الوضوء أو الغسل في موارد الضرر أو الحرج أو العسر ، ولكن يرى الآخر عدم مشروعيته ، أو إذا رأى كفاية غسل المتنجس بالبول مرّة واحدة ، ويرى غيره اعتبار التعدد فيه وهكذا ، ففي جميع هذه الموارد وما شاكلها لا يجوز للثاني الاقتداء بالأوّل ، وليس له ترتيب آثار الوضوء الصحيح على وضوئه ، وترتيب آثار الطهارة على ثوبه المتنجس بالبول المغسول بالماء مرّة واحدة.

نعم ، إذا كان العمل في الواقع صحيحاً بمقتضى حديث لا تعاد ، صحّ الاقتداء به ، كما إذا افترضنا أنّ شخصاً يرى عدم وجوب السورة مثلاً في الصلاة اجتهاداً أو تقليداً فيصلي بدونها ، جاز لمن يرى وجوبها فيها الاقتداء به ، لفرض أنّ صلاته في الواقع صحيحة بمقتضى هذا الحديث ، ولذا لا تجب الاعادة عليه عند انكشاف الخلاف.

ولكن يستثنى من ذلك مسألتان ، إحداهما : مسألة النكاح. والاخرى :

مسألة الطلاق. أمّا المسألة الاولى : فقد وجب على كل أحد ترتيب آثار النكاح

١٠٣

الصحيح على نكاح كل قوم وإن كان فاسداً في مذهبه ، فلو رأى شخص صحة النكاح بالعقد الفارسي وعقد على امرأة كذلك ويرى الآخر بطلانه واعتبار العربية فيها ، لزمه ترتيب آثار الصحة على نكاحه وإن كان فاسداً في نظره ، بأن يحكم بأ نّها زوجته وبعدم جواز العقد عليها وغير ذلك من الآثار المترتبة على الزواج الصحيح. ومن هنا وجب ترتيب آثار النكاح الصحيح على نكاح كل ملّة وإن كانوا كافرين. وبذلك يظهر حال المسألة الثانية حرفاً بحرف.

والدليل على هذا : مضافاً إلى إمكان استفادة ذلك من روايات الباب (١) ، السيرة القطعية الجارية بين المسلمين من لدن زمن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى زماننا هذا ، حيث إنّ كل طائفة منهم يرتّبون آثار النكاح الصحيح على نكاح طائفة اخرى منهم ، وكذا الحال بالاضافة إلى الطلاق ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّهم يعاملون مع الملل الاخرى أيضاً كذلك ، يعني أنّهم يرتّبون آثار العقد الصحيح على نكاحهم ، وآثار الطلاق الصحيح على طلاقهم ، فلو عقد كافر على امرأة عاملوا معها معاملة المرأة المزوّجة ورتّبوا عليها تمام آثارها ، ولو طلّقها عاملوا معها معاملة المرأة المطلّقة ورتّبوا عليها آثارها من جواز تزويجها بعد انقضاء عدتها ونحو ذلك.

قد يتوهّم : أنّ بابي الطهارة والنجاسة أيضاً من هذا القبيل ، أي من قبيل النكاح ، بدعوى أنّنا كثيراً ما نخالط أبناء العامّة وغيرهم الذين لا يعتبرون في زوال عين النجاسة ما نعتبره من الشرائط ، بل نخالط من لا يبالي بالنجاسة أصلاً مع سكوت الأئمة عليهم‌السلام عن ذلك ، ولم يرد منهم ما يدل على وجوب الاجتناب عن هؤلاء ، بل ورد منهم الأمر بمعاملتهم معاملة المتطهر ، وهذا دليل على خروج بابي الطهارة والنجاسة عن الحكم المتقدم ، ونفوذ الحكم

__________________

(١) الوسائل ٢١ : ١٩٩ / أبواب نكاح العبيد والإماء ب ٨٣.

١٠٤

الظاهري الثابت لشخص في حقّ الآخرين.

ولكن هذا التوهّم خاطئ جداً ، والسبب في ذلك : هو أنّ جواز المخالطة مع هؤلاء الأشخاص المذكورين وعدم وجوب الاجتناب عنهم ليس من ناحية نفوذ الحكم الظاهري لأحد في حقّ الآخرين ، ضرورة أنّ عدم وجوب الاجتناب عمّن لا يبالي بالنجاسة كالعصاة ونحوهم ليس مبنياً على ذلك ، لفرض عدم ثبوت حكم ظاهري في حق مثله ، وعليه فلا بدّ أن يكون ذلك مبنياً على أحد امور :

الأوّل : أن يكون ذلك مبتنياً على عدم نجاسة ملاقي المتنجس في غير المائعات كما مال إليه المحقق الهمداني قدس‌سره حيث قال : لو بني على تنجيس المتنجس مطلقاً لزم تنجيس العالم كلّه ، حيث إنّ النجاسة تسري دون الطهارة ، ولكن مع ذلك قال : إنّ مخالفة المشهور أشكل فلاحظ (١).

الثاني : الاكتفاء بغيبة المسلم في الحكم بالطهارة ، حيث إنّ الأصحاب قد عدّوها من المطهرات ، وإن كان الاكتفاء بها في الحكم بالطهارة مطلقاً لا يخلو عن إشكال بل منع. ومن هنا ذكرنا في محلّه (٢) أنّ الحكم بالطهارة بها يبتني على امور :

١ ـ أن يكون المسلم بالغاً أو مميزاً ، فلو كان صبياً غير مميز لم تترتّب الطهارة على غيابه.

٢ ـ أن يكون المتنجس بدنه أو لباسه ونحو ذلك ممّا هو في حوزته ، فلو كان خارجاً عن حوزته لم يحكم بطهارته.

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٥٧٩ السطر ٩.

(٢) شرح العروة ٤ : ٢٤١.

١٠٥

٣ ـ أن يحتمل تطهيره ، فمع العلم بعدمه لا يحكم بطهارته.

٤ ـ أن يكون عالماً بنجاسته ، فلو كان جاهلاً بها لم يحكم بطهارته.

٥ ـ أن يستعمله فيما هو مشروط بالطهارة ، كأن يصلي فيه أو يشرب في إنائه الذي كان متنجساً ، وهكذا ، ومع انتفاء أحد هذه الامور لا يحكم بالطهارة على تفصيل ذكرناه في بحث الفقه.

الثالث : أنّنا نعلم بطروء حالتين متعاقبتين عليه ، فكما أنّنا نعلم بنجاسة يده مثلاً في زمان نعلم بطهارتها في زمان آخر ، ونشك في المتقدم والمتأخر ، ففي مثل ذلك قد ذكرنا في محلّه (١) أنّ الاستصحاب لايجري في شيء منهما للمعارضة ، فإذن المرجع هو قاعدة الطهارة. وأمّا إذا لم يكن المورد من موارد تعاقب الحالتين ، فإن كانت الحالة السابقة هي النجاسة فالمرجع هو استصحابها ، وإن كانت الحالة السابقة هي الطهارة فالمرجع هو استصحابها.

فالنتيجة : أنّ عدم وجوب الاجتناب في هذه الموارد يبتني على أحد الامور المذكورة ، فلا يقوم على أساس أنّ الحكم الظاهري الثابت في حق مسلم موضوع لترتيب الآثار عليه واقعاً في حقّ الآخرين.

السادس : أنّ المحقق النائيني قدس‌سره (٢) قد ادّعى الاجماع على الإجزاء في العبادات التي جاء المكلف بها على طبق الحجة الشرعية فلا تجب إعادتها في الوقت ، ولا قضاؤها في خارج الوقت. وأمّا في الأحكام الوضعية فقد ذكر قدس‌سره أنّها على قسمين ، أحدهما : ما كان الموضوع فيه باقياً إلى حين انكشاف الخلاف. والثاني : غير باق إلى هذا الحين. والأوّل : كما إذا عقد على

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ٢٤٦.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٩٩.

١٠٦

امرأة بالعقد الفارسي ، أو اشترى داراً مثلاً بالمعاطاة ، أو ذبح ذبيحة بغير الحديد ، أو ما شاكل ذلك ثمّ انكشف له الخلاف اجتهاداً أو تقليداً مع بقاء هذه الامور. والثاني : كما إذا اشترى طعاماً بالمعاطاة التي يرى صحتها ثمّ انكشف له الخلاف وبنى على بطلانها اجتهاداً أو تقليداً مع تلف الطعام المنقول إليه ، أو عقد على امرأة بالعقد الفارسي ثمّ انكشف له الخلاف وبنى على بطلانه كذلك مع عدم بقاء المرأة عنده ، وبعد ذلك قال قدس‌سره أمّا القسم الأوّل من الأحكام الوضعية فلا إجماع على الإجزاء فيه بل هو المتيقن خروجه عن معقده ، ومن هنا لا نظن فقيهاً أن يفتي بالإجزاء في هذا القسم. وأمّا القسم الثاني فيشكل دخوله في معقده ولا نحرز شموله له ، وبدونه لا يمكن الافتاء بالإجزاء.

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده قدس‌سره بيانه : أمّا ما ذكره من دعوى الاجماع على الإجزاء في العبادات ففي غاية الاشكال ، والسبب في ذلك : هو أنّ هذه المسألة يعني مسألة الإجزاء ليست من المسائل الاصولية المعنونة في كتب القدماء ، بل هي من المسائل المستحدثة بين المتأخرين ، ومع هذا كيف يمكن لنا دعوى الاجماع فيها. وأضف إلى ذلك : أنّ جماعة كثيرة من الاصوليين ذهبوا إلى عدم الإجزاء فيها. فالنتيجة : أنّ دعوى الاجماع على الإجزاء فيها خاطئة جداً. على أنّه اجماع منقول وهو غير حجة كما قرر في محلّه (١).

وأمّا ما ذكره قدس‌سره بالاضافة إلى القسم الأوّل من الأحكام الوضعية فمتين جداً ، وإن سلّمنا الاجماع على الإجزاء في العبادات. وأمّا ما ذكره قدس‌سره من التردد في القسم الثاني فلا وجه له ، لوضوح أنّه لا فرق بين القسم الأوّل والثاني من هذه الناحية أصلاً ، غاية الأمر إذا لم يبق الموضوع دفع إلى

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ١٥٦.

١٠٧

صاحبه بدله إذا كان له بدل ، كما إذا اشترى مالاً بالمعاطاة فتلف المال ثمّ بنى على فسادها اجتهاداً أو تقليداً ضمن بدله. وعلى الجملة : فلا فرق بين القسمين في عدم الإجزاء أصلاً.

إلى هنا قد استطعنا أن نصل إلى هذه النتيجة : وهي أنّ مقتضى القاعدة عدم الإجزاء مطلقاً ، فالإجزاء يحتاج إلى دليل ، وما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الاجماع فهو غير تام كما عرفت. نعم ، قد ثبت الإجزاء في خصوص باب الصلاة بدليل خاص وهو حديث لاتعاد فيما إذا كان الفاقد جزءاً أو شرطاً غير ركن ، بناءً على ضوء ما حققناه في موطنه (١) من عدم اختصاصه بالناسي وشموله للجاهل القاصر أيضاً ، وعليه فلو صلّى بدون السورة مثلاً معتقداً عدم وجوبها اجتهاداً أو تقليداً ثمّ اعتقد وجوبها كذلك ، لم تجب الاعادة عليه لا في الوقت ولا في خارجه.

وكذا لو صلّى بدون جلسة الاستراحة بانياً على عدم وجوبها في الصلاة ثمّ انكشف له الخلاف وبنى على وجوبها فيها لم تجب الاعادة عليه ، وهكذا.

والحاصل : أنّ الصلاة إذا كانت فاقدة لجزء أو شرط ركني بطلت وتجب إعادتها.

وأمّا إذا كانت فاقدة لجزء أو شرط غير ركني لم تبطل ولم تجب إعادتها لا في الوقت ولا في خارجه بمقتضى حديث لاتعاد. وأمّا تكبيرة الإحرام فهي خارجة عن إطلاق هذا الحديث بمقتضى الروايات الدالة على بطلان الصلاة بفقدانها ولو كان من جهة النسيان ، وأمّا عدم ذكرها فيه فلعلّه من ناحية عدم صدق الدخول في الصلاة بدونها.

فالنتيجة : هي أنّ مقتضى القاعدة الثانوية في خصوص باب الصلاة هو

__________________

(١) منها ما ذكره في شرح العروة ١٨ : ١٦.

١٠٨

الإجزاء دون غيره من أبواب العبادات والمعاملات ، ومن هنا لو بنى أحد في باب الصوم على عدم بطلانه بالارتماس فارتمس مدة من الزمن ثمّ انكشف له الخلاف وبنى على كونه مبطلاً وجب عليه قضاء تلك المدة. نعم ، لا تجب الكفارة عليه لأنّها مترتبة على الافطار عالماً عامداً ، ومن هنا قد قلنا بعدم وجوبها حتّى على الجاهل المقصّر (١).

قد استطعنا في نهاية الشوط أن نخرج في هذه المسألة بعدّة نتائج :

الاولى : أنّ قيد « على وجهه » في عنوان المسألة على ضوء نظريتنا من إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر توضيحي وليس باحترازي ، نعم هو كذلك على نظرية المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره.

الثانية : أنّ المراد من الاقتضاء في عنوان النزاع ما يشبه العلة الحقيقية التكوينية والتأثير الخارجي ، ومن هنا نسب إلى الاتيان بالمأمور به لا إلى الأمر ، كما أنّ المراد من كلمة الإجزاء هاهنا هو معناها اللغوي ، أعني الكفاية.

الثالثة : قد تقدّم أنّ مسألتنا هذه تمتاز عن مسألة المرة والتكرار من ناحية ، وعن مسألة تبعية القضاء للأداء من ناحية اخرى ، فلا صلة لها بشيء من المسألتين.

الرابعة : أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره قد ذكر أنّ المأمور به بالأمر الاضطراري لا يخلو بحسب مقام الثبوت عن أربع صور ، وقد تكلمنا في تلك الصور بشكل موسّع في ضمن البحوث السابقة وناقشنا في بعضها.

الخامسة : ذكر شيخنا الاستاذ قدس‌سره أنّ عدم إجزاء الاتيان بالمأموربه بالأمر الاضطراري فيما إذا ارتفع العذر في خارج الوقت غير معقول في مرحلة

__________________

(١) شرح العروة ٢١ : ٣٠٧ ( فصل في كفارة الصوم ).

١٠٩

الثبوت ، وقد تقدّم نقده وأ نّه لا مانع من الالتزام بعدم الإجزاء ثبوتاً. نعم ، لا مناص من الالتزام بالإجزاء في مرحلة الاثبات من جهة الاطلاق.

السادسة : لا إشكال في جواز البدار في موارد التقية ، وأمّا في غير مواردها فالصحيح هو عدم جواز البدار فيها.

السابعة : أنّ أدلة الأوامر الاضطرارية لا تشمل الاضطرار المستند إلى الاختيار إلاّفي موارد التقية ، حيث لا فرق فيها بين ما كان الاضطرار بالاختيار أو بغيره.

الثامنة : أنّ ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من التفصيل بين موارد الاصول وموارد الأمارات ، فالتزم بالإجزاء في الاولى وبعدمه في الثانية ، قد تقدّم نقده بشكل موسّع في ضمن البحوث المتقدمة وأ نّه لا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.

التاسعة : أنّ مقتضى القاعدة على القول بالسببية بجميع أنواعها وأشكالها هو الإجزاء ، فعدمه يحتاج إلى دليل. ومقتضى القاعدة على القول بالطريقية هو عدم الإجزاء ، فالإجزاء يحتاج إلى دليل ، نعم قد قام الدليل بالخصوص على الإجزاء في خصوص باب الصلاة.

العاشرة : أنّ ثبوت الحكم الظاهري في حق شخص لا يكون نافذاً في حق آخر ولا دليل على ذلك إلاّفي موردين ، أحدهما : مسألة النكاح. وثانيهما : مسألة الطلاق كما عرفت. هذا آخر ما أوردناه في مبحث الإجزاء.

١١٠

مقدّمة الواجب

يقع الكلام فيها عن عدّة جهات :

الاولى : في بيان المراد من الوجوب المبحوث عنه في المقام ، فنقول : لا يشك أحد ولن يشك في أنّ المراد منه ليس هو الوجوب العقلي ، يعني لابدية الاتيان بالمقدمة ، بداهة أنّ العقل إذا أدرك توقف الواجب على مقدمته ورأى أنّ تركها يؤدي إلى ترك الواجب الذي فيه احتمال العقاب استقلّ بلزوم إتيانها ، امتثالاً لأمره تعالى وقياماً بوظيفة العبودية والرقية ، وتحصيلاً للأمن من العقوبة ، فثبوت الوجوب بهذا المعنى ضروري ، فلا مجال للنزاع فيه أبداً ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ المبحوث عنه هنا ليس هو الوجوب المجازي بمعنى أنّ الوجوب النفسي المتعلق بذي المقدمة حقيقة وواقعاً هل يصح إسناده إلى مقدماته مجازاً أم لا ، ضرورة أنّه لا شبهة في صحة هذا الاسناد المجازي أوّلاً ، وعدم شأن الاصولي البحث عن ذلك ثانياً ، وكون البحث عندئذ بحثاً لغوياً ثالثاً.

ومن ناحية ثالثة : أنّ المراد منه ليس هو الوجوب الفعلي التفصيلي ، بداهة أنّه يقتضي التفات الآمر دائماً إلى تمام مقدمات الواجب حتّى يقال إنّه متى أوجب شيئاً أوجب مقدماته فعلاً ، مع أنّ الآمر كثيراً ما لا يلتفت إلى نفس المقدمة فضلاً عن إيجابها.

فالصحيح أن يقال : إنّ المراد منه في المقام هو وجوب غيري تبعي ، بمعنى أنّ الآمر لو كان ملتفتاً إلى نفس المقدمة لأوجبها كما أوجب ذي المقدمة ، ولا

١١١

بأس بأن يسمى هذا الوجوب بالوجوب الارتكازي ، لارتكازه في ذهن كل آمر وحاكم. وإن شئت قلت : إنّ النزاع في الحقيقة في ثبوت هذه الملازمة ، يعني الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدماته ، وعدم ثبوتها.

الثانية : أنّ هذه المسألة هل هي من المسائل الاصولية أو الفقهية أو الكلامية أو المبادئ الأحكامية؟ ففيها وجوه بل أقوال :

قيل : إنّها من المسائل الفقهية ، ويظهر ذلك من عبارة جملة من المتقدمين منهم صاحب المعالم قدس‌سره (١) حيث قد استدلّ على نفي وجوب المقدمة بانتفاء الدلالات الثلاث.

ولكن هذا القول خاطئ جداً ، فلا واقع موضوعي له أصلاً ، وذلك لما حققناه في أوّل بحث الاصول من أنّ البحث في هذه المسألة ليس عن وجوب المقدمة ابتداءً لتكون المسألة فقهية ، بل البحث فيها إنّما هو عن ثبوت الملازمة بين الأمر بشيء والأمر بمقدمته وعدم ثبوتها ، ومن الطبيعي أنّ البحث عن هذه الناحية ليس بحثاً فقهياً ولا صلة له بأحوال فعل المكلف وعوارضه بلا واسطة هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ البحث عن ثبوت الملازمة وعدمه في هذه المسألة يعمّ الوجوب والاستحباب فلا اختصاص له بالوجوب. وأمّا تخصيص العلماء محل النزاع بالوجوب فلعلّه لأجل أهميته وإلاّ فعلى القول بالملازمة لا فرق بينه وبين الاستحباب أصلاً.

وأمّا ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ الأحكام الفقهية مجعولة للعناوين الخاصة كالصلاة والصوم والحج والزكاة وما شاكل ذلك ، والمقدمة

__________________

(١) معالم الدين : ٦٢.

١١٢

حيث إنّها تصدق في الخارج على العناوين المتعددة والحقائق المختلفة وليست عنواناً لفعل واحد ، فبطبيعة الحال لم يكن المجعول عليها من الأحكام الفقهية لتكون المسألة فقهية (١).

فخاطئ جداً ، والسبب في ذلك : هو أنّ الضابط في المسائل الفقهية هو أنّها مجعولة للموضوعات والعناوين الخاصة من دون فرق بين كونها منطبقة في الخارج على حقيقة واحدة كالأمثلة المتقدمة ، أو على حقائق متعددة كعنوان النذر والعهد واليمين وإطاعة الوالد والزوج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وما شابه ذلك ، حيث لا شبهة في أنّ الأحكام المجعولة لهذه العناوين من الأحكام الفقهية.

قيل : إنّها من المسائل الكلامية ، بدعوى أنّ البحث عنها بحث عقلي فلا صلة لها بعالم اللفظ أصلاً.

وفيه : أنّ مجرد كون البحث عنها عقلياً لايوجب دخولها في المسائل الكلامية ، ضرورة أنّ المسائل الكلامية وإن كانت عقلية إلاّ أنّ كل مسألة عقلية ليست منها ، بل هي صنف خاص منها وهي المسائل التي يبحث فيها عن أحوال المبدأ والمعاد فحسب ، ورجوع البحث عنها إلى البحث عن أحوالهما وإن كان بمكان من الامكان ، إلاّ أنّه ليس من جهة اختصاص البحث عنها بذلك ، بل من ناحية قابلية المسألة في نفسها لذلك ، وحيث إنّ انعقادها اصولية ممكن هنا فلا موجب لتوهم كونها منها أصلاً.

قيل : إنّها من المبادئ الأحكامية.

ويدفعه : أنّ المبادئ لا تخلو من التصورية والتصديقية ولا ثالث لهما ،

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣١٠.

١١٣

والمبادئ التصورية هي لحاظ ذات الموضوع والمحمول وذاتياتهما في كل علم ، ومن البديهي أنّ البحث عن مسألة مقدمة الواجب لا يرجع إلى ذلك. والمبادئ التصديقية هي المقدمات التي يتوقف عليها تشكيل القياس ، ومنها المسائل الاصولية فانّها مبادئ تصديقية بالاضافة إلى المسائل الفقهية ، لوقوعها في كبرى قياساتها التي تستنتج منها تلك المسائل والأحكام ، ولا نعقل المبادئ الأحكامية في مقابل المبادئ التصورية والتصديقية.

نعم ، قد يكون الحكم موضوعاً فيبحث عن حالاته وآثاره ، إلاّ أنّه في الحقيقة داخل في المبادئ التصديقية وليس شيئاً آخر في مقابلها وهو ظاهر ، كما أنّ تصوره بذاته وذاتياته داخل في المبادئ التصورية. على أنّ البحث في هذه المسألة ليس عن حالات الحكم وآثاره ، بل هو عن إدراك العقل الملازمة بين حكمين شرعيين : النفسي والغيري ، وعدمه.

وعلى هذا الضوء ، فإن أراد القائل بالمبادئ الأحكامية أنّها من المبادئ التصديقية لعلم الفقه ، فيرد عليه : أنّ جميع المسائل الاصولية بشتى أنواعها كذلك ، فلا اختصاص لها بتلك المسألة. وإن أراد أنّها من المبادئ التصديقية لعلم الاصول ، فهو خاطئ جداً ، لما سنشير إليه من أنّ هذه المسألة من المسائل الاصولية التي تقع في طريق الاستنباط بلا توسط مسألة اصولية اخرى.

والصحيح : أنّها من المسائل الاصولية العقلية ، فلنا دعويان : الاولى : أنّها من المسائل الاصولية. الثانية : أنّها من المسائل العقلية.

أمّا الدعوى الاولى : فلما حققناه في أوّل بحث الاصول (١) من أنّ المسائل الاصولية ترتكز على ركيزتين : ١ ـ أن تكون استفادة الأحكام الشرعية من

__________________

(١) في المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٤ ـ ١٠.

١١٤

الأدلة من باب الاستنباط لا من باب التطبيق. ٢ ـ أن يكون وقوعها في طريق الحكم بنفسها من دون حاجة إلى ضم مسألة اصولية اخرى ، وقد تقدّم الكلام حول هاتين الركيزتين بشكل موسع في أوّل بحث الاصول ، وبما أنّ هاتين الركيزتين قد توفرتا في مسألتنا هذه ، فهي من المسائل الاصولية لا محالة.

وأمّا الدعوى الثانية : فلأنّ الحاكم بالملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته إنّما هو العقل ، ولا صلة لها بدلالة اللفظ أبداً.

ومن ذلك يظهر أنّ ما ظهر من صاحب المعالم قدس‌سره من كون هذه المسألة من المسائل اللفظية حيث قد استدلّ على عدم وجوب المقدمة بانتفاء الدلالات الثلاث في غير محلّه ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الاصوليين قد قسّموا الحكم العقلي إلى قسمين : أحدهما : حكم عقلي مستقل وهو التحسين والتقبيح العقليان. وثانيهما : حكم عقلي غير مستقل وهو مباحث الاستلزامات العقلية ، وإنّما سمي الأوّل بالمستقل والثاني بغير المستقل من ناحية أنّ استنتاج الحكم الشرعي من الأوّل لا يتوقف على مقدمة خارجية ، ومن الثاني يتوقف عليها كما فصّلنا الحديث من هذه الناحية في مبحث اجتماع الأمر والنهي ، ومسألتنا هذه من القسم الثاني.

الثالثة : في تقسيمات المقدمة. فقد ذكروا للمقدمة تقسيمات متعددة :

الأوّل : تقسيمها باعتبار دخولها في المأمور به قيداً وتقيداً وعدم دخولها فيه كذلك إلى أصناف ثلاثة :

١ ـ المقدمة الداخلية : وهي أجزاء المأمور به التي هي داخلة في حقيقته تقيداً وقيداً ، فانّ الجزء كما هو بنفسه دخيل في حقيقته ومقوّم لواقعه الموضوعي ، كذلك تقيده بسائر أجزائه ، وهكذا مثلاً القراءة كما أنّها بنفسها دخيلة في حقيقة الصلاة ، كذلك تقيدها بكونها مسبوقة بالتكبيرة وملحوقة بالركوع دخيل فيها.

١١٥

٢ ـ المقدمة الخارجية بالمعنى الأعم ، وقد يطلق عليها المقدمة الداخلية بالمعنى الأعم أيضاً : وهي التي تكون خارجة عن المأمور به قيداً وداخلة فيه تقيداً ، وذلك كشرائط المأمور به مثل طهارة البدن للصلاة ، وطهارة الثوب ، واستقبال القبلة ، والطهارة من الحدث ، وما شاكل ذلك ، فإنّها وإن كانت خارجة عن ذات الصلاة وحقيقتها قيداً ، ولكنها داخلة فيها تقيداً ، يعني أنّ المأمور به هو حصة خاصة من الصلاة ، وهي الصلاة المتقيدة بتلك الشرائط لا مطلقاً ، وإن شئت قلت : إنّ ما تعلق به الأمر إنّما هو نفس أجزاء المأمور به مقيدة بعدة شرائط وقيود وجودية أو عدمية ، وأمّا نفس الشرائط والقيود فهي خارجة عن متعلقه.

ومن هنا يظهر أن ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ الأمر كما ينبسط على الأجزاء كذلك ينبسط على القيود والشرائط فلا فرق بينهما من هذه الناحية (١) خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أبداً ، لما عرفت من أنّ القيود بشتى ألوانها خارجة عن المأمور به والداخل فيه إنّما هو التقيد بها ، فلو كانت داخلة فيه لم يكن فرق بينها وبين الأجزاء أصلاً. مع أنّ الفرق بينهما من الواضحات وإلاّ فما هو الموجب لتسمية هذا بالقيد وذاك بالجزء.

٣ ـ المقدمة الخارجية بالمعنى الأخص : وهي التي غير دخيلة في الواجب لا قيداً ولا تقيداً ، وإنّما يتوقف وجوده في الخارج على وجودها ، كتوقف وجود الصلاة خارجاً على وجود مكان ما ، وتوقف الكون في كربلاء مثلاً على طي المسافة وهكذا.

وبعد ذلك نقول : لا إشكال في دخول الصنف الثاني من تلك الأصناف في محل النزاع ، وكذا الصنف الثالث ، وإنّما الاشكال والكلام في دخول الصنف

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٢٣.

١١٦

الأوّل وعدم دخوله ، الكلام فيه يقع من جهات :

الاولى : في صلاحية الأجزاء للاتصاف بالمقدمية وعدمها.

الثانية : على تقدير صلاحيتها للاتصاف بها هل المقتضي لاتصافها بالوجوب الغيري موجود أم لا؟

الثالثة : على تقدير ثبوت المقتضي له هل هنا مانع عن اتصافها به أم لا؟

أمّا الجهة الاولى : فقد يطلق المقدمة ويراد بها ما يكون وجوده في الخارج غير وجود ذيها بأن يكون فيه وجودان ، أحدهما : للمقدمة ، والآخر : لذي المقدمة ، غاية الأمر أنّ وجود الثاني يتوقف على وجود الاولى. وقد يطلق ويراد بها مطلق ما يتوقف عليه وجود الشيء وإن لم يكن وجوده في الخارج غير وجود ذيه.

أمّا المقدمة بالاطلاق الأوّل فلا تصدق على الأجزاء ، بداهة أنّ وجود الأجزاء في الخارج ليس مغايراً لوجود الكل ، بل وجوده فيه عين وجود أجزائه بالأسر ، فانّها إنّما تغايره إذا لوحظت لا بشرط ، وأمّا إذا لوحظت بشرط شيء فهي عينه ، حيث إنّه هو الأجزاء الملحوظة كذلك ، والسر فيه واضح ، وهو أنّ التركيب بينها اعتباري فلا وجود له خارجاً ما عدا وجود أجزائه فيه. وإن شئت قلت : إنّ في الخارج وجوداً واحداً وذلك الوجود الواحد كما يضاف إلى الكل فيكون وجوداً له ، كذلك يضاف إلى الأجزاء ، وليس فيه وجودان أحدهما مقدمة للآخر.

وأمّا المقدمة بالاطلاق الثاني فتشمل الأجزاء أيضاً ، لوضوح أنّ وجود الكل يتوقف على وجود أجزائه ، وأمّا وجودها فلا يتوقف على وجوده ، وذلك كالواحد بالاضافة إلى الاثنين حيث إنّ وجود الاثنين يتوقف على وجود الواحد دون العكس. وعلى الجملة : فبما أنّ وجود الجزء يتقدم على وجود الكل

١١٧

طبعاً فبطبيعة الحال لا يعقل وجوده بدون وجوده ، دون العكس ، وهذا معنى كونه مقدمة له. فالنتيجة أنّه لا إشكال في صدق المقدمة بالاطلاق الثاني على الأجزاء.

وأمّا الجهة الثانية : فقد أفاد المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في هامش الكفاية (١) ما حاصله : هو أنّه لا مقتضي لاتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري أصلاً ، والسبب في ذلك : هو أنّ ملاك الوجوب الغيري إنّما هو فيما إذا كان وجود المقدمة غير وجود ذيها في الخارج ليقع البحث عن أنّ إيجاب الشارع ذي المقدمة هل يستلزم إيجابه مقدمته تبعاً أم لا ، وأمّا إذا كان وجودها عين وجود ذيها في الخارج كالجزء بالاضافة إلى الكل فلا ملاك لاتصافها به ، لوضوح أنّها واجبة بعين الوجوب المتعلق بالكل وهو الوجوب النفسي ومعه لا مقتضي لاتصافها به ، بل هو لغو محض.

وهذا الذي أفاده قدس‌سره في غاية الصحة والمتانة ، بداهة أنّه لا موضوع لحكم العقل بالملازمة هنا بعد فرض أنّ الأجزاء نفس المركب في الخارج وأحدهما عين الآخر وجوداً ووجوباً ، ومعه كيف يعقل وجود الملاك للوجوب الغيري فيها.

وأمّا الجهة الثالثة : فقد ادّعى صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) وجود المانع عن اتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري على فرض ثبوت المقتضى له ـ وهو لزوم اجتماع المثلين ـ وذلك لأنّ الأجزاء بشرط الاجتماع واجبة بوجوب نفسي ، ومع ذلك لو وجبت بوجوب غيري لزم اجتماع حكمين متماثلين في شيء واحد ، وهو محال حتّى لو قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي في مورد التصادق

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩١.

(٢) كفاية الاصول : ٩٠.

١١٨

والاجتماع ، والسبب فيه هو أنّ القول بالجواز هناك يرتكز على كون الجهتين تقييديتين ، وأمّا إذا كانتا تعليليتين فلا يمكن القول به ، وبما أنّ الجهة فيما نحن فيه تعليلية وهي عنوان المقدمة ولم تكن تقييدية فلا يمكن القول بالاجتماع فيه.

ولنأخذ بالنقد عليه ، بيانه : أنّ ما أفاده قدس‌سره من المانع في فرض ثبوت المقتضي لايصلح أن يكون مانعاً ، والسبب في ذلك هو أن اجتماع الحكمين المذكورين في شيء واحد لا يؤدي إلى اجتماع المثلين ، بل يؤدي إلى اندكاك أحدهما في الآخر فيصيران حكماً واحداً مؤكداً كما هو الحال في كل واجب نفسي يتوقف عليه واجب نفسي آخر ، كصلاة الظهر بالاضافة إلى صلاة العصر حيث إنّها واجبة بحد ذاتها نفساً ، أي سواء أكان هناك واجب آخر أم لا ، وواجبة بالاضافة إلى صلاة العصر غيراً باعتبار توقّفها عليها ، فهي ذات ملاكين ، فإذن بطبيعة الحال يندك أحدهما في الآخر ويتحصل من مجموعهما وجوب واحد أكيد متعلق بها.

وعلى الجملة : ففي كل مورد اجتمع فيه حكمان متماثلان ـ سواء أكانا من نوع واحد أم من نوعين ، وسواء أكان كلاهما معاً إلزاميين أم كان أحدهما إلزامياً دون الآخر ـ يندك أحدهما في الآخر ، ولا يعقل بقاء كل واحد منهما بحدّه ، هذا.

وقد اعترض على ذلك بعض الأعاظم قدس‌سره (١) ، وحاصله : هو أنّ الاندكاك بين الحكمين المتماثلين إنّما يتصور فيما إذا كانا في رتبة واحدة ، وأمّا إذا كان أحدهما في طول الآخر فلم يتصور الاندكاك بينهما ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، وذلك لأن ملاك الوجوب الغيري في طول ملاك الوجوب النفسي. وإن شئت قلت : إنّ الوجوب الغيري متأخر رتبة عن الوجوب النفسي حيث إنّه

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ : ٢٦٨.

١١٩

مترشح عنه ، وعليه فبطبيعة الحال اتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري في رتبة متأخرة عن اتصافها بالوجوب النفسي ، ومعه كيف يعقل حصول الاندكاك بينهما.

ولنأخذ بالنقد عليه : وهو أنّ ما أفاده قدس‌سره مبتن على الخلط بين تقدّم حكم على حكم آخر زماناً ، وبين تقدمه عليه رتبة مع مقارنته له كذلك ، بيانه : أنّ الاندكاك بين الحكمين إنّما لا يتصور فيما إذا كانا مختلفين زماناً ، بأن يكون أحدهما في زمانٍ والآخر في زمانٍ آخر بحيث لا يجتمعان في زمان واحد ، ففي مثل ذلك لا يعقل الاندكاك والتأكد.

وأمّا إذا كانا مقارنين زماناً ومجتمعين فيه ـ وإن كانا مختلفين رتبة ـ فلا مناص من الالتزام بالتأكد والاندكاك ، بداهة أنّه لا أثر لاختلاف الرتب العقلية في الأحكام الشرعية ، لعدم ثبوتها لها ، وإنّما هي ثابتة للموجودات الزمانية. ومثال الاندكاك في التكوين والتشريع موجود.

أمّا في الأوّل : فكما إذا افترضنا وجود ملاكين لاتصاف جسم بالبياض مثلاً وكان أحدهما في طول الآخر رتبة ، كما إذا فرضنا أنّ اتصاف جسم ببياضٍ سبب لايجاد بياض آخر فيه ، فالبياضان عندئذ وإن كانا مختلفين رتبة إلاّ أنّ اتحادهما زمناً يوجب اندكاك أحدهما في الآخر ، ولا يعقل بقاء كل منهما فيه بحده واستقلاله.

وأمّا في الثاني : كما لو نذر الصلاة في المسجد أو الجماعة أو نحو ذلك ، فانّه لا شبهة في أنّ الوجوب الآتي من قبل النذر يندك في الوجوب أو الاستحباب النفسي الثابت لها ، مع أنّه في رتبة متأخرة عنه ، لتأخر ملاكه ـ وهو رجحان متعلقه ـ عن ملاك ذلك ، والسبب فيه ليس إلاّ اجتماعهما في شيء واحد وزمن واحد. ومن هنا ذكرنا في محلّه أنّ الأمر النذري في عرض الأمر النفسي زمناً

١٢٠